البعض يريد تجريد شجرة الثورة من كل أغصانها المخضرة
عمر الحويج
8 June, 2024
8 June, 2024
بقلم / عمر الحويج
لا جديد .. لا يزال ، ويظل الصراع حول السلطة محتدماً طيلة سنوات الإستقلال وحتى الآن ، وإن إتسم بأكثره كصراع سلمي دون مناوشات مسلحة ، وإن بقيت الصراعات السياسية محتدمة سلمياً ، إلا بعد دخول العسكر إلى ميدان السياسة ، وبداية صراعات الإتقلابات والإنقلابات المضادة ، التي اعقبتها مجازر وإعدامات ومشانق كوبر والدروة.
تلك التناقضات في الساحة غير المسلحة ، إلا من قهر العسكر واستبداده ، تأثر بها الشمال والوسط لأسباب تاريخية وجيوسياسية ، ولكن هذه الظروف نفسها ، هي التي حولتها إلى صراعات حربية مسلحة ومدمرة ، في آن ومتصلة ، بين الأطراف والمركز ، ولا أقول الهامش ، لأن أرض السودان بأكمله هامش ، حتى مدنه وعاصمته ، وكل ذلك نتاج أخطاء النخب داخل هذا المثلث الشمالى ، التي حكمت المدعو المركز بإسمها ، والتي إنغلقت على ذاتها ، وأنشغلت بذواتها ، وأَدَّارت هذا المركز ودورته بمزاجها ، بما يلائم مصالحها ، ومصالح طبقتها ، فهي التي كرست التنمية في مناطقها دون أطراف السودان الأخرى ، وإن لم تكن مظاهر تنمية كافية ، وإنما كانت في مستوى حد الكفاف لم تتعداه ، حتى لم تصل درجة الفارق الكبير الشاسع بينها وهذه الأطراف ، ورغم ذلك أفرز هذا التكريس الجائر للتنمية على قلته المحظور امتدادها لغير مثلثهم المنكوب بهم في ذاتهم ، من أطراف البلاد الأخرى ، إلى أحقاد وطغائن ، ترسبت في وعي أبناء تلك المناطق ، زادها سوءاً ، إحساس أهل المركز النخبوي ، بالتفوق العرقي بالإنتماء العروبي الإسلامي المتفوق في وعيهم النائم في شهور عسل الإستعلاء على الآخرين ، منذ الزبير باشا وتجارة الرقيق ، تجاه العنصر الأفريقي المتعدد الثقافات والديانات ، مما فاقم الوضع ، وجعله أكثر سوءاً ، فقد حوَُل هذا الواقع المرير ، أبناء الطرفين الغربي والشرقي ، حمالين أسية المظلومية ، فمن ناحية هذين الإقليمين ، فقد تحول شعبيهما ، إلى شغيلة للماكينة الإنتخابية ، منتجة وولودة للدوائر البرلمانية ، لتأتي بنخبة الوسط كسلطة حاكمة في المركز ، و شغيلة وخدام منازل لا غير في الطرف الجنوبي ، وحين لم تكن هذه المهنة كافية ، لإستيعاب كل الفقراء الكادحين ، لأهل هذا الإقليم ، فقد جعلت أبناء الجنوب ، يتحولون إلى خدمة الإنشاءات والتعميرات ، لبيوتات الغابات الأسمنتية المعمارية ، لرفاهية النخبة الحاكمة وأغنياؤها وسادتها ، الذين لايشبعون إلا وحدهم دون الآخرين ، حتى من أبناء مناطقهم من الكادحين . فتحولت كل هذه التوجهات المختلة إلى قنابل قابلة للإنفجار ، بل سرعان ما أنفجرت بالفعل ، بعد دمار الحروب المستمرة ، فكانت قنبلتها الأولى ، إنفصال جنوب السودان ، وأزداد المركز تعقيداً ، ليس بينه والأطراف فقط ، وإنما بين المركز والشعب بمجمله ، حين جاءت الإنقاذ وشرفت ، فشرقت وغربت بمواصفاتها ، وهي لابسة لبوس السوء بقناع الدين الذي زيفوه ، وحين لم يجدوه كما أرادوه ، تخيلوه ثم طبقوه . وهذه المرة حولت أبناء الأقليم الغربي ، إلى فعلة لها ، بالإنتماء لدينها الكذوب ، فحاربوا به الجنوب حرب جهادية دينية ، وقد ظلت حربهم منذ مولدها في هجمة توريت البشعة ، مجرد مظلومية سياسية إجتماعية ، لا بُعد ديني