البرهان يفاوض الخارج بوهم التطهّر من الكيزان

نزار عثمان السمندل

ها هو المشهد يتكرر: يصحو الجنرال على كاميرا مُحكمة الإضاءة، يوجّه رسالته إلى الخارج لا إلى الداخل، كأنّ الشارع السوداني مجرّد صدى بعيد لا يُخاطَب. يحدّق في عدسة «العربية» و«الحدث» ويعلن بثقة مصطنعة أنّ الكيزان «غير موجودين»، وأنّ «الشعب أسقطهم في ديسمبر». جملة تُشبه بيان تطهير، لكنها تخفي رغبة صريحة في مكافأة سياسية من واشنطن والرياض، أكثر مما تحمل صدقاً مع التاريخ.

الواقع أكثر تعقيداً من هذا الخطاب المقولَب. الحركة الإسلاموية، منذ انقلاب يونيو 1989، لم تبسط نفوذها على الدولة كتنظيم سياسي فحسب، بل كطبقة عميقة غرست جذورها في الجيش والأمن والقضاء والمال والتعليم، حتى صار الاقتراب من مفاصل الدولة أشبه بالدخول إلى نفق محفور بأيدٍ عقائدية. ما سقط في ديسمبر كان واجهة مثقوبة علاها غبار، أما الشبكات فظلّت تعمل في السرّ، تُهاجر من المؤسسات إلى الظلال، وتعود في اللحظة المناسبة بثوب جديد.

حين اندلعت الحرب في 2023، لم تتخلّ الحركة عن تاريخها الطويل في استثمار الفوضى. دخلت مجموعات «الدفاع الشعبي» القديمة إلى الساحة بأسماء لامعة من التراث الإسلاموي الدموي، ووجدت في الجيش جسراً لإعادة إنتاج نفسها: كتائب تقاتل، ومنابر دعائية تُحرّض، وفقهاء سلطان يطلقون الفتاوى ويوزّعون شرعية الدم. بدا المشهد وكأنّ الزمن يعود إلى الوراء، لكن بوحشية أكبر وخطاب يتقن صناعة الضلال.

في الخلفية، كانت محاولة إعادة الكيزان تتخذ شكلاً مدنياً مخاتلاً: «التيار الإسلامي العريض»، «حركة المستقبل»، مبادرات ولجان، جميعها تصدر عن العقل ذاته الذي حكم لثلاثة عقود، لكنها تتخفّى تحت عناوين جديدة كي لا تُسقطها ذاكرة ديسمبر مرة أخرى. وظلّ الهدف واحداً: العودة إلى الحكم عبر المؤسسة العسكرية ذاتها، واستثمار الحرب كجسر جديد للشرعية.

تصريح البرهان اليوم لا يخاطب الخرطوم، بل يخاطب واشنطن والرياض على وجه الخصوص. يريد أن يظهر كرجل دولة يحارب الإسلامويين، لا كرجل تحالفَ معهم حين احتاج إلى ذراعهم المسلحة. يقف على شاشة خليجية ليقدّم نفسه بوصفه «الضامن» لأي مسار سياسي قادم، مُستثمراً المبادرة السعودية ـ الأميركية كمن يُمهّد لإعادة تثبيت سلطته. يريد براءة ذمّة سياسية أمام العالم، بينما يعرف الداخل ـ بالوقائع لا بالشعارات ـ أن الكيزان ما زالوا جزءاً من ماكينة الحرب والقرار.

الحقيقة أن السودان لا يحتاج إلى خطابات فضفاضة تُصاغ لأجل الخارج. يحتاج إلى مواجهة صريحة مع التاريخ: تفكيك شبكات الحركة الإسلاموية، محاسبة منظومتها التي تحتمي بأسماء جديدة، وإعادة بناء الدولة على أساس لا يُدار من غرف الظلال. أمّا إنكار وجودهم، فمحاولة لتزيين الصورة في اللحظة الخطأ، وباللغة الخطأ، لجمهورٍ لا ينتظر الحقيقة، كما يظن الجنرال… بل جمهور يطمئن إلى رواية مُعاد تدويرها.

عن نزار عثمان السمندل

نزار عثمان السمندل

شاهد أيضاً

البرهان يستجدي أميركا ويهددها

نزار عثمان السمندل تبدو رسالة عبد الفتاح البرهان إلى واشنطن، كأنها محاولة لطرق باب قوّة …