الانقلاب كاستفزاز (اكاذيب البرهان وعودة قوش نموذجا) !!
عبدالله مكاوي
12 November, 2022
12 November, 2022
بسم الله الرحمن الرحيم
abdullahaliabdullah1424@gmail.com
انقلاب 25 اكتوبر المشؤوم احدث سلسلة من الاخطاء والجرائم والكوارث، اضافت المزيد من التعقيدات للازمة الوطنية الشاملة. خاصة وقد نجح الانقلاب في نشر الفوضي والانتهاكات والمعاناة الاقتصادية والسيولة الامنية وهتك النسيج الاجتماعي واغلاق الفضاء السياسي امام اجتراح حلول عملية تخلص البلاد من حالة العجز والفشل والتيه ومخاطر التفكك والحروب الاهلية، وتضعها علي طريق التنمية والديمقراطية.
وهو انقلاب من شدة بؤسه وعقمه صار وكأن دوافعه، حقد علي الثورة كحلم مشروع للتغيير، ورغبة في الانتقام من الثوار كمشاعل للتحرر وطموح للتغيير، قبل ان تكون محاولة مستميتة للحصول علي الحصانة من الجرائم وللمحافظة علي مكتسبات الفساد التي راكمها الانقلابيون ما قبل وبعد ثورة ديسمبر. اي الانقلاب في خلاصته مقايضة بين سلامة وامتيازات الانقلابيين وبقاء الدولة وسلامة المواطنين.
اما ما يجعل الاهانة تضاف لجرح الانقلاب فهي الاستفزازات التي درج البرهان علي استمرائها عبر كم مهول من الاكاذيب. فالجنرال البرهان امتهن الكذب وتحراه، حتي كتب عند الثوار وقوي التغيير، ككذاب اشر. ولكن ما يدعو للغيظ ان كذبه من النوعية الاستعباطية الممزوجة بالنزعة العسكرية (خليط من ثقافة ذكورية متطرفة ورغبة طفولية في الاستحواز علي كل شئ). ولمزيد من الارهاب اعتاد ممارسة ذلك وهو محاط بالجنود المسلحين وهتافات الحماس، في مواجهة شعب اعزل وثوار سلميين.
ومؤكد ان الكذب مصدره خداع الذات، اي الاكذوبة الكبري التي يعيش فيها البرهان، وهو يعتقد جازما واهما انه جنرال برتبة فريق اول وقائد فز للدولة السودانية! والاسوأ من ذلك ان تصديق هذه الاكذوبة التي اصبحت جزء من حياته، جعلته لا يفرق بين امكانته الحقيقية وطموحاته الجامحة. وهو ما دفعه لمتابعة الجنرال السيسي حذوك النعل، وبما في ذلك الادعاء الكاذب والفرية الساذجة ان اباه حلم به رئيسا! وإلا لماذا لم يذكر هذا الحلم إلا بعد تسنمه قيادة البلاد بطريقة مريبة من قبل اللجنة الامنية؟!
واذا كان ما سلف يندرج في خانة الاكاذيب اللفظية للجنرال المزيف، فقرارته وتصرفاته علي ارض الواقع لا تقل سوء وضرر عن اكاذيبه التي يدمنها. فقد ظل البرهان وطوال فترة الشراكة يضع العراقيل امام حكومة الفترة الانتقالية، ويمارس التنمر علي قوي الحرية والتغيير، والتآمر مع الفلول وحميدتي وقادة الحركات المسلحة والادارات الاهلية والطرق الصوفية للعمل علي اجهاض الفترة الانتقالية.
اما بعد الانقلاب فقد تكشفت كل اكاذيبه ونزوعه للاستفزاز، بافساح المجال امام عودة الفلول لتسنم وظائف الدولة الحساسة، وابطال قرارات لجنة التمكين بارجاع الاموال والممتلكات المستردة، من حرز الدولة لمصلحة الكيزان، وجعل حضور المؤتمر الوطني في المشهد العام امر واقع وهو الحزب المحلول، وهذا غير توظيف اجهزة العدل والقضاء وغيرها من مؤسسات الدولة، ليس لحماية فساد وجرائم الكيزان فحسب، وانما بالسعي لاعادة اتحادات ومنظمات الفلول من الباب العريض! اما الاسوأ من ذلك فهو التحرش بالثوار واعضاء لجنة التمكين ووضعهم في المعتقلات بتهم ملفقة، كرسالة تهديد للآخرين.
