البروفيسور الطيِّب زين العابدين (1939-2020م): كلمات في ثورة ديسمبر ومالاتها

 


 

 

 

قبل أسابيع مضت جمعتُ مادة مرجعيَّة لكتابة مقالٍ عن البروفيسور الطيِّب زين العابدين؛ لأنني اعتقد أنه كان أنموذجاً للمثقف العُضوي، الذي يُقدِّم مراجعات مفيدة للممارسات السياسية التي لا تتسق مع المنظومة الفكرية التي ينتمي إليها، ويبحث عن المشتركات مع الآخرين الذين يعارضونه في الرأي، ويدعو، جاهداً، النخب السياسية إلى التوافق، الذي يخدم المصالح الوطنية العليا، والدليل على ذلك محاولاته الراتبة في طرح خيار الديمقراطية التوافقية، تعللاً بأنها النظام الأمثل لخلق نوعٍ من الاستقرار السياسي في بلد مثل السودان، يعاني من تعدد الولاءات العرقية، والجهوية، والدينية، والثقافية، وترتفع فيه معدلات الفقر والمرض والجهل، وتتدنى مناسيب الأداء السياسي-الديمقراطي. كنت أمني النفس أن يطلع الطيِّب على هذا المقال، ثم يقرأه الآخرون من بعده، ولكن "مَا كلُّ ما يَتَمَنّى المَرْءُ يُدْرِكُهُ ***تجرِي الرّياحُ بمَا لا تَشتَهي السّفُنُ". ففي يوم الخميس الموافق 14 مايو 2020م، أرسل ليَّ أحد الأصدقاء والعارفين بأفضال الطيِّب طيَّب الله ثراه رسالة الإلكترونية من ماليزيا، بأنَّ صديقنا المشترك قد انتقل إلى الدار الآخرة بالخرطوم، حقاً حزنتُ لنبأ وفاة الطيِّب حزناً شديداً في ظل ظروف جائحة الفيروس التاجي (كورونا) البائسة؛ ولكنني تثبتُ بأن "لكل أجل كتاب"، و"كلّ ابن انثى وإن طالت سلامته*** يوماً على آلة حدباء محمول". 

وعندها سألت نفسي، هل أُحوِّل فكرة المقال إلى رثاء عن الطيِّب؟ أما اكتفى بقراءة ما سيكتبه عنه طلبته الراسخون في العلم وأصدقاؤه الأقربين، أمثال الأساتذة الأجلاء عبد الله علي إبراهيم، والتيجاني عبد القادر حامد، ورباح الصادق المهدي، ومحمد محجوب هارون، وكمال الجزولي، وخالد التيجاني النور، وعبد الوهاب الأفندي. لعمري قرأتُ كلمات بعضٍ منهم، وشعرتُ بأن قيمة المقال الذي سأنجزه في رثاء الطيِّب سيكون أقصر قامة من إسهامات هؤلاء الأفاضل. ومن ثم آثرت أن أكتب مقالاً يضع الطيِّب في دائرة أدبيات ثورة ديسمبر 2018م، التي دعمها بقوة؛ لأنه كان يؤمن بأن شعارها الثلاثي القائم على الحرية والسلام والعدالة؛ يصب في عمق القضايا التي ظل يكتب عنها بكفاية عالية وجرأة منقطعة النظير طيلة عقود الإنقاذ الثلاثة. إلا أنه توقف عن الكتابة في الشهرين الأولين للثورة؛ وفي ذلك يقول: "أجبرتني ظروف العلاج أن أكون في مدينة برايتون البريطانية مع بناتي وأحفادي؛ ولكني تمكنتُ من متابعة أحداث السودان من عدة مصادر ساعة بعد ساعة". وعندما شعر الطيِّب بتحسن وضعه الصحي عاد إلى عالم الكلمة المكتوبة والثورة في عنفوان مجدها، فكتب ونشر ستة عشر مقالاً في صحيفة سودانايل الإلكترونية في الفترة 16 فبرير 2019 إلى 2 يناير 2020م، فكانت من أكثر المقالات المقروءة على الإطلاق؛ إذ بلغ متوسط قُرائها الألفي قارئ. فكانت المقالة الأولى منها بعنوان "النُصح بمُنعرج اللّوى لعلهم يستبينوه ضحى الغد"، والأخيرة بعنوان "دعوة للتعايش الحسن بين أهل السودان". وتشكلت بين هذين العنوانين نظرات الطيِّب الفاحصة تجاه مسارات الثورة، وتحدياتها، وآمالها المنشودة، والتي يمكن أن نجملها في المحاور الآتية:

