الانفصاليون الفاشلون في ادارة خارطة التعددية في السودان
MODALMAKKI@HOTMAIL.COM
قمة نيويورك عن السودان التي نظمتها الأمم المتحدة يوم الجمعة الماضي 24 سبتمبر 2010 أكدت مجددا حقيقة كبرى لا تحتاج الى تأكيد منذ سنوات عدة، ، خاصة أنها عقدت في ظل دعم ورعاية أميركية على مستوى الرئيس أوباما ، وبمشاركة دول عدة مهتمة بالشأن السوداني وفي غياب دول أخرى جرى تهميشها في رسالة ذات دلالات وتحتاج لقراءة أيضا لمستقبل علاقات السودان مع الصين وروسيا مثلا فقي ظل قوة الريادة الأميركية.
الحقيقة الملموسة منذ سنوات عدة أن الشأن السوداني الساخن جرى تدويله بارادة حكومية سودانية بعد عام 1989، في ظل فشل في حل المشكلات داخل الوطن ، وفي سياق ضغوط دولية استثمرت ذلك الفشل.
لم تعد شؤون أهل السودان تمثل قضايا تهم حكومة "الانقاذ" وحدها أو الاطراف الأخرى المشاركة في الحكومة من دون تأثير أو دور جوهري فاعل ومؤثر في صناعىة الأحداث أو أحزاب المعارضة ، خاصة أن اتفاقية نيفاشا بين حكومة حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان في عام 2005 تمت تحت ضغوط دولية قوية وباشراف دولي مباشر.
الآن بدا واضحا أكثر من أي وقت مضى أن السودان انتقل الى موقع متقدم في الأستراتيجية الأميركية في ظل رئاسة الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي أكد بقوة من خلال خطابه في قمة السودان في نيويورك أن الوضع السوداني يمثل أولوية لدى ادارته، سواء في ما يتعلق بضرورة الاستفتاء على تقرير مصير جنوب السودان في التاسع من يناير 2010 أو في ما يتصل بأزمة دارفور.
بدا واضحا من خلال تأكيدات أميركية وأخرى صادرة من الأمين العام للأمم المتحدة السيد بان كي مون ومسؤولين غربيين آخرين أن هناك قلقا دوليا من استمرار الحرب في دارفور ، ومن المآسي الانسانية المتواصلة هناك.
لم يعد خافيا في ظل التشديد الأميركي الغربي الدولي على اجراء الاستفتاء بشأن مصير ومستقبل الجنوب السوداني في موعده المقرر وبطريقة شفافة ونزيهة وحرة تحترم ارادة الجنوبيين أن هناك تأييدا ودعما عربيا وافريقيا لاجراء الاستفتاء في موعده.
ولوحظ أن كثيرا من الدوائر في الغرب تنظر في هذا السياق الى العلاقة المترابطة بين الأوضاع الساخنة في دارفور ومسارات الأحداث بشأن ترتيبات الاستفتاء على تقرير مصير جنوب السودان.
هذا معناه أنه ليس أمام الحكومة السودانية سوى طريق الالتزام الدقيق باتخاذ خطوات سريعة متسارعة لتهئية الأجواء أمام اجراء الاستفتاء، بعيدا عن المكايدات السياسية بين "شريكي الحكم" (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان).
هذا يعني أن قمة نيويورك بشأن السودان ليست مجرد قمة للكلام ، لأن واشنطن تبدو حاليا أكثر اهتماما بالوضع السوداني قبل وبعد الاستفتاء، وفي مقدورها اتخاذ خطوات عقابية جديدة ضد الحكومة السودانية في حال عرقلت مسار الاستفتاء أو حاولت الالتفاف على نتيجته.
في هذا الاطار تبدو الحكومة السودانية أمام تحديات كبيرة بشأن دارفور ، ولا يعرف ما هي طبيعة التنازلات الجوهرية الضرورية التي يمكن أن تقدمها للحركات الدارفورية المسلحة ولأهل دارفور في الجولة الأخيرة للمحادثات التي من المقرر ان تشهدها الدوحة في التاسع والعشرين من سبتمبر الحالي (2010)، أي يوم الاربعاء المقبل .
اذا أرادت الحكومة السودانية أن تدخل مرحلة الاستفتاء في الجنوب من دون أن تكون جهودها مشتتة وأوضاعها مهزوزة أكثر مما ستحدثه حتما عملية الاستفتاء من اعادة هيكلة للوضع السوداني كله وليس للوضع الحكومي فلابد أن تقدم تنازلات لأهل السودان في دارفور.