اما الجانب الآخر لاعمال البرهان المستفزة فتعلقت بتكويش الجيش والدعم السريع علي مزيد من القدرات والمؤسسات الاقتصادية. اي ما يعني المزيد من التشوه الهيكلي في بنية الاقتصاد وصعوبة المعالجة! لانه والحال كذلك، مهما توافرت من اموال فمصيرها التسرب الي قنوات مجهولة، بحجة الاسرار العسكرية! والنتيجة المزيد من المعاناة والتردي في حياة ومعيشة المواطنين. وكذلك احكم قبضة الجيش والدعم السريع علي مزيد من المؤسسات والسلطات ذات الطابع المدني (اجهزة العدالة والشرطة والبنك المركزي وهيئة الاتصالات والطيران المدني ..الخ)، حتي يضمن اجهاض التغيير وتحصين الانقلابيين من مجرد المساءلة او الرقابة، ناهيك عن المحاسبة. اي المسألة تعدت التسيس لاجهزة العدالة ومؤسسات الدولة الي استغلالها بجرأة تتلاءم وشبق البرهان السلطوي وتواضع قدرات مستشاريه.
اما ثالثة الاثافي المستفزة، فهي السماح لعودة رموز النظام السابق، بعد هروبهم للخارج، دون محاكمة او اعتراض وذلك بالتواطؤ مع النظام المصري، والاصح بطلب من النظام المصري الذي لا يرد له طلب! والمفارقة ان ربع الاخلاص والطاعة التي يمنحها البرهان للنظام المصري، لو منحت للثورة والثوار، لعبرت الدولة السودانية اخطر مخاضتها لبر الامان!! ولكن للاسف هو ليس رجل المرحلة، كما انه مسبقا لا يملك مواصفات القادة التاريخيين، بل هو بالاحري من القتلة المجرمين الذين تبتلي بهم الدول والشعوب التعيسة.
وصحيح ان الكذب امضي اسلحة الاسلامويين لخداع البسطاء والاستثمار في العاطفة الدينية وتبرير الاخطاء والجرائم والفساد، وباختصار الاستيلاء علي السلطة والبقاء فيها من غير وجه حق. إلا ان كذب البرهان يخلو من فنتازيا وابداع ومنطق دجل الترابي وحذلكة عثمان علي طه ولزوجة مغالطات العتباني وعلي الحاج وامين حسن عمر وحماسة البشير، ولو انه لا يخلو من مكرهم وسوء طويتهم ونزوعهم للتسلط. اي البرهان لا يفتقر لادني امكانات القيادة والاحترافية العسكرية، ولكنه يفتقر ايضا لاجادة الحبكات الكاذبة والالعاب البهلوانية المبهرة. وهو ما جعله يخسر الكثير عند اي ظهور او قول او ممارسة تنسب له. اي اصبح البرهان فاقد للمصداقية وغير جدير بالثقة تماما. وعليه يجب ان تحكم هذه الخلاصة طريقة التعامل مع البرهان مستقبلا، وإلا حاقت بنا الندامة.
وبناء علي اعلاه البرهان غير معني إلا بمصالحه الشخصية، ولكن ذلك لا يمنع ان البرهان مرتبط بالاسلامويين كتربية وتكوين وطريقة عمل، اي كذاكرة ومزاج ونمط سلوك يفرض علي البرهان مسار واسلوب عمل محدد، يبدو انه وفي كل الاحوال يتصالح مع مصالح الاسلامويين. وكذلك يرتبط بمصالح مع حميدتي وقوات الدعم السريع، تفرض عليه تحالف الاخوة الاعداء! اي تحالف بسمات الحذر مخافة طغيان طموح قائد الدعم السريع. اما نقطة القوة التي يملكها البرهان، فهي ترجع الي طريقة عمل المنظومة الاسلاموية التي تركز السلطات والامتيازات لدي نقطة مركزية، لها القدرة علي المنح والمنع. اي هنالك استبطان لتراتبية الاله الرسول الامام، وما ينجم عنها من سلوكيات تتراوح بين الطاعة العمياء التي تعني المكاسب، والعصيان الذي يعني الحرمان. اي المسألة لا تتعلق بكون البرهان يملك الجزرة والعصا، ولكن في تكيُّف المنتمين للجماعة مع هذه المعادلة، الشئ الذي يمنحها الاستقرار والتماسك داخل التشكيلة الانقاذية، مهما قلت قدرات ومهارات واخلاقيات من يشغل هذه النقطة المركزية.