المحور الأول: الاقتناع بفاسد نظام الإنقاذ وضرورة تغييره
تنطلق قناعة الطيِّب بفساد نظام الإنقاذ وضرورة تغييره من قوله: "بما أني منحاز للديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان، فموقفي ثابت ضد الحكم العسكري، أيا كانت عناصره وأيديولوجيته، ومواقفه السياسية"، وإنَّ تجربة الإنقاذ من وجهة نظره هي "الأسوأ" في تاريخ السودان؛ "لأنها فصلت جنوب السودان"، وقننت "لانتشار الفساد حتى وضعت منظمة الشفافية العالمية السودان في مؤخرة خمسة دول في العالم، ولا يبدو أن الرئيس البشير يرفض انتشار الفساد في الدولة فقد اعترض على قانون محاربة الفساد الذي أجيز في 2016؛ لأنه لم يمنح حصانة للدستوريين". ثم يمضي الطيِّب ويقول: "وفي عهد البشير تآكلت وتدهورت كل مشروعات السودان الكبرى: الخدمة المدنية، والتعليم، والصحة المجانية، ومشروع الجزيرة، والسكة الحديد، والخطوط الجوية السودانية، والخطوط البحرية، بل وفشلت حكومة البشير حتى في جمع النفايات من أطراف العاصمة القومية". وبناءً على ذلك يرى الطيِّب أن خطاب الرئيس البشير في 22 فبراير 2019 "لم يقدم شيئًا يذكر للمحتجين من الشباب، الذين اعترف بمشروعية مطالبهم، وما ذكره من حكومة كفاءات وطنية لا يعدو أن يكون ذرًا للرماد في العيون"، وكذلك وصف الدعوة لإحياء الحوار الوطني بأنها "دعوة مراكبية"؛ لا تحدد موعدًا، ولا أجندة، ولا منهجية، ولا صفات المدعوين". وأسس رفضه لكل أطروحات النظام الإصلاحية بموقفه الثابت "أن البشير لا يريد الحرية، ولا الديمقراطية، ولا محاربة الفساد، ولا التداول السلمي للسلطة، مهما قال بغير ذلك." وعند هذا المنعطف طرح الطيِّب سؤالاً جوهريًا: "لماذا يتحمل الجيش السوداني اليوم فشل حكومة البشير على مدى ثلاثين عامًا؟ ولا يملك البشير شرعية سياسية يستحق بها الدفاع عن نظامه، فانه تسلم السلطة عبر انقلاب عسكري في 1989، ولم يواجه منافسة حقيقية في كل الانتخابات التي عُقدت في 1996، وفي 2000، وفي 2010، وفي 2015، والأخيرة قاطعتها كل الأحزاب التي كان لها تمثيل في البرلمانات السابقة. والآن تؤكد احتجاجات الشارع الشبابية بأن البشير لا يمتلك تأييدًا شعبيًا يستند إليه، وأن حزبه (العملاق) تمخض عن فأرٍ لا حول له ولا قوة، فلم يستطع إخراج مظاهرة واحدة في طول البلاد وعرضها يرد بها على احتجاجات الشباب. ولعل ذلك ما دفعه لأن ينوي الخروج من حظيرة الحزب، ولكن تدخل من تدخل، وسالت دموع الكثيرين من رجال الحزب خوفاً على ضياع حظوظهم ومخصصاتهم التي يأخذونها دون وجه حق من موارد الدولة اليتيمة." ولذلك أرسل الطيِّب رسالةً قويةً إلى قيادة الجيش بعد موكب 6 أبريل 2019م، وعبر مقاله الموسوم بـ "لا خيار للجيش إلا الانحياز للشعب"، قائلاً: "ونقول لقيادة الجيش بكل التواضع إننا لا نرى خيارًا جريئًا وشجاعًا يليق بكرامة الجيش السوداني الذي ما زال متماسكًا ومتوحدًا إلا الانحياز إلى الشعب، وجماهير الشباب التي تحيط بحرم قيادته، وأن تقول قيادة الجيش العليا للبشير كلمات واضحات لا لبس فيها: إن الشعب السوداني الطيِّب والمتسامح الذي صبر طويلاً على سوء إدارتك وفسادها يقول لك الآن أرحل، ونحن بصفتنا أبناء هذا الشعب وحماته، نقول لك حان الوقت لتستجيب لمطالب الأمة اليوم قبل الغد، وهذا هو الحل الأمثل للبلد، ولنا، وللشباب المحتج، ولك يا سيادة الرئيس." هكذا وصل الطيِّب إلى قناعة مؤداها أن تغيير نظام الإنقاذ قد أضحى ضرورة مهمة، مهما كان الثمن وكانت التضحيات.

