أكثر الأحداث إيلاماً في بلاد المهجر ومنافي الشتات وفاة الأصدقاء الأوفياء، ورحيل الأقارب الأعزاء؛ لأن نقصهم لا يعوض بنعيم الدنيا الزائل، وصداقاتهم الشامخة لا تُسرد بدنانير الزمن الجائر. ما بالك، ورحيل عالم فذ، وإنسان نبيل، وصديق وفي؛ لعمري أنه لخبرٌ فاجعٌ، زلزل أركان نفسي، وأدمع عيني، وأدمى فؤادي. لأن رحيلك أيها السيِّد الأنور رحيل إنسان نادر، ورجل نبيل، وصديق رائع، كان صادقاً مع نفسه صدقاً يشبه صدق الأنبياء والمرسلين في تبليغ ما كلِّفوا به، وطاهراً في كفه ولسانه طهر الأولياء والصالحين في ترفعهم عن شوائب الدهر، كما كان أكاديمياً بارعاً، وعالماً منتجاً، في صمت لا تخالجه جلبة ولا ضوضاء، وفي تواضع لا تفسده نواقص الكبرياء وسوالب التفاخر بالعطاء والإنجاز.
الكتابة عن رحيلك أيها السيِّد الأنور مؤلمة ومحزنة حقاً؛ لأن فيها اجترار لسوالف أيام مضت، جمعت بيننا في موطن اغتراب فريد، كانت منصة تأسيسها الانجاز الأكاديمي الراشد والتواصل الاجتماعي اللطيف، وواسطة عقدها حضورك الأنيق في فضاءات جامعة بيرقن بالنرويج في نهاية الألفية الماضية (1989-1999م)، وتواصلك الممتد عندما انتقلت للعمل في جامعة اسبانيا، ثم جامعة الدولة الحرة بجنوب إفريقيا، وأخيراً بجامعة الملك سعود بالمملكة العربية السعودية. كنت حلقة وصل بيننا؛ لأنك جمعت بين الأجيال السابقة والأجيال اللاحقة في تناغمٍ شجي، كما كنت أيقونة من أيقونات برنامج التعاون الأكاديمي الذي نشأ بين جامعة بيرقن وجامعة الخرطوم منذ عام 1965م، والذي أثمر وينعه في حزمة من البرامج الأكاديمية المشتركة بين الجامعتين، وفي تأهيل نخبة من الباحثين السودانيين، الذين تقلدوا وظائفاً مهنيةً وإداريةً مهمةً في السودان وخارجه، ورفدوا المكتبات الأكاديمية بأدبيات رائدات في مجالها، ونذكر منهم: الأستاذ الدكتور عبد الغفار محمد أحمد (أستاذ الانثروبولوجيا بجامعة الخرطوم/جامعة الأحفاد)، والدكتور صلاح الدين الشاذلي إبراهيم (أستاذ الانثروبولوجيا بجامعة الخرطوم)، والدكتور شريف عبد الله حرير (أستاذ الانثروبولوجيا بجامعة الخرطوم، سابقاً)، والأستاذ الدكتور علي التيجاني الماحي (أستاذ الآثار بجامعة الخرطوم، سابقاً)، والدكتور علي صالح كرار (أمين عام دار الوثائق القومية، سابقاً)؛ ومن الأجيال اللاحقة لك أيها السيِّد الأنور، الدكتور جمال الدين الطيب الغزالي (المركز القومي للبحوث، الخرطوم)، والدكتورة آمال عثمان أبو عفان (كلية الأسنان جامعة الخرطوم)، والأستاذ الدكتور عبد الرؤوف عبد الوهاب العتيبـي (عميد كلية الأسنان، جامعة التقانة)، والأستاذ الدكتور حيدر عبد الله هاشم (استشاري طب الأسنان بقطر)، والدكتور مروان حاج إدريس (استشاري طب الإسنان بالنرويج)، والدكتور عمر عبد الله العجيمي (أستاذ الجغرافيا بجامعة الخرطوم)، والأستاذ الدكتور منـزول عبد الله عسل (أستاذ الانثروبولوجيا بجامعة الخرطوم)، والدكتور أيمن بشرى (طبيب استشاري بمستشفى بيرقن التعليمي بالنرويج)، والدكتور محمد بابكر محمد حامد (مركز البيئة والاستشعار من بُعْد، بيرقن). وإلى جانب هذه النماذج الخيرة توجد نخبة نيِّرة من كل هذه الأجيال، آثر بعض أفرادها العمل في النرويج، وحمل بعضهم عصا الترحال إلى دول الشتات الأخرى، وبفضل جهودهم الأكاديمية الرائدة والمهنية الفريدة في مجالات تخصصاتهم المتنوعة، سجلوا أسماءهم بأحرف من نور على صحائف أكاديمية نفيسة.