المهم البرهان سمح بدخول ايلا، وعمد علي نشر المزيد من الاكاذيب لتغبيش المشهد، وذلك عبر التظاهر بعدم موافقته، بل وابدي استنكاره لذلك، ولو علي حساب مكانته وسلطته واحترامه، بادعائه ان البلاد ليس بها حكومة، او كما نسب له!
وبذات السيناريو الاستعباطي المستفز، يتم الترتيب لعودة قوش، وهو من هو بكل سجله الاجرامي في حق الضحايا والتخريبي في حق البلاد. ورغم ان هكذا عودة مستفزة للضحايا ومهينة للعدالة، يستحيل اكتمال ترتيباتها من دون اعطاء ضوء اخضر من البرهان شخصيا والضمانة مصريا، إلا ان البرهان كعادته سيدعي العبط، ويعلن عن رفضه واستنكاره لهذه العودة، ناهيك انها ستتم تحت حماية ورعاية وكرنفالات الفلول واجهزة الشرطة والنيابة والقضاء المنوط بها القاء القبض عليه ومحاكمته!
والحال ان الاستعدادات لعودة قوش، تعني بدورها عودة ابتذال الاسلامويين للسياسة، بردها للتعبئة المجانية للبسطاء، بدغدغة مشاعرهم وتضخيم هواجسهم، والتكسب من وراء ذلك، سواء علي مستوي (سماسرة التعبئة) الذين ترصد لهم الاموال المهولة والمتاحة للنهب والتلاعب، او علي مستوي القيادات الكبيرة التي تستهويها الكتلة الجماهيرية الهاتفة باسمها ومسبحة بحمدها، كجزء من ارضاء غرور الزعامة الذي يستوطن قيادات الاسلامويين.
في هذا السياق تنشط في مناطق الشمالية منذ فترة دعوات تستهدف اخراج المجرمين الكيزان ابناء المنطقة من السجون وكذلك استقبال صلاح قوش، وزادت من وتيرة هذه الدعوات المشبوهة، عودة ايلا دون محاسبة، بل واستقبل كالقادة الفاتحين! وهذا بدوره يندرج في خانة الاستهانة بكم الجرائم والفساد والخراب المهول التي اقترفه هؤلاء منذ انقلاب يونيو 89، وكذلك استفزاز الثوار والاستهتار بالثورة والسخرية من تضحياتها الجسام. وهذا ان دل علي شئ فهو يدل علي الجرأة علي الحق، وانعدام الحساسية الذي يسم الكيزان، تجاه الضحايا والمظالم وكم الدمار الذي طال مؤسسات الدولة ومواردها. وهو ما يعني استعدادهم التام لاعادة ذات الممارسات والانتهاكات اذا ما دانت لهم السيطرة الكاملة علي الدولة مرة اخري. اي الكيزان من النوعية التي تقابل الاحسان بالغدر والتسامح بالتآمر ومراعاة المصلحة الخاصة ضد المصلحة العامة. اي بكلمة محددة، الكيزان يفوقون آل البوربون سوءً، لانهم يتعدون عدم الاستفادة من التجربة والاعتذار عن الاخطاء، الي الاصرار علي ارتكاب المزيد من الجرائم وممارسة الفساد، في عزة بالاثم، تليق بغرورهم اللامتناهي واستحقار الآخرين.