المحور الثاني: حماة التغيير وآفاقه
يرى الطيِّب أن الشباب (إناثاً وذكوراً) هم حماة التغيير ودعاته باختلاف مشاربهم الفكرية والسياسية، لأنهم استطاعوا أن يفجروا "ثورة سياسية سلمية غير مسبوقة في تاريخ السودان، بل في تاريخ إفريقيا والعالم العربي". ثم يسأل الطيِّب سؤالاً: "ما الميزات التي توفرت لهذا الشباب، حتى يقتلع نظامًا قمعيًا من الدرجة الأولى، تجذر في كل مجالات الحياة لمدة ثلاثين عامًا، حتى ظن أهله أنهم باقون في السلطة لعمرهم وعمر أبنائهم؟" ويجيب عن هذا السؤال قائلاً "الميزة الأولى الإيمان بالقضية المحورية التي هي إسقاط النظام، إيمانًا لا يتزعزع مهما كانت التضحيات؛ والميزة الثانية هي الوحدة العمرية والثقافية، التي حملت حماسة الشباب ومثاليتهم ورفضهم القهر والاستكبار عليهم؛ والميزة الثالثة هي اختيارهم لقيادة [يقصد تجمع المهنيين السودانيين] تشبههم عمرًا وثقافة وحماسة، لم يسبق لها أن دنست الحياة السياسية؛ والميزة الرابعة هي الانضباط التام في الالتزام بتوجيهات القيادة التي لا يعرفونها، فهي ليست المهدي ولا الأزهري، لكنه الارتباط المعنوي المتين خلف هدف نبيل أجمع عليه الناس دون أن يفلحوا في تحقيقه." ولا يربط الطيِّب التغيير الذي تنشده الفئة الشبابية بالنظام الحاكم ومؤسساته الرديفة فحسب؛ بل يرى أنَّ المجتمع قد ورث من الانقاذ صفات ضعف "لا تخفى على أحد: عدم الحرص على أداء الواجب، والمحسوبية والعشائرية في التعيين والترقي وتقديم الخدمات الرسمية، وتفشي الرشوة في أجهزة الدولة، وتضييع الوقت دون عمل مفيد، وعدم الالتزام بحكم القانون واتباع النظام، وعدم اتقان العمل وتجويده، والمبالغة في تقدير الأمور وتهويل الأشياء بأكثر من حقيقتها، والبذخ والإسراف في المناسبات الاجتماعية، وعدم الادخار والاعتماد على رزق اليوم باليوم، وتفشي الكذب وإخلاف المواعيد وعدم الوفاء بالوعود، وعدم الاهتمام بنظافة البيئة ... وهكذا عادات كثيرة ضارة لا تشجع على العمل، ولا على الإنتاج، ولا على التجويد والابتكار، فكيف لأمة مثل هذه أن تنهض وتتقدم الأمم؟" ولذلك يلفت الطيِّب انتباه شباب الثورة إلى "الأزمة المجتمعية في الحياة السودانية"، والتي يُعدَّها "أكبر معوق للتقدم والنماء، ولا بد للعقلية التي ترعرعت فيها تلك الصفات الضارة أن تتغير بأخرى تحترم الوقت، والعمل، والنظام، والإنتاج، والادخار، والاستثمار، ونظافة البيئة." وتغيير مثل هذه الصفات الضارة من وجهة نظره يحتاج إلى قدوة حسنة، ... وشباب الثورة خير من يقدم هذه القدوة الحسنة للمجتمع السوداني، بعد أن فعلها في اقتلاع سلطة الاستبداد والفساد. سيكون هدراً كارثيًا لطاقة الشباب الفاعلة القوية أن يذهب هؤلاء الشباب يسترخون في بيوتهم، كما كانوا يفعلون قبل ثورة التاسع عشر من ديسمبر الماضي، وكأنهم لم يزلزلوا أركان الأرض بثورتهم السياسية الظافرة. والفرصة مواتية الآن أكثر من أي يوم مضى في احداث ثورة مجتمعية تغير وجه السودان تمامًا لعقود قادمات. وفي هذا المقام أقدم مقترحًا متواضعًا للشباب في استغلال طاقاتهم وتجربتهم لاستكمال صناعة الثورة في السودان، ولن يكون هو المقترح الوحيد فالكل مدعوون للمشاركة بآرائهم ومقترحاتهم في هذا المجال الحيوي لرفعة السودان وعلو شأنه بين الأمم". ولذلك يصنِّف الطيِّب الشباب بالقوى الأولى "في الساحة السياسية السودانية اليوم"، وتليها "قيادات إعلان الحرية والتغيير، التي يقودها تجمع المهنيين السودانيين، الذي قبل عن قناعة مبكرة بالعمل لتحقيق الأهداف التي يريدها الشباب، والقوى الثالثة هي قوى الجيش السوداني التي تتمثل حاليًا في المجلس العسكري، وذلك لرمزية المؤسسة العسكرية في الدفاع عن البلد وحماية المواطنين، ولأن قيادته انحازت في اللحظات الأخيرة إلى معسكر الثورة بعد أن طلب منها الرئيس المخلوع أن تفعل ما لا يمكن القيام به في قلب الخرطوم، فإن فعلت كانت سبة الدهر للجيش السوداني ذو الماضي العريق. فقيادة الجيش ليست أصيلة في طلب تغيير النظام، ولكنها أعانت عليه بجرأة تحمد لها."