لها ، وحين ثارت ضدهم ، نخب الغرب نفسها بالسلاح ، تركوا جانباً الإنتماء الديني الذي استنفذ أغراضه ، إلى الإنتماء القبلي العشائري المناطقي ، وجعلوا أهل الغرب يتحاربون بعضهم البعض ، وكانت حروبهم في شراستها ، تعادل إن لم تكن أقوى وأشرس من حرب الجنوب ، فقد أخرجوا لهم من رحمهم ، جنداً أشاوس متلفعين بعقيدة القتل والنهب والإغتصاب ، سلحوه وغذوه (.. وخذوا الغنائم متى انتصرتم) كما وجههم أحد المتنفذين في برلمانهم المحتكر ، وزودوه بما يلزم ولا يلزم من المال والسلاح ، وحتى برجال الجيش ضباطاً ذوي الكفاءة العالية منهم ، حيث ساروا على هذا النهج حتى تاريخ هذه الحرب العبثبة المتواصلة إلى لحظتئذٍ .
وسار الحال هكذا والسودان من دحديرة إلى أحرج منها وأعمق ، حتى تفجرت ثورة ديسمبر المجيدة ، وجاءت هذه الثورة العملاقة ، بأفكار وقيم واعية جديدة ، لهدم القديم ، من كل هذه الحوائط والجُدر المنغلقة ، هادمة الملزات والحياة الناعمة المشرقة ، التي أسس لها الرعيل الأول من حكامنا ، وأخَّلوا بل خانوا واستهانوا بالمسار الذي أسسه نضالهم ضد المستعمر الذي صابروه وصبروا عليه ، وصارعوه حتى صرعوه . وأول آيات الكفر كان في ذلك الزمان ، إنحياز طلائع المتعلمين ، الخريجين الأوائل ، الذين أسسوا لمؤتمرهم النضالي ، فتحول جمعهم ، إلا قليله وبعضه المعدود ، التي واصلت فعلها النضالي ، حين هرع الآخرين منها مهرولين ، إلى اليمين الإقطاعي الطائفي ، الذي لعب فيه يمين الإسلام السياسي المتطرف ، من يومه ، الدور المحرض للأحزاب ، بطائيفيتها المتدينة التزاماً ومحتوى ، وبدل أن تتفرغ تلك الكتلة الصماء ، المنتبهة فقط لمصالحها الذاتية ، وتتفرغ ،لتكوِّن طبقتها الوسطى القادرة علي تطوير البلاد والعباد ، شغلت نفسها في الإتجاه الخطأ ، رافعة شعار التحرير الملتبس ، لا التعمير المنسي المندرس . وكأنهم لم يصدقوا أنهم بذاتهم ، الذين رفعوا علم السودان عالياَ رفرافاً للتحرير ، وبدء التعمير . وأنتهى أمرهم في النهاية ، بأن أُكلوا يوم أُكل الثور الأبيض ، حيث غدرت بهم حركة الاسلام السياسي ، المتطرف من يومه ، وتعشت بهم ، ولم يكونوا أصلاً راغبين في التغدي بها ، فهي الحبيب والمتغزل الأول ، ولم تراعي تلك الحركة حتى رعايتهم وإحتضانهم لحركتها ، من قِبِّل هؤلاء المأكولين حسرة ، ولكن بلا ندم ، فلا زال البعض منهم يحن لممارسة تلك الرعاية والإحتضان الرومانسي الرغائبي معهم ، وحين شبت عن الطوق ، هذه الحركة الخؤونة ، وأشتد ساعدها رمتهم جميعاً ، في سلة نفاياتها ، تم لها ذلك في إنقلابها المشؤوم عام السجم والرماد في 89 19م . وبه أتصلت ثلاثينيتهم البغيضة ، حتى فاجأتهم ثورة ديسمبر بشعارها المستديم مساراً ، والمشبع فكراً ووعياً ومنارة وأستنارة ، بالحرية سلام وعدالة ، والثورة خيار الشعب ،والثورة ثورة شعب ، والسلطة سلطة شعب ، والعسكر للثكنات والجنجويد ينحل ، وكانت فتحاً مبيناً . هذه الشعارات التي يستهين بها بعض مثقفي البرجوازية الصغيرة وكتابها وصحفييها ، بأنها شعارات لا تغني ولا تسمن من جوع لوقف حرب ، وعودة إلى ديمقراطية وحكم مدني راسخ ، بهدف جلب الرفاه والسعادة ، التي هفت إليها قلوب السودانيين في ثورتهم القرنعالمية ، بذخيرة شهدائها وبسالاتهم ، الذين بذلوا أرواحهم في سبيلها .