والمؤكد ان هذه الدعوات سبقتها مقدمات اثارت الغبار ومداخل عكرت المياه، حتي يسهل تمريرها دون انتباه لردتها. وتمثلت هذه المقدمات في صعود خطاب العنصرية والمناطقية، التي قدحت نارها اتفاقية السلام المجحفة، وزاد من اوارها قادة الحركات المسلحة، بعد مشاركتهم في انقلاب 25 اكتوبر، واستثمارهم في اثارة العداء ضد المركز ومكوناته، بقصد تبرير وجودهم في السلطة والمحافظة علي مكتسباتهم المغتصبة، والاصح المشاركة في نهب موارد الدولة دون مساءلة! المهم هكذا خطاب عدائي انتج ردة فعل عكسية استثمر فيها الكيزان، ككائنات طفيلية تنتعش مصالحها في بيئة الفتن. لتضرب علي وتر القبيلة والمناطقية الحساس، في مجتمع مشبع سلفا بالثقافة القبلية.
والمدخل الآخر لتمرير الدعوات المشبوهة المستفزة، هو حالة الاحتقان السياسي والتردي الاقتصادي، التي يتم تصويرها كحالة قدرية، تحتاج لمخلص، لا يتوافر إلا في رموز الانقاذ الذين تعزف المعازف وتقرع الدفوف وتحشد الحشود لاستقبالهم! كما ان هنالك صيادون فرص من انتهازيين ودجالين وعاطلين، ينشطون في هذه الاجواء لتلميع صورتهم بتصدر مشهد الاستقبال، ظنا منهم ان قوش ما زال يملك من امره شيئا، ويحتكم علي سلطات وموارد تمكنه من قلب الموازين! لانه لو صح ذلك لما سمح له بالقدوم اصلا، او فرطت فيه مصرا مسبقا. وما فات عليهم ان مصدر قوة قوش كان امبراطورية جهاز الامن علي ايام عهده، إلا ان هذه الامبراطورية بميراثها وممتلكاتها وعناصرها تقاسمها الجنرالان البرهان وحميدتي. الشئ الذي احال قوش الي مجرد ضبع هرم، يستجدي الضمانات لمجرد السماح له بالعودة الي بلده!
والحال كذلك، قوش نموذج لمن غرته قوته واستغرقه جبروته وطموحه، حتي ظن انه فرعون زمانه القادر علي كل شئ. وهو ما اباح له ارتكاب كل الموبقات، وبما فيها استجلاب اساليب ووسائل وممارسات اعتقال وتعذيب تتعارض مع اعراف البلاد وتقاليدها، قبل تجافيها مع السوية الانسانية. وعليه تصبح معتقلات بيوت الاشباح وما حدث داخلها من جرائم وانتهاكات يندي لها الجبين، ما هي الا تعبير عن طبيعة ونفسية وسادية الجنرال قوش!
وكل ذلك يستوجب الاستمرار في التذكير بجرائم قوش من خلال سرد تجارب ضحاياه، وتجهيز صحف الاتهام والشروع في فتح بلاغات ضده مجرد وصوله، غض النظر عن الراي في النيابة او القضاء! لان ذلك من جهة هو واجب وطني ومسؤولية اخلاقية وحق للضحايا، ومن جهة يبقي جرائم قوش والنظام حاضرة علي الدوام في الفضاء العام، دون ان يجرفها النسيان او تقادم السنين او ضغوطات الانشغالات الراهنة، مما يجعل الكيزان في حالة دفاع، كما انه يسحب من تحت اقدامهم المشروعية الاخلاقية التي يتشدقون بها، ويظهرهم علي حقيقتهم مجرد مجموعة مجرمين سطو علي السلطة واعلنوا الحرب علي الشعب وشرعو في نهب موارد البلاد.
واخيرا
بقدر ما الكيزان والبرهان وحميدتي وجبريل ومبارك الفاضل واضرابهما من الانقلابيين يثيرون الغثيان، ويخجل الشخص ان يشاركهم جنسية او وطن، بقدر ما الثوار وانصار الثورة والتغيير يشعرونك بالفخر وحرارة الانتماء لهذا الشعب. وفي هذا الاطار تجدني مدفوع للتعبير عن الاحترام والتقدير للاستاذة رشا عوض، وعلي الاخص حوارها علي فضائية سودان بكرة، وما قدمته من طرح موضوعي ينم ليس عن المام بقضايا الراهن وقدرة مبدعة علي طرحها وتفكيك التباساتها وترتيب اولوياتها فقط، ولكن امتلاك البصيرة والوضوح اللذان يؤهلانها للمشاركة من موقع الفعل السياسي المؤثر، للمساهمة في الخروج من ورطة الانقلاب، كارضية مؤسسة للخروج من النفق المظلم. ودمتم في رعاية الله.
