الباستيل واقتحام سجن كوبر : ذكري عايشتها في ثورة اكتوبر المجيدة

 


 

عمر الحويج
23 October, 2024

 

بقلم/ عمر الحويج

حين أعلن الرئيس السابق الراحل ابراهيم عبود قبيل منتصف الليل حل المجلس اصابتنا هستريا الفرح المدهش والمزهل ، قفزنا جرياً ، نحن مجموعة العزاب كل في وجهته من يبحث عن حذاء اي حذاء ، ليس شرطاٌ ان يكون خاصته اشتراه بحر ماله ، ومن يلهث يبحث ما يردتيه على جسده النصف عاري ، سواءاً كان جلباباًِ على مقاسه او مقاس شخص اخر او بنطالاً ، حتي لو كان لمن هو أقصر او أطول منه لا يهم . ولم تمر علينا هذه الهرجلة الهستيريه ، وبعد بضع دقائق وبضع مترات ، حين وجدنا او بالاحرى وجدت نفسي - لأننا مجموعة العزاب ، منذ قطعنا تلك الأمتار ، لم نر بعضنا الا بعد العودة ، حين العودة كان لقائي بهم ، حاراً وعاطفياً وإن شابته قليل سخرية / لأن أحد الساخرين منهم ، قال لي لاداعي لتعليق الجلابية ، فقط أتكيها على الجدار ،تقف لوحدها..!!! -لأن عودتي أتت بعد مخاض ظل يؤرقهم غيابي علي مدى ثلاثة أيام أين أنا ؟؟ لا أحد فيهم يدري ، انها كانت لي بمثابة ثلاثة دهور حسوما . لا عليكم سيأتي ذكرها لاحقاً - ما جرى أننا وجدنا أنفسنا وسط موج هادر من البشر قد أتى في لحظات ، من كل فج عميق ، من حارات الديوم والصحافات وما جاورها ، الأعمى يحمل المكسر والمكسر يكاد يحمله المغمى عليه !! ، وهكذا التحمنا واندغمنا داخل هذا السيل العرمرم من البشر والكل يهتف ما تجود به قريحته و فرحته من انتصار هذا الشعب الأعزل ، على العسكر المدجج بالسلاح والبمبان والمٌدعم بالعصي والسيطان ، وفي بعضها الذخيرة الحية ، هؤلاء العسكر الذين اذاقوا البلاد المر الذي لم تتذوقه من قبل ، حتى أيام الاستعمار ، وإن اكتشفنا أن هناك الأمَّر منه ، فيما أتى بعدها من دكتاتوريات وخاصة أخيرتها .
وكنا فقط نتقدم ونحن في قلب الجموع الهادرة ، ولا أحد يدري إلي أين تسوقه أقدامه ، إن كان ماشياً على قدميه ام طائراٌ محلقاٌ في فضاء أكتاف الأخرين ، كما طيور الراحل العظيم مصطفى سيداحمد (لا ليها خرطة ولا ليها جواز سفر) في هذه اللحظة الطيرانية اكتشفت انني اسير حافياً لا ادري إن كان فقدت حذائي (سفنجتي ) اثناء هذا الطيران أم أنني لم الحظ أنني ربما خرجت لابساً بدون حذإء كما يقول عادل إمام !! .
لا ادري كم من الزمان مشينا ولكنني وجدت نفسي فجأة داخل السجن الرهيب المهيب الذي تعرفت على بعض تاريخه لاحقاً ، حيث أشرف على ادارته بعد تشييده ، الجنرال كوبر ، والذي سمي السجن باسمه ونظرت حولي ، وقدرت أننا بكامل مظاهرتنا داخل باحات كوبر نتجول طلقاء نوواصل هتافنا وضجيجنا السعيد ، نتجول بالقرب من زنازين الشرقيات والغربيات والسرايا وحتى زنازين الاعدام والتي تعرفت على خارطتها من الزيارات المتكررة فيما اتت من سنين في زياراتي المتكررة لها ، ليس كما أنا أحكي الآن أدخله اقتحاماً وليس بأوامر قضائية ، وإنما بأوامر عليا امنية كعادة ما تمارسه الأنظمة الدكتاتورية في الوطن والمواطن المغلوب .