لماذا ؟؟ ، يقولون لأن الشعارات لا "تأكل عيش" ، ولا تأتي بفكر جديد ، إنما الذي يأتي بالجديد ، هو نتيجة المنتصر في هذه الحرب ، أياً كان من هو من بين الطرفين ، الإسلاموكوز أو الجنجوكوز ، وكلاهما رضعا من ثدي أم أتت بهم سفاحاً ، وكأن الحرب ، سيكون فيها خاسر ومنتصر ، علماً إن لم يكن من ذا لا علم ، أنها حرب بين فصيلين منشقين تفاصلا ثم تخاصما ثم أنقسما ، وأنقسما اميبياَ ، حتى صاروا شيعاً مسلحة ، بتوجهات مدمرة ، وأصبح بينهما ما صنع الحداد ، حتى الذي يدعي أنه مع الثورة ، وفارق خطى الآخرين ، الذين بعضهم تبنى فكر العنصرية الإنفصالية ، بأحلام هدم دولة 56 ، والحكم بالنخبة الغرباوية بديلاً للنخبة الجلابوية . أو ذلك الذي يحلم بدولة الساحل والصحراء الكبرى داخل مسستشارية الدعم السريع ، تلك التي إختطت لحميدتي بفقه الضرورة الترابية "أذهب أنا سجيناً وأذهب أنت رئيساً" ، وأختارت له طريق الديمقراطية المدعاة زيفاً وتدليساً لمرحلة الحرب ، حتى يغيض الله لهم مخرجاً آخر بعد الحرب ، تلك المستشارية الإسلاموية حتى النخاع .
ولنعد أخرى لنائب الامين العام للمؤتمر الشعبي ، حين قدم خطابه ، على منصة تنسيقية مؤتمر تقدم ، فوجدناه قد إستعاد كل مبررات إنقلابهم المشؤوم ، التى رددوها أيام عزهم وعزوتهم في تبرير إنقلابهم بحجة الرد على مذكرة قيادة الجيش ، كما كنت يامولاي لم تتغير ..!! حتى لم تتنازل وتعتذر لشعب السودان عن الإنقلاب ، ملحقاً به مصائبكم المتواصلة ، حتى هذه الحرب العبثية ، كما حدد الفترة الإنتقالية بعام واحد ، كما هو مطلبهم الثابت منذ اكتوبر 64 ، ومارس/أبريل 85 ، حتى يعجلوا بإنتخابات الخج المعلومة نتائجها لديهم .