المحور الثالث: التغيير وحكومة الكفاءات
كان الطيِّب حريصاً أن تسعى هذه القوى الثلاث المشار إليها "إلى تغيير المفاهيم والسلوك داخل التنظيمات السياسية التي خذلت الشعب السوداني في الفترات الديمقراطية الثلاث، التي كان أكبر همها توزيع المقاعد الوزارية بين الأحزاب المؤتلفة في الحكومة، والتي تستغرق شهورًا." وأن تسند أدوات التغيير من وجهة نظره إلى حكومة كفاءات وطنية، بدلاً من "الدخول في محاصصة حزبية، أو جهوية [تقودنا إلى] طريق لا نهاية له، فهو مثل الورم السرطاني يتمدد يومًا بعد آخر، سيطلب حزب نصيبًا أكثر في الحكومة؛ لأنه أكبر من الحزب الآخر، وستطالب الحركات المسلحة بنصيب كبير في الحكومة يساوي تضحياتها الجسيمة في مقاومة النظام السابق، وستأتي أحزاب أخرى تطالب حتى ولو لم يكن لها أي دور في المعارضة، بل ربما تأتي أحزاب كانت حليفة للنظام تطلب حقها في كعكة السلطة، خاصة إن كانت لها جهوية أو قبلية تؤخذ في الاعتبار! وما فيش حد أحسن من حد في هذا السودان العريض!" ويحث الطيِّب الحكومة التي لم تشكل آنذاك "بتجويد العمل مهما كان صغيرًا، خاصة في مجالات الزراعة، والصناعة، وتقديم الخدمات؛ لأنها الأساس الذي يحدد الناتج المحلي الإجمالي لموارد الدولة. إن الأمم لا تنهض بأداء الحكومات فقط، بل بمجموع انتاج المجتمع في مجالات الحياة المختلفة". ثم يمضي الطيِّب ويقول: "ينبغي أن تكون هذه الثورة الشبابية العظيمة هي بداية الانطلاق لثورة أشمل، تطال كل السلوكيات المتخلفة في مجتمعنا، وأن تهتم الحكومة القادمة بتهيئة المناخ لهذا المفهوم الشامل للثورة، وأرى أن يتشكل هؤلاء الشباب غير المنتمين للأحزاب في منظمات طوعية عديدة تعمل لمحاربة العادات الضارة والمتخلفة في مجالات الحياة المتنوعة، وأن تعينهم الدولة على ذلك بشتى الطرق. هذه فرصة عظيمة للسودان ليتخلص من كافة السلوكيات التي تقعد به عن التقدم والنهضة."