الاستفتاء سيرسم أيا تكن نتيجته مشهدا جديدا في السودان الموحد أو الذي سيلد دولة جديدة كنتيجة طبيعية لتراكمات كثيرة تضخمت واحدثت نزفا في الوجدان الواحد ، وبسبب فشل الحزب الحاكم في جعل الوحدة جاذبة ليس للجنوبيين فحسب بل لشماليين انفصاليين لم يخفوا رؤاهم في هذا الشأن رغم أن روعة السودان في وحدته أي في تعدديته العرقية والثقافية والدينية، ودارفور ليست بعيدة عن سيناريو المفاجآت المتوقعة في السودان في الفترة المقبلة.
هذه الحقيقة لا تلغي حقائق اخرى تؤكد أن الوضع السوداني خلال المائة يوم التي تسبق عملية استفتاء الجنوبيين على تقرير المصير يواجه تحديا أكبر يتمثل في ضرورة الالتزام باجراء الاستفتاء في موعده في أجواء حرة ونزيهة وبعيدة عن الاتهامات والشكوك بالتزوير.
تلك الاتهامات بالتزوير كانت العنوان الأبرز للانتخابات الرئاسية والبرلمانية في السودان، و ساهمت بدورها في ضرب التوافق بين السودانيين في ظل حمى سياسية ركزت على الامساك بكراسي الحكم ، لكنها أغفلت أن ظهر الحاكم يحميه التوافق الوطني على نتائح الانتخابات ولا تحميه القوة العسكرية أو فرض الأمر الواقع في الخرطوم أو دارفور او أي مكان في السودان.
التحدي الأهم الآن كما أرى يكمن في ضرورة حشد الجهود لمنع اندلاع الحرب مرة أخرى بين الشمال والجنوب ، لأنها ستكون أكثر تدميرا، ولأنها ستتسع لتشمل مناطق أخرى في وطن مهدد بالانقسام والتمزق .
أعتقد أن الولايات المتحدة الأميركية تولي هذا الجانب اهتماما ، فالرئيس اوباما ليس عاشقا للدماء كمات كان سلفه الرئيس جورج بوش، وهو يعرف مخاطر الحرب في السودان على المصالح الاميركية في السودان وأفريقيا والمنطقة العربية.
أوباما يسعى لاستكمال سحب قواته العام المقبل 2011 من العراق بعدما تورطت واشنطن في العراق ودفعت ثمنا غاليا من جنودها وامكاناتها، وواشنطن التي تواجه تحديات ما توصف بالحرب على الارهاب ستتدخل حتما في الشأن السوداني بقوة في اذا فشل السودانيون في الانتقال الى مرحلة الاستفتاء بيسر وسلام وفي مناخ التراضي.
هذه هي الرسالة الأميركية كما أرى التي بعث بها واشنطن الى الخرطوم عندما شارك الرئيس اوباما في قمة نيويورك عن السودان، وهذه الرسالة تحتاج الى قراءاة سودانية متأنية في الخرطوم وجوبا، وفي شمال السودان قبل غيره، وخاصة أن تطورات الوضع في السودان يمكن أن تتسبب في انهيار مستقبل التعددية في السودان بعدما تعرضت التعددية الى ضربة كبرى بانقلاب الثلاثين من يونيو 1989، ولا أحد يعرف تأثير الضربة القادمة في التاسع من يناير 2011 عندما يقرر الجنوبيون مصيرهم .
قضية استمرار لوحدة أو انهيارها ليست مسألة "عاطفية " كما تروج لها بعض الأصوات، رغم أن العاطفة النبيلة من سمات السودانيين ، و قضية الساعة تؤشر ضمن حقائق عدة الى فشل كبير في ادارة التعددية في السودان ،كما تشير الى فشل الحكومة الحالية (حكومة الانقاذ) في بناء خارطة توافق وطني على قيم وحقوق وواجبات المواطنة في السودان، استنادا الى مرتكزات دستورية يحرسها قضاء مستقل. أي قفز على هذه الحقيقة هي محاولة لذر الرماد في العيون، أو محاولة لتبرير الفشل من خلال تحميل المسؤولية للتآمر الخارجي ، واذا كانت المؤامرة في عالم اليوم تلبس اشكالا عدة وتتحكم في ايقاعاتها مصالح الدول، فان التآمر في الداخل السوداني على التعددية منذ انقلاب الثلاثين من يونيو 1989 مسؤول عن انهيارات كثيرة في البنيان السوداني، لأن الانقلاب كان انحيازا لرؤية احادية استبدادية ظالمة، وأن سياسات الاقصاء والتهميش التي مارسها "أهل الانقاذ" حتى الآن على كل المستويات مسؤولة عن أي تصدع يصيب اللوحة السودانية التعددية مستقبلا .
برقية: الانفصاليون هم الفاشلون في ادارة خارطة التعددية في السودان
عن صحيفة (الأحداث) 28-9- 2010