ونعود إلى أولئك المخذلون ونقول أنه الغرض المرض ، من المتنطعين ، يغذون أفكار الخذلان والإحباط ، وضرب الثورة في مقتل بهذه الأفكار ، ويطعّمِونها بالهجوم على اليسار عريضه وفريده ، وقد ظل هذا ديدن البعض منهم ، ونماذجهم كثر ، منذ الإستقلال ، فكل من يأنس في نفسه الكفاءة المدعاة ، بربطة عنق زاهية الألوان ، ورغبة حميمة في الإستوزار ، أو الإستئثار بالوظيفة المحترمة ومعتبرة ، أو حتى برئاسة تحرير صحيفة صفراء أو خضراء لا يهم ، أول ما يبدأ به لتحقيق طموحاته هذه ، هو الهجوم المبطن لتبرئة نفسه من تهمة الإنتماء للشيوعية الهدامة ، طبقاً لذلك القانون الذي ظل سارياً منذ الإستعمار وحتى تاريخه الماثل ، وإن تغيرت عناوين مواده وأرقامها . وهم اليوم بالجانب الآخر يحاولون ممارسة دور الإسلام السياسي الذي إنشغل بحرب شعب السودان بكامله وأحزابه ، ولم يجدوا وقتاً لليسار العريض أو الشيوعي، فخصصوه للثورة لإجهضها ، نيابة تحملتها قحت الهشة في تكوينها ، فاتهموها حتى في خلافاتهم السرر- ليلية ، دون وجه حق ، لكنها كانت على طريقة إياك أعني ياثورة وثوار . فلم يجدوا وقتاً للتفرغ الكامل كما في سابق أوانهم وعهدهم المباد ، ولكن فرحين حل مكانهم ، أصحاب الغرض هؤلاء ، في الهجوم والطعن ، وتزييف التاريخ وقع الحافر على الحافر ، ويقول لهم الشهود ، قبلكم كان الإسلامويين أشطر .
ودون لت وعجن ، الكل يعرف أن مركز العمل السياسي يبدأ وينتهي بجماهير وبشعارات ثورة ديسمبر ، وهي الوجهة وهي المركز والمحور ، التي يجب أن تدور حوله واليه وبه توجهات ، كل من يريد ويرغب في وقف الحرب ، واستعادة مسار الثورة ، ووحدة قواها العالية المنارة ، بالقيادة الجماعية بشعارها ، حرية سلام وعدالة ، التي يظنها الكثر من كتاب وجماعات وأحزاب الطبقة المتذبذبة ، قصيرة النظر والنَفَّس ، أن الثورة راحت شمار في مرقة ، فهم خائبون ، من الخيبة المعلومة وليس التجريح ، تقول لهم جماهير الثورة أنها عائدة وراجعة وراجحة ، كما كان يقول الصادق المهدي في صدقيته عن ديمقراطيته المؤكدة ، ولكنها بلا ضفاف ، حين كان يفقدها لحظة حساباته لها وهي على محك الضياع ، كما تلك بتوضيحاتها ، إتفاقية الميرغني-قرنق حتى راحت تحت الأرجل الإنقلابية ، وتظل عودة الديمقراطية والدولة المدنية ولكن بديمقراطية لها ضفاف ، ولها أسنان مبدأها ومنتهاها ، لاحرية لأعداء الحرية والسلام والعدالة ، والثورة لازالت هي خيار الشعب رضى من رضى ، ومن لا يرضى ، فليشرب من البحر ، ففيه متسع للنهل منه ، يساويه ويفيض عنه النهل من مائه الاملح ، ممن يرغب في تراكم التخذيل ونشر الإحباط بالدعاوي ، التي ينادي أصحابها حتى درجة القبول بالمصالحة والإتفاق ، مع أهل النظام البائد ، وفروعهم القديمة والجديدة المتشعبة حتى درجة الموزاب المتدنية ، وهم بذلك يكونوا بوعي متعمد أو بدونه ، يريدون تجريد شجرة الثورة ، حرية سلام وعدالة ، من كل أغصانها اليانعة الخضراء .
.٦
omeralhiwaig441@gmail.com
لا جديد .. لا يزال ، ويظل الصراع حول السلطة محتدماً طيلة سنوات الإستقلال وحتى الآن ، وإن إتسم بأكثره كصراع سلمي دون مناوشات مسلحة ، وإن بقيت الصراعات السