الاعتذار أو مغادرة الحزب

 


 

 


boulkea@gmail.com
في تعليقه على المذكرة التي دفعت بها مجموعة من القيادات بالحزب الحاكم لرئيس الجمهورية مُطالبين الحكومة بالتراجع عن القرارات الإقتصادية الأخيرة, قال الأستاذ محمد الحسن الأمين القيادي بنفس الحزب إنَّ أمام تلك القيادات خياران : ( إما الإعتذار أو مغادرة الحزب), وقال كذلك إنَّ حزبه (حزب متماسك ومنظم ومواقفه تخرج بشكل جماعي وحينما يتبنى رأياً يمضي المتفق والمختلف معه).
لستُ هنا بصدد مغالطة الأستاذ الأمين في حديثه حول حزبه المتماسك والمنظم, فلو كان ذلك صحيحاً لما اضطرت تلك المجموعة لمخاطبة الرئيس مباشرة بمذكرتها, وهو ما يعكس إنسداد الأوعية التنظيمية وغياب التداول في القرارات الكبيرة, وهو الأمر الذي أكدَّه الدكتور غازي صلاح الدين أحد الموقعين على المذكرة حين قال : ( أن استحالة الوصول للرئيس وتقديم المبادرات أصبحت هي إحدى أزمات المؤسسية في المؤتمر الوطني).
وهو كذلك ما عبَّر عنهُ صراحة الناطق بإسم فصيل الإصلاح بالمؤتمر الوطني عبد الغني إدريس الذي قال أنَّ (الحزب لم يُعد يُحكم بالقواعد واللوائح والنظم وإنما "بالبندقية" وبواسطة مجموعة مُهيمنة).
ولكنني بصدد مناقشة أمر في غاية الأهميَّة ورد في المذكرة وكان من الأجدى للأستاذ الأمين مُساندته بقوة لأنهُ يرتبطُ بالدور الذي يفترض أن يلعبه البرلمان, وبمصداقيته كعضو فيه وكرئيس لإحدى لجانه. فقد قالت المذكرة أنَّ الحكومة (الجهاز التنفيذي) تجاوزت البرلمان (الجهاز التشريعي والرقابي) و لم تعرض عليه القرارات الإقتصادية وفي ذلك مخالفة للدستور.
قبل الخوض في هذا النقاش يجب توضيح أنَّ البرلمان السوداني (المجلس الوطني), برلمان فريدٌ في نوعه, ووجه تفرُّده يتمثلُ في أنه لا توجدُ به معارضة, فالحزب الحاكم يُسيطر على أكثر من 90% من مقاعده ( 312 مقعداً من مجموع 351 ), بينما حلفاؤه في الحكومة يُسيطرون على بقية المقاعد, ولا يعرف كاتب هذه السطور نائباً برلمانياً مُعارضاً سوى الدكتور إسماعيل حسين عضو المؤتمر الشعبي !!
والحال هكذا فقد تحوَّل البرلمان لفرع للجهاز التنفيذي, يتبارى أعضاؤه في التهليل والتكبير للقرارات الحكومية, و في تمرير القوانين بكل سهولة ويُسر, وفي المرَّات القليلة جداً التي حاولوا فيها إثبات وجودهم, صفعتهم الحكومة فارتدوا على أعقابهم لا يلوون على شىء.
وقد كان الأستاذ الأمين نفسهُ بطلاً لأحد أفلام التراجع المُخجل أمام ضغوط وزراء الحكومة, و في مشاهد عبثية حاول فيها البرلمان لعب الدور المنوط به في إجازة قانون القوات المسلحة الذي نصَّ أحد بنوده على محاكمة المدنيين في محاكم عسكرية.
إستأسد الأستاذ الأمين رئيس لجنة العلاقات الخارجيَّة والدفاع والأمن بالبرلمان, واستحضر كل مخزونه وخبراته القانونية وهو يشرحُ مُبررات قرار لجنته برفض إجازة قانون القوات المسلحة, وقال :
( اللجنة رأت أن لا توسِّع من سُلطات القانون العسكري حتى لا يتم إخضاع المدنيين إلى محاكمات عسكرية مما يتعارض مع القوانين الدولية ومبادئ حقوق الإنسان, كما أنَّ القانون الجنائي الساري حالياً كفيلٌ أن يقوم بالعقوبة على أكمل وجه). إنتهى
غير أنَّ جُرأة الرَّجل, وأسانيدهُ القانونية لم تصمد أمام ضغوط وزير الدفاع لأكثر من 24 ساعة, عاد بعدها الأستاذ الأمين ليدلي بتصريحات ومُبررات تنسف قولهُ أعلاهُ, وذلك بعد أن أجاز البرلمان القانون, فقال :
(إنَّ قانون القوات المسلحة المجاز هو إضافة إيجابية وتدعم القوات المسلحة في أداء واجباتها في مختلف المجالات وتدعم الحفاظ على الأمن القومي, و أنَّ التعديلات التي أدخلت على القانون إقتضتها الممارسة العملية والظروف والتعقيدات التي يمر بها السودان).