المحور الثالث: التوافق السياسي والتعايش الحسن
يقول الطيِّب: "أسعدني أن قبلت قيادة التغيير منح ثلث مقاعد المجلس التشريعي للقوى السياسية الأخرى غير الموقعة على إعلان الحرية والتغيير، مما يدل على انفتاح أكثر مع الآخرين، وهو أمر مطلوب ومفيد. وطبيعة السياسة التوافقية في كل مجتمع أن تأخذ بسنة الأخذ والعطاء بين الأطراف المختلفة حتى تصل إلى مرحلة وسطى يتوافق عليها الناس ويقدمون على تنفيذ ما تم الاتفاق عليه بسلاسة ورضى. والمرحلة الفاصلة التي نعيشها اليوم في تاريخ الثورة السودانية تحتاج إلى توافق واسع، حتى تحقق الثورة أهدافها الكبرى المعلنة، فقوى الحرية والتغيير ليست الوحيدة في الساحة السودانية، ولن تستطيع أن تفرض كل مطلوباتها على جميع القوى الأخرى، بما فيها المجلس العسكري، والقوى السياسية التقليدية (المتحالفة مع النظام أو غير المتحالفة)، والحركات المسلحة، والجماعات الدينية والثقافية والاجتماعية وغيرها. فالقوة المطلقة هي صفة ربانية يمتلكها العليم القدير وحده، ولا تتاح لبشر مهما جمع من أسبابها." وقد أسس الطيِّب هذه النظرة التوافقية على مخرجات التجارب الانتقالية السابقة التي أفسدتها، من وجهة نظره، المحاصصات السياسية غير الرشيدة. ولذلك يقول بعد ثورة أبريل 1985م "دعوت الأستاذ محمد إبراهيم نقد لحوار مطول بمنزلي أثناء انتخابات 1986م، فاستجاب الرجل مشكورًا رغم انشغاله بالحملة في دائرته الانتخابية (العمارات). قلت له إن هذه الديمقراطية الوليدة لن تستمر طويلًا، وأن الخطر يأتيها منكم ومنا، أي من اليساريين والإسلاميين، ولدرء ذلك الخطر نحتاج لكتابة ميثاق شرف مشترك بيننا حول بعض القضايا السياسية الهامة والحساسة نلتزم به معًا. وأفهمته أن هذه مبادرة شخصية مني، لكني يمكن أن أسوقها لقيادة الجبهة الإسلامية القومية إذا وصلنا لتفاهم مشترك حول القضايا التي اقترحها. انطباعي عن ذلك الحوار الذي دام ثلاث ساعات أن نُقد استبعد نجاح الفكرة؛ لكنه لم يرفضها بل قال لي: إنه سيكلف شخصًا يواصل معي الحوار حول الموضوع؛ لأنه مشغول جدًا في مسألة الانتخابات. عرفت فيما بعد أنه رشَّح الخاتم عدلان، ولم يرق لي الاختيار؛ لأن الخاتم في ذلك الوقت كان طالبًا في الجامعة بالسنة النهائية، وكنت أستاذًا بها، وظننت أن مثل هذا الحوار لا ينبغي أن يجري بين أستاذ وطالبه، لكني عرفت بعد سنوات طويلة قدرات الخاتم الفكرية والسياسية، ومكانته في الحزب، وذلك بعد أن وقع الفأس على الرأس، وحدث المقدور الذي كنت أخشاه من الإسلاميين أنفسهم." وهنا يبرز رأي الطيِّب الملتزم بضرورة المراجعات الفكرية والسياسية داخل أروقة الأحزاب، ثم البحث عن المشتركات التي تجمع بينها في القضايا الوطنية الكبرى. ويقود هذا المقترح الوقائي الطيِّب إلى استنتاج مفاده "أنَّ الديمقراطية الوليدة التي لا تدعمها ثقافة تعددية، ولا ممارسة راسخة، ولا توافق واسع في قضايا الحكم ومشكلاته، ولا مال وفير يكفي حاجيات البلاد الأساسية، تصبح في مهب الريح في حالة الاستقطاب والاضطراب والمخاشنة السياسية."