abdullahaliabdullah1424@gmail.com
انقلاب 25 اكتوبر المشؤوم احدث سلسلة من الاخطاء والجرائم والكوارث، اضافت المزيد من التعقيدات للازمة الوطنية الشاملة. خاصة وقد نجح الانقلاب في نشر الفوضي والانتهاكات والمعاناة الاقتصادية والسيولة الامنية وهتك النسيج الاجتماعي واغلاق الفضاء السياسي امام اجتراح حلول عملية تخلص البلاد من حالة العجز والفشل والتيه ومخاطر التفكك والحروب الاهلية، وتضعها علي طريق التنمية والديمقراطية.
وهو انقلاب من شدة بؤسه وعقمه صار وكأن دوافعه، حقد علي الثورة كحلم مشروع للتغيير، ورغبة في الانتقام من الثوار كمشاعل للتحرر وطموح للتغيير، قبل ان تكون محاولة مستميتة للحصول علي الحصانة من الجرائم وللمحافظة علي مكتسبات الفساد التي راكمها الانقلابيون ما قبل وبعد ثورة ديسمبر. اي الانقلاب في خلاصته مقايضة بين سلامة وامتيازات الانقلابيين وبقاء الدولة وسلامة المواطنين.
اما ما يجعل الاهانة تضاف لجرح الانقلاب فهي الاستفزازات التي درج البرهان علي استمرائها عبر كم مهول من الاكاذيب. فالجنرال البرهان امتهن الكذب وتحراه، حتي كتب عند الثوار وقوي التغيير، ككذاب اشر. ولكن ما يدعو للغيظ ان كذبه من النوعية الاستعباطية الممزوجة بالنزعة العسكرية (خليط من ثقافة ذكورية متطرفة ورغبة طفولية في الاستحواز علي كل شئ). ولمزيد من الارهاب اعتاد ممارسة ذلك وهو محاط بالجنود المسلحين وهتافات الحماس، في مواجهة شعب اعزل وثوار سلميين.
ومؤكد ان الكذب مصدره خداع الذات، اي الاكذوبة الكبري التي يعيش فيها البرهان، وهو يعتقد جازما واهما انه جنرال برتبة فريق اول وقائد فز للدولة السودانية! والاسوأ من ذلك ان تصديق هذه الاكذوبة التي اصبحت جزء من حياته، جعلته لا يفرق بين امكانته الحقيقية وطموحاته الجامحة. وهو ما دفعه لمتابعة الجنرال السيسي حذوك النعل، وبما في ذلك الادعاء الكاذب والفرية الساذجة ان اباه حلم به رئيسا! وإلا لماذا لم يذكر هذا الحلم إلا بعد تسنمه قيادة البلاد بطريقة مريبة من قبل اللجنة الامنية؟!
واذا كان ما سلف يندرج في خانة الاكاذيب اللفظية للجنرال المزيف، فقرارته وتصرفاته علي ارض الواقع لا تقل سوء وضرر عن اكاذيبه التي يدمنها. فقد ظل البرهان وطوال فترة الشراكة يضع العراقيل امام حكومة الفترة الانتقالية، ويمارس التنمر علي قوي الحرية والتغيير، والتآمر مع الفلول وحميدتي وقادة الحركات المسلحة والادارات الاهلية والطرق الصوفية للعمل علي اجهاض الفترة الانتقالية.
اما بعد الانقلاب فقد تكشفت كل اكاذيبه ونزوعه للاستفزاز، بافساح المجال امام عودة الفلول لتسنم وظائف الدولة الحساسة، وابطال قرارات لجنة التمكين بارجاع الاموال والممتلكات المستردة، من حرز الدولة لمصلحة الكيزان، وجعل حضور المؤتمر الوطني في المشهد العام امر واقع وهو الحزب المحلول، وهذا غير توظيف اجهزة العدل والقضاء وغيرها من مؤسسات الدولة، ليس لحماية فساد وجرائم الكيزان فحسب، وانما بالسعي لاعادة اتحادات ومنظمات الفلول من الباب العريض! اما الاسوأ من ذلك فهو التحرش بالثوار واعضاء لجنة التمكين ووضعهم في المعتقلات بتهم ملفقة، كرسالة تهديد للآخرين.