كلية الآثار والتراث بكريمة تجلى ابداعك الأكاديمي أيها الراحل المقيم عندما كلفتك جامعة وادي النيل آنذاك بتأسيس كلية الآثار والتراث بكريمة، فأجهدت عقلك النير في أن تنشئ داخل الكلية برنامجين بمناهج عبارة للتخصصات، هما الآثار والتراث (الفلكلور)، وذلك استناداً إلى معرفتك الراسخة بأهمية الدراسات البينية في منظومة التعليم والتعلم الحديثة، والتي يرى مُنظروها أن مبدأ التخصص الأكاديمي ليس أكثر من مجرد وعاء تنظيمي؛ لتصنيف المعارف الأكاديمية إلى ميادين علمية متنوعة. وفي مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية لكل مساقٍ منهجه الخاص في دراسة السلوك الإنساني والأفعال البشرية الناتجة عنه، بذلك تُوصف مثل هذه الدراسة بإسهامها الجزئي، مع العلم بأن جزئيات السلوك الإنساني والافعال البشرية المصاحبة له، باختلاف مؤثراتها الخارجية، متصلة مع بعضها، وإن دراستها بهذا الكيف لا تقدم صورة شاملة لاستقصاء الظروف المحيطة بتشكيل السلوك الإنساني والأفعال البشرية المنبثقة عنه. وتجاوزاً لهذا القصور ابتكرت الجامعات المرموقة في العالم برامج أكاديمية ذات مناهج بينية؛ تتقاطع فيها المفاهيم والنظريات والأدوات البحثية، وبذلك تكون المعالجة الجزئية من حيث الزمان والمكان والموضوع أكثر شمولاً وأعمق تحليلاً. هكذا كنت تفكر أيها السيِّد الأنور عندما أسست كلية الآثار والتراث في كريمة عام 1991م، بقسميها الفريدين (الآثار والتراث (الفولكلور)؛ لتكون فنارة للبحث الأثري والتراثي، في واقع جغرافي تحيط به حضارات السودان القديمة في البركل، والكرو، ونوري، ودير الغزالة، وبذلك تستطيع الكلية، حسب وجهة نظرك الثاقبة، أن ترفد سوق العمل بخريجين أكفاء، تستند منابتهم الأبستمولوجية (المعرفية) إلى مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية العبارة للتخصصات، التي تعينهم في إجراء أبحاث علمية رصينة ومتفردة في آن واحد. لكن العمداء الذين خلفوك على المنصب نفسه، أيها الأكاديمي المبدع، لم يستسيغوا هذه التجربة وبعدها الاستراتيجي، وكانت نتيجة هذا الذهول عن مقاصدها، صدور قرار وزاري في نوفمبر 1993م، يقضي بتعديل اسم كلية الآثار والتراث إلى كلية الآداب والدراسات الإنسانية، وبموجب ذلك أعيدت هيكلة أقسام الكلية الموسعة إلى النحو الآتي: قسم الدراسات الإسلامية، وقسم اللغة العربية، وقسم اللغة الإنجليزية، وقسم التاريخ، وقسم الجغرافيا، وقسم المكتبات والمعلومات، وقسم الاجتماع. هكذا تبخرت فكرة الدراسات البينية في خضم المساقات التقليدية العتيقة، الأمر الذي جعلك تنظر إلى التجربة اللاحقة بعين ناقدة، وفي نفسك شيء من حتى.