خاتمة
تقدم لنا خلاصة هذه الاقتباسات من مقالات البروفيسور الطيِّب زين العابدين التي نشرها في صحيفة سودانايل الإلكترونية- أثناء فترة الحراك الثوري، وبعد سقوط رأس النظام وبعض رموزه، وتشكيل الحكومة الانتقالية- إشارات ضوئية كاشفة بأن نجاح الفترة الانتقالية مرهون بالعناصر الآتية:
أولًا: ضرورة تهيئة المناخ السياسي الضمان لتأمين الانتقال السلس إلى الديمقراطية. ولا يتحقق ذلك، إلا "بمراجعات كبرى"، كما يسميها الدكتور كمال عبد اللطيف، تشمل كل أطراف المعادلة السياسيَّة، بهدف التأسيس لقواعد جديدة لإدارة الحراك السياسي ودينامياته المحلية، بعيداً عن الممارسات السابقة التي قدمت المصالح الأيديولوجية المغلقة على مصالح الوطن والمواطن. وتأتي في مقدمة تلك المراجعات مراجعة الثنائيات التي أفسدت الحياة السياسيَّة في السُّودان منذ الاستقلال، مثل ثنائية الحداثة والتقليد، والختمية والأنصار، والشيوعيين والإسلاميين، والشريعة الإسلامية والعلمانية. فالثورات الكبرى عموما تقوم على المراجعات، ولا مفر من مراجعات كبرى في السودان على مستويين رئيسيين. وتأتي في المستوى الأول الأحزاب السياسيَّة التي يجب أن تقدم نقداً ذاتياً صادقاً ومراجعات موضوعية لمنطلقاتها الفكرية وبرامجها السياسية وتراكيبها البنيوية، بهدف ترسيخ الالتزام بقيم الممارسة الديمقراطية في إدارة صراعاتها الداخلية، وفي وضع معايير أخلاقية ضابطة للأولويات الوطنية العليا، تمكنها من تقديم المصلحة العامَّة على مصالحها الحزبية الضيقة. وتأتي في المستوى الثاني المراجعات الأفقية التي تثقف علاقات الأحزاب مع بعضها بعضًا في إطار تدافعٍ سياسي مشروعٍ، يؤسس لتوافقٍ مستدامٍ في حل القضايا الوطنية الكبرى.
ثانيًا: لابد من إيجاد آليات لتعزيز الوحدة الوطنية والاتفاق في القضايا الوطنية الكبرى بالانفتاح على كافة شرائح المجتمع السوداني وقواه الحية، بعيدًا عن الإسقاطات السياسيَّة المؤدلجة، لتنخرط في وضع الاستراتيجيات والسياسات التي تحقق غايات الثورة، وتضمن الانتقال إلى نظام ديمقراطي راسخ ومستقر. ولا ينبغي للتوافق الوطني أن يكون حصرًا على المساومات والاتفاقات بين الأحزاب والقوى السياسية كما جرت العادة في العهود السابقة، بل يجب تعزيز مشاركة كافة القوى الحية في المجتمع، لاسيما تلك التي صنعت الثورة، مثل تيارات الشباب، ومنظمات المجتمع المدني، وكافة الفعاليات المؤثرة في أقاليم البلاد في وضع