ويبدو أننا ومجموعة ليست بالقليلة لم نضل طريقنا بل عمداً ساقتنا إلى هناك أقدامنا أو بفعل فاعل من أولئك الرفاق أرباب السوابق السياسيه حيث وجدنا انفسنا وجه لوجه مع المعتقلين السياسيين الذين نعرف بعضهم من صورهم في الصحف أو المعرفة الشخصية وآخرين لا نعرفهم واختلطت اصوات حناجرنا بأصوات حناجرهم ، تحية نجاح الثورة ، وحملهم بعضنا على الأعناق يريدون بهم طريق الخروج ، وأسكتونا فجأة وخطبوا فينا أن وقت خروجهم لم يئن بعد وسوف تخرجهم الثورة بقراراتها ، وأمرونا بالخروج فوراًِِِ ، وإلا سنواجه المتاعب ، وقد صدقوا وما أن خرجنا باتجاه البوابة الرئيسة ، وقد خلت ساحة السجن من المتظاهرين ، حتى وجدنا أنفسنا وقد أغلقت دوننا البوابة الكبيرة وفتح فيها بابها الصغير ، وخروجنا كما امرونا أن يكون فردياً ، وبمجرد خروجك يحشرك العسكري في كومرهم المنتظر خارجاً وملأوا بنا كومرين وأصبحنا حشراً محشوراً في زنزانة متحركة ، كتلك التى تاملناها قبل قليل ، وتحركت بنا هذه الكوامر ، ولم نكن ندري إلي اين نحن مساقون ، وبعد مسيرة ليلية طويلة وجدنا أنفسنا ونحن في سجن أم درمان ، حين فتحت بوابته العتيقة وأغلقت علينا ولم تفتح هذه البوابة الا بعد ثلاثة أيام لم يقترب منها أو يدخل عن طريقها بشر بما في البشر من شرطة السجن . ظللنا خلف بوابتها ثلاثة أيام بلياليها دون أكل أو شرب د غير ماه الحنفية ، تلك التي تحتفظ بحرارتها حتى المساء وقد تزيد حتى الصباح التالي . كما افترشنا ما علينا من ملابس ، وتزاحمنا في حمامها الوحيد ، وإن لم نكن في حاجة اليه ، فقط من باب تغيير الأمكنة والترويح عن البطن الجوعى والطشى لا غير .!! .
وفي نهار اليوم الثالث ، فتح باب السجن وخرجنا جماعات جماعات دون ان يودعنا أحد او حتى يردعنا أحد عن الخروج من مسؤولي هذا السجن العتيق ، وفور اطلالتنا على الشارع حتى فوجئنا أن هناك حظر تجول ، عرفنا من أحدهم كان ماراَ صدفة ، فقررنا طائعين ان نشارك شعبنا فرحته وتابعنا تظاهرتنا الصامتة هذه المرة كانت الاولى هادرة ، من الخرطوم جنوب ، ميدان عبد المنعم سابقاً ، مشياً وتحليقاً حتى سجن كوبر. ، وكتب علينا بغير بغير إرادتنا هذه المرة أن نعود بذات الأقدام الحافية أغلبنا من سجن ام درمان حتى الخرطوم جنوب وعلى اية حال كنا شباباً عددنا قليل ، لأقول الآن ، ألا ليت الشباب يعود يوماً أخبره بما فعلته بنا وفينا تلك الثوره العظيمة ، والتي شابهت الثورة الفرنسية في اقتحامها لباستيلها ، وأنتهت بديسمبرها الأعظم في تفوقها على التورة الفرنسية بسلميتها وتطوير شعارات الثورة الفرنسة ، الى حرية سلام وعدالة والثورة خيار الشعب ، وانتصرنا في ثلاث من ثوراتنا العظميات ، وطردنا عسكرها ولازلنا جاهزين لما يطل في فجرنا ظالم .. وليعش سوداننا عالياً بين الأمم .. نتحدى الموت .. نتحدى المحن .
* نشرت هذه الذكرى الفائتة بتاريخ
21 / أكتوبر / 2020م .

omeralhiwaig441@gmail.com

 

 

آراء