مركز الدراسات الإفريقية بجنوب إفريقيا بالرغم من هذا العطاء وهذا التفرد، لكن كان جزاءك من جامعة الخرطوم التي انتدبتك لتنفيذ هذا المشروع المهم، أشبه بجزاء سنمار، بدلاً من أن تمنحك وسام الانجاز، آثرت الميل إلى النقيض، حيث انهت عقدك الدائم معها، محتجةً بأن إجازتك البحثية بجامعة بيرقن بالنرويج قد تجاوزت قيدها الزمن المحدود، دون إدراك بفساد هذا الافتراض والإجراءات المترتبة عليه. لكن لم يثنك هذا التقدير المجحف عن مواصلة مسيرتك الإبداعية، فضربت عن سلوك المجحفين صفحاً، وشددت رحالك إلى جامعة اسبانيا، ومنها إلى جامعة الدولة الحرة بجنوب إفريقيا، والتي فحصت بإمعان سيرتكم الذاتية، الغنية بجوائزها العلمية الثماني، ومنشوراتها الأكاديمية المتميزة، وخبراتها الإدارية الناضجة، فعينتك أستاذاً أولاً (Senior Professor)، ومديراً لمركز الدراسات الإفريقية، ولسان المنصفين في جامعة الخرطوم الجريحة يردد أبيات الإمام الشافعي:
والتَّبْرُ كالتُّرْبِ مُلْقًى في أَمَاكِنِهِ *** والعُودُ في أرضه نوعٌ من الحطبِ فإن تغرَّب هذا عزَّ مطلبهُ *** وإنْ تَغَرَّبَ ذَاكَ عَزَّ كالذَّهَبِ ********** وتشهد على عزتك الذهبية في جنوب إفريقيا الاسهامات الأكاديمية التي وثقت لها سيرتك الذاتية العامرة بالعطاء والانجاز، ومن ضمنها المحاضرة الافتتاحية المتفردة التي قدمتها في مركز الدراسات الإفريقية في 4 نوفمبر 2009م، بعنوان: "المعرفة المحلية في إفريقيا: التحديات والآفاق"، حيث عكست فيها طرفاً من كفايتك المعرفية وجدارتك العلمية، وطرفاً من التحديات التي تواجه أنظمة المعرفة المحلية في إفريقيا وآفاق استثمارها بطريقة إيجابياً. وكذلك مشروعك البحثي الفريد "نحو إحياء الإدارة التقليدية للمياه واستخدامها التنموي الأمثل في المناطق شحيحة المياه في جنوب إفريقيا"، والذي يعتبر من المشروعات المبتكرة في مجالها.
الوفاء بالوعد والاعتناء بالعلاقات الإخوانية أذكرك أيها السيِّد الأنور عندما استعرت مني كتاب "السودان الإنجليزي المصري"، ووعدتني بإرجاعه بعد أسبوع، ولكن لظرف ما تأخرت ليوم واحدٍ عن الميعاد المضروب، وفي ذلك اليوم وضعت الكتاب في صندوقي البريدي، وتركت عليه مذكرة اعتذار بتاريخ 13 يناير 1996م، ويقرأ نصها: "الأخ أحمد ... العزيز .. تأسَّفت على نفسي من نفسي لحذقها واحدٍ من أهم مواثيق قطعتها على نفسها، الوفاء بالوعد ... علَّ ما وقع من ضرٍّ غير عسير إصلاحه، أو هكذا آمل أن أجد قشة للنجاة من إثم ما فعلت ... الأمل أيضاً معقودٌ على حلمكم وعفوكم عن هفوتنا، ولا عذر لنا غير النسيان بسبب أكداس ما على كاهلي من عمل، وهذا أيضاً عذر غير مُرضٍ، دعك من أن يكون مقبولاً." حقاً تعجبت من مذكرته وصدق وفائه في حينها، فردد عليه قائلاً: "عزيزي الأنور بن الأنورين ... سحرني بديع بيانك على صفحة قرطاس تركته بين دفتي السودان الإنجليزي المصري، معتذراً عن وفاء وعدٍ ضربته على نفسك، ولم يمهره الطرف الثاني ... لذا فالعذر مقبول، وغاية القبول تكمن في ملامة النفس للنفس، رغماً عن ضيق قاعدة العلة التي يرتكز عليها كنه