الاستراتيجيات ورسم السياسات التي تخاطب القضايا المفصلية. وهناك العديد من القضايا التي يجب أن تدار في حوارات واسعة وصولًا لاستراتيجيات وطنية شاملة لمخاطبتها، ومن أهم هذه القضايا الأزمة البنيوية للدولة السُّودانية الحديثة، والتي ارتبطت ابتداءً بنشأتها في كنف سلطة استعمارية متسلطة، وتعمقت خلال فترات الحكم الوطني بسبب سوء السياسات أو غيابها، مما أضعف قدرتها على الإنجاز إلى حد كبير. وكذلك قضية انهاء الحرب وتحقيق السلام، والإصلاح الاقتصادي، ومراجعة العلاقات الخارجية.
ثالثًا: تبرز قضية إعادة صياغة البنية الدستورية والقانونية للدولة على أسس ديمقراطية لتأسيس حكم مدني ديمقراطي مستقر في البلاد، يستطيع أن يتعامل مع القضايا المحورية الملحة، مثل انجاز السلام العادل والمستدام في دارفور وجنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان، وتحقيق مطلوبات العدالة الانتقالية، ومحاسبة الضالعين في جرائم الفساد والقضايا الجنائية، وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة العسكرية والمدنية؛ لتحقيق شعار الثورة القائم على الحرية والسلام والعدالة.
رابعًا: تأتي أهمية كفاءة الأداء التنفيذي لمؤسسات الدولة في الفترة الانتقالية، والذي ينبغي أن يؤسس على مرتكزين، أحدهما يتمثل وضع السياسات العامة القائمة على المبادئ والغايات والقيم التي تشكل الرؤية الوطنية للدولة؛ وثانيهما يتجسد في كفاءة الأداء الديواني المهني، القائم على ترتيب الأولويات، وسيادة القانون، وتحقيق الشفافية، وعدالة الفرص المتاحة.
وعدم استيفاء شروط الانتقال الديمقراطي التي أشار الطيِّب إليها تفصيلاً في مقالاته الستة عشر المنجمة، وأجملناها في النقاط أعلاه، ربما يفضي، لا قدر الله، إلى موجة ارتدادية، كما يسميها صموئيل هنتنغتون، تتبلور حصيلتها في العود إلى حكم العسكر، الذي أجمع شباب الثورة على فساده، وقدم بعضهم أرواحهم قرباناً لإسقاطه، لسان حالهم يقول "تسقط بس". ولذلك ينبغي أن يحافظ كل سوداني واعي على هذه الفترة الانتقالية، ويراجع هفواتها، ويثقف مساراتها، حتى تحقق أهدافها المنشودة، وتنقل السودان من دائرة الانتقال الديمقراطي إلى دائرة التحول الديمقراطي المستدام. ولذلك نطلع لعبور هذه الفترة الانتقالية بسلامٍ، ونترحم على روح فقيدنا الأستاذ الجليل الطيِّب زين العابدين، الذي وضع لنا صُوًى على الطريق، فالطيِّب الرجل لا نُعزي فيه، ولكنه فيه نُعزى.

 

آراء