اما الجانب الآخر لاعمال البرهان المستفزة فتعلقت بتكويش الجيش والدعم السريع علي مزيد من القدرات والمؤسسات الاقتصادية. اي ما يعني المزيد من التشوه الهيكلي في بنية الاقتصاد وصعوبة المعالجة! لانه والحال كذلك، مهما توافرت من اموال فمصيرها التسرب الي قنوات مجهولة، بحجة الاسرار العسكرية! والنتيجة المزيد من المعاناة والتردي في حياة ومعيشة المواطنين. وكذلك احكم قبضة الجيش والدعم السريع علي مزيد من المؤسسات والسلطات ذات الطابع المدني (اجهزة العدالة والشرطة والبنك المركزي وهيئة الاتصالات والطيران المدني ..الخ)، حتي يضمن اجهاض التغيير وتحصين الانقلابيين من مجرد المساءلة او الرقابة، ناهيك عن المحاسبة. اي المسألة تعدت التسيس لاجهزة العدالة ومؤسسات الدولة الي استغلالها بجرأة تتلاءم وشبق البرهان السلطوي وتواضع قدرات مستشاريه.
اما ثالثة الاثافي المستفزة، فهي السماح لعودة رموز النظام السابق، بعد هروبهم للخارج، دون محاكمة او اعتراض وذلك بالتواطؤ مع النظام المصري، والاصح بطلب من النظام المصري الذي لا يرد له طلب! والمفارقة ان ربع الاخلاص والطاعة التي يمنحها البرهان للنظام المصري، لو منحت للثورة والثوار، لعبرت الدولة السودانية اخطر مخاضتها لبر الامان!! ولكن للاسف هو ليس رجل المرحلة، كما انه مسبقا لا يملك مواصفات القادة التاريخيين، بل هو بالاحري من القتلة المجرمين الذين تبتلي بهم الدول والشعوب التعيسة.
وصحيح ان الكذب امضي اسلحة الاسلامويين لخداع البسطاء والاستثمار في العاطفة الدينية وتبرير الاخطاء والجرائم والفساد، وباختصار الاستيلاء علي السلطة والبقاء فيها من غير وجه حق. إلا ان كذب البرهان يخلو من فنتازيا وابداع ومنطق دجل الترابي وحذلكة عثمان علي طه ولزوجة مغالطات العتباني وعلي الحاج وامين حسن عمر وحماسة البشير، ولو انه لا يخلو من مكرهم وسوء طويتهم ونزوعهم للتسلط. اي البرهان لا يفتقر لادني امكانات القيادة والاحترافية العسكرية، ولكنه يفتقر ايضا لاجادة الحبكات الكاذبة والالعاب البهلوانية المبهرة. وهو ما جعله يخسر الكثير عند اي ظهور او قول او ممارسة تنسب له. اي اصبح البرهان فاقد للمصداقية وغير جدير بالثقة تماما. وعليه يجب ان تحكم هذه الخلاصة طريقة التعامل مع البرهان مستقبلا، وإلا حاقت بنا الندامة.
وبناء علي اعلاه البرهان غير معني إلا بمصالحه الشخصية، ولكن ذلك لا يمنع ان البرهان مرتبط بالاسلامويين كتربية وتكوين وطريقة عمل، اي كذاكرة ومزاج ونمط سلوك يفرض علي البرهان مسار واسلوب عمل محدد، يبدو انه وفي كل الاحوال يتصالح مع مصالح الاسلامويين. وكذلك يرتبط بمصالح مع حميدتي وقوات الدعم السريع، تفرض عليه تحالف الاخوة الاعداء! اي تحالف بسمات الحذر مخافة طغيان طموح قائد الدعم السريع. اما نقطة القوة التي يملكها البرهان، فهي ترجع الي طريقة عمل المنظومة الاسلاموية التي تركز السلطات والامتيازات لدي نقطة مركزية، لها القدرة علي المنح والمنع. اي هنالك استبطان لتراتبية الاله الرسول الامام، وما ينجم عنها من سلوكيات تتراوح بين الطاعة العمياء التي تعني المكاسب، والعصيان الذي يعني الحرمان. اي المسألة لا تتعلق بكون البرهان يملك الجزرة والعصا، ولكن في تكيُّف المنتمين للجماعة مع هذه المعادلة، الشئ الذي يمنحها الاستقرار والتماسك داخل التشكيلة الانقاذية، مهما قلت قدرات ومهارات واخلاقيات من يشغل هذه النقطة المركزية.