الاعتذار نفسه." هذا هو السيِّد الأنور الذي فقدناه، وهذا هو الرجل النبيل الذي كان يسدد فواتير وعوده مع الآخرين، دون منٍ ولا أذى. أذكرك أيها السيِّد الأنور عندما كنت تنسج في شبكة من العلاقات الاجتماعية، بمغازل حبك الدافق وتعاونك السخي مع بعض زوار بيرقن الموسمين، أمثال البروفيسور محمد إبراهيم أبوسليم، والبروفيسور محمد سعيد القدال، والبروفيسور حسن أحمد إبراهيم، والأستاذ محمود صالح عثمان صالح. ولقد لمستُ صدق تلك العلاقات عندما نعيتُ إليك صديقنا المشترك الأستاذ محمود صالح عثمان، فكتب إليَّ رداً حزيناً، وبلغة إنجليزية رصينة، ابتدرتها بعباراتك الجامعة لمعاني الحزن والأسى، ولقيم الصبر والوفاء: "إن ذكرى الخير الذي قام به أولئك الذين نحبهم هو عزاؤنا الوحيد عند يرتحلون عنا إلى الدار الآخرة، فمحمود صالح من أولئك الأحباء الأوفياء الذين لا تعبِّر الكلمات عن حزني على رحيلهم، ولكن ستعيش أعمالهم الخيرات في ذاكرتي أبداً الدهر." دعنا أيها السيِّد الأنور نستأنس بعباراتك الجامعة المانعة، ونحن مكلومون بالحزن في أيام رحيلك الأوائل، لنردد ما ذهبت إليه في ذكرى أصدقاء سبقوك بالرحيل إلى الدار الآخرة: إن الكلمات لا تعبر عن مدى حزننا على فقدك الجلل، ورحيلك المُباغت، وانتقالك الفاجع؛ ولكن أعمالك الشامخات وذكريات صداقاتك الوارفة ستكون عزاءنا الوحيد في هذه الدنيا الفانية إلى أن نلتقي بإذن الله في رحاب دار أوسع وأرحم. حقاً، إنَّ رحيلك المفاجئ يذكرني بأنَّ الموت نقّادٌ، على كفه جواهر يختار منها الجياد." فلقد كنت واحداً من تلك الجياد التي فقدناها سيدي الأنور.
وداعاً أيها النبيل عاد السيِّد الأنور إلى مدينة بيرقن التي ألفها وألفته في شتاء هذا العام للمراجعة الطبية الدورية بمستشفى بيرقن، ولكن الأطباء اكتشفوا أن الكُلْيَة التي زُرعت إليه من أخيه أحمد، قد أصابها ورمٌ غير حميد. وبعد ذلك تمَّ نقله إلى مستشفى أوسلو، حيث أجريت له عملية جراحية لاستئصال الورم، وصاحبتها مضاعفات صحية سريعة، أفضت إلى فقدان وعيه إلى أنْ أُعلن خبر وفاته المؤلم في يوم جمعة حزين (3 مارس 2017م) بمدينة أوسلو، حيث حضر الوفاة شقيقه أسامة عثمان عبد الماجد، وصديقه الوفي الدكتور شريف حرير، والأستاذ محمد زين، وآخرون من فضلاء المدينة وبعض أصدقاء الزمن الجميل من مدينة بيرقن. هكذا كانت أيامك الأخيرة أيها السيِّد الأنور مؤلمة لأصدقائك ومعارفك، الذين ودعوك إلى مثواك الأخير ومرقدك الآمن عند عزيز مقتدر، بقلوب ملؤها الحزن والأسى؛ وسلوانا وسلواهم في ذلك سبقك في فعل الخيرات الذي لا يعادله إلا وفائك في صون الصداقات، وترفعك عن النقائص الذي يلامس هامات سعيك في نثر الفضائل؛ لأنك إنسان خُلقت من معدن نفيس، وأسمك يطابق اسم علم كان يُلقب بسيد الأشراف (السيِّد الأنور الإدريسي طيب الله ثراه)؛ فلك منا طلب الرحمة والمغفرة عند الرحمن الرحيم، وعوضنا فيك الصبر وحسن العزاء، فأنت إنسانٌ لا نُعزي فيك، ولكن فيك نُعزى، علماً بأنَّ صفوف الذين يتلقون العزاء فيك طويلة، وصفوف المعزيين أطول. وإنا لله وإنا إليه راجعون.