سبحان الله !! التعديلات التي قال عنها الأستاذ الأمين بالأمس أنها "تتعارض مع القوانين الدولية ومبادىء حقوق الإنسان", عاد بعد 24 ساعة ليقول أنه " إقتضتها الممارسة العملية والظروف والتعقيدات" !! فتأمَّل.
الحقيقة التي أخفاها الأستاذ الأمين حول تمرير القانون هى ما صرَّح بها زميله النائب في البرلمان عبد الله مسار الذي إتهم وزير الدفاع صراحة ( بممارسة ضغوط علي لجنة الشئون الخارجية والأمن والدفاع لتمرير مشروع القانون في غياب وزير العدل محمد بشارة دوسة ورئيس القضاء).
خضوع المجلس الوطني وإنجراره للحكومة – وهو الأمر الذي ينسف أساس وجوده – يُمكن التدليل عليه بالكثير من الأمثلة, ومنها قضية "سُلطة" منح الجواز الدبلوماسي و التي كانت من إختصاص وزارة الخارجية وصوَّت البرلمان لصالح إعطاءها لوزارة الداخلية, لكنها أرجعت بقرار رئاسي للخارجية رغم الإجازة التي تمت من قبل البرلمان !!
ما يدعو للدهشة والإستغراب في موضوع إنتقاد الأستاذ الأمين لأصحاب المُذكرة هو أنهم دافعوا عن صلاحيات البرلمان في إجازة الإجراءات الإقتصادية, فكان من باب أولى أن يؤيد الأستاذ الأمين هذا المطلب ويُساندهُ بدلاً عن مطالبتهم بالإعتذار أو ترك الحزب.
ولكن الإستغراب يزول عندما يعلن نائب رئيس البرلمان هجو قسم السيد موافقتهم على رفع الدعم عن المحروقات دون الرجوع إليهم ويقول أنهُ  ليست هناك ضرورة سياسية أو قانونية لأن يأتي القرار للبرلمان !
إذاً ما هو دور البرلمان ؟ أليس من الأجدى أن يذهب أعضاؤه إلى إجازة مفتوحة دون مرتب ومخصصات حتى يوفروا على هذا الشعب المطحون هذا البند من الصرف ؟
ومع ذلك فإننا نقرأ تصريحاً لوزير الدولة بالمالية السابق عبد الرحمن ضرار في برنامج حوار إذاعي  يقول فيه بوضوح أنَّ :
( أنَّ الزيادات في الجمارك أو الضرائب ليست فوضى. أنها من صلاحيات البرلمان. إذا زاد وزير الدولة الرسوم أو الضرائب دون الرجوع إلى مجلس الوزراء ثم البرلمان سيصبح مُساءلاً أمام الوزير والرئيس الذي عينهُ). إنتهى
ولكن وزير المالية على محمود صرَّح قبل إجازة رفع الدعم بأنه لا توجد حاجة للرجوع للبرلمان, فمن نصدِّق ؟
الأمر الذي يتحاشى الأستاذ الأمين وصحبه في المؤتمر الوطني مواجهته هو أنَّ عرض القرارات على البرلمان كان سيُحدث شرخاً كبيراً في صفوف حزبهم لأنَّ نواباً كثيرين يرفضون الإجراءات الإقتصادية, والدليل على ذلك هو المذكرة التي وقع عليها العديد من البرلمانيين.
وهذا أمرٌ خطير يُحاول الحزب الحاكم التغطية عليه بزوبعة محاسبة الموقعين على المذكرة, وكان الأجدر بهم أن ينظروا في دلالات تحاشيهم عرض قرارات على برلمان يُسيطرون عليه بنسبة 90% أو أكثر.
إنَّ أكبر دلالات هذه الخطوة هى أنها لم تتخذ بطريقة جماعية كما يدعِّي الأستاذ الأمين, وإنما – كما يقول أصحاب المذكرة – قامت بها فئة محدودة هى التي يُطلق عليها الفئة المُهيمنة, وفي ذلك إشارة إلى أنَّ خلافات حادة يمور بها جسد الحزب الحاكم, وربما تؤدي لإنفجار وشيك.
في إشارة لا تخلو من دلالة حول موضوع هذا المقال, قال الدكتور غازي صلاح الدين في خطابه الذي بعثهُ للجنة التحقيق التي شكلها الحزب لمحاسبة الموقعين على المذكرة يشرحُ فيه أسباب رفضه للمثول امامها أنَّ الثابت لديه أنَّ سيرة رئيس اللجنة ورئيس المجلس الوطني (البرلمان) الأستاذ أحمد إبراهيم الطاهر في العمل العام ( تؤكد عدم حياديته ونهجه المعهود في إمضاء القرارات المتخذة سلفاً).

ولا حول ولا قوة إلا بالله

 

آراء