المهم البرهان سمح بدخول ايلا، وعمد علي نشر المزيد من الاكاذيب لتغبيش المشهد، وذلك عبر التظاهر بعدم موافقته، بل وابدي استنكاره لذلك، ولو علي حساب مكانته وسلطته واحترامه، بادعائه ان البلاد ليس بها حكومة، او كما نسب له!
وبذات السيناريو الاستعباطي المستفز، يتم الترتيب لعودة قوش، وهو من هو بكل سجله الاجرامي في حق الضحايا والتخريبي في حق البلاد. ورغم ان هكذا عودة مستفزة للضحايا ومهينة للعدالة، يستحيل اكتمال ترتيباتها من دون اعطاء ضوء اخضر من البرهان شخصيا والضمانة مصريا، إلا ان البرهان كعادته سيدعي العبط، ويعلن عن رفضه واستنكاره لهذه العودة، ناهيك انها ستتم تحت حماية ورعاية وكرنفالات الفلول واجهزة الشرطة والنيابة والقضاء المنوط بها القاء القبض عليه ومحاكمته!
والحال ان الاستعدادات لعودة قوش، تعني بدورها عودة ابتذال الاسلامويين للسياسة، بردها للتعبئة المجانية للبسطاء، بدغدغة مشاعرهم وتضخيم هواجسهم، والتكسب من وراء ذلك، سواء علي مستوي (سماسرة التعبئة) الذين ترصد لهم الاموال المهولة والمتاحة للنهب والتلاعب، او علي مستوي القيادات الكبيرة التي تستهويها الكتلة الجماهيرية الهاتفة باسمها ومسبحة بحمدها، كجزء من ارضاء غرور الزعامة الذي يستوطن قيادات الاسلامويين.
في هذا السياق تنشط في مناطق الشمالية منذ فترة دعوات تستهدف اخراج المجرمين الكيزان ابناء المنطقة من السجون وكذلك استقبال صلاح قوش، وزادت من وتيرة هذه الدعوات المشبوهة، عودة ايلا دون محاسبة، بل واستقبل كالقادة الفاتحين! وهذا بدوره يندرج في خانة الاستهانة بكم الجرائم والفساد والخراب المهول التي اقترفه هؤلاء منذ انقلاب يونيو 89، وكذلك استفزاز الثوار والاستهتار بالثورة والسخرية من تضحياتها الجسام. وهذا ان دل علي شئ فهو يدل علي الجرأة علي الحق، وانعدام الحساسية الذي يسم الكيزان، تجاه الضحايا والمظالم وكم الدمار الذي طال مؤسسات الدولة ومواردها. وهو ما يعني استعدادهم التام لاعادة ذات الممارسات والانتهاكات اذا ما دانت لهم السيطرة الكاملة علي الدولة مرة اخري. اي الكيزان من النوعية التي تقابل الاحسان بالغدر والتسامح بالتآمر ومراعاة المصلحة الخاصة ضد المصلحة العامة. اي بكلمة محددة، الكيزان يفوقون آل البوربون سوءً، لانهم يتعدون عدم الاستفادة من التجربة والاعتذار عن الاخطاء، الي الاصرار علي ارتكاب المزيد من الجرائم وممارسة الفساد، في عزة بالاثم، تليق بغرورهم اللامتناهي واستحقار الآخرين.
والمؤكد ان هذه الدعوات سبقتها مقدمات اثارت الغبار ومداخل عكرت المياه، حتي يسهل تمريرها دون انتباه لردتها. وتمثلت هذه المقدمات في صعود خطاب العنصرية والمناطقية، التي قدحت نارها اتفاقية السلام المجحفة، وزاد من اوارها قادة الحركات المسلحة، بعد مشاركتهم في انقلاب 25 اكتوبر، واستثمارهم في اثارة العداء ضد المركز ومكوناته، بقصد تبرير وجودهم في السلطة والمحافظة علي مكتسباتهم المغتصبة، والاصح المشاركة في نهب موارد الدولة دون مساءلة! المهم هكذا خطاب عدائي انتج ردة فعل عكسية استثمر فيها الكيزان، ككائنات طفيلية تنتعش مصالحها في بيئة الفتن. لتضرب علي وتر القبيلة والمناطقية الحساس، في مجتمع مشبع سلفا بالثقافة القبلية.
والمدخل الآخر لتمرير الدعوات المشبوهة المستفزة، هو حالة الاحتقان السياسي والتردي الاقتصادي، التي يتم تصويرها كحالة قدرية، تحتاج لمخلص، لا يتوافر إلا في رموز الانقاذ الذين تعزف المعازف وتقرع الدفوف وتحشد الحشود لاستقبالهم! كما ان هنالك صيادون فرص من انتهازيين ودجالين وعاطلين، ينشطون في هذه الاجواء لتلميع صورتهم بتصدر مشهد الاستقبال، ظنا منهم ان قوش ما زال يملك من امره شيئا، ويحتكم علي سلطات وموارد تمكنه من قلب الموازين! لانه لو صح ذلك لما سمح له بالقدوم اصلا، او فرطت فيه مصرا مسبقا. وما فات عليهم ان مصدر قوة قوش كان امبراطورية جهاز الامن علي ايام عهده، إلا ان هذه الامبراطورية بميراثها وممتلكاتها وعناصرها تقاسمها الجنرالان البرهان وحميدتي. الشئ الذي احال قوش الي مجرد ضبع هرم، يستجدي الضمانات لمجرد السماح له بالعودة الي بلده!
والحال كذلك، قوش نموذج لمن غرته قوته واستغرقه جبروته وطموحه، حتي ظن انه فرعون زمانه القادر علي كل شئ. وهو ما اباح له ارتكاب كل الموبقات، وبما فيها استجلاب اساليب ووسائل وممارسات اعتقال وتعذيب تتعارض مع اعراف البلاد وتقاليدها، قبل تجافيها مع السوية الانسانية. وعليه تصبح معتقلات بيوت الاشباح وما حدث داخلها من جرائم وانتهاكات يندي لها الجبين، ما هي الا تعبير عن طبيعة ونفسية وسادية الجنرال قوش!
وكل ذلك يستوجب الاستمرار في التذكير بجرائم قوش من خلال سرد تجارب ضحاياه، وتجهيز صحف الاتهام والشروع في فتح بلاغات ضده مجرد وصوله، غض النظر عن الراي في النيابة او القضاء! لان ذلك من جهة هو واجب وطني ومسؤولية اخلاقية وحق للضحايا، ومن جهة يبقي جرائم قوش والنظام حاضرة علي الدوام في الفضاء العام، دون ان يجرفها النسيان او تقادم السنين او ضغوطات الانشغالات الراهنة، مما يجعل الكيزان في حالة دفاع، كما انه يسحب من تحت اقدامهم المشروعية الاخلاقية التي يتشدقون بها، ويظهرهم علي حقيقتهم مجرد مجموعة مجرمين سطو علي السلطة واعلنوا الحرب علي الشعب وشرعو في نهب موارد البلاد.
واخيرا
بقدر ما الكيزان والبرهان وحميدتي وجبريل ومبارك الفاضل واضرابهما من الانقلابيين يثيرون الغثيان، ويخجل الشخص ان يشاركهم جنسية او وطن، بقدر ما الثوار وانصار الثورة والتغيير يشعرونك بالفخر وحرارة الانتماء لهذا الشعب. وفي هذا الاطار تجدني مدفوع للتعبير عن الاحترام والتقدير للاستاذة رشا عوض، وعلي الاخص حوارها علي فضائية سودان بكرة، وما قدمته من طرح موضوعي ينم ليس عن المام بقضايا الراهن وقدرة مبدعة علي طرحها وتفكيك التباساتها وترتيب اولوياتها فقط، ولكن امتلاك البصيرة والوضوح اللذان يؤهلانها للمشاركة من موقع الفعل السياسي المؤثر، للمساهمة في الخروج من ورطة الانقلاب، كارضية مؤسسة للخروج من النفق المظلم. ودمتم في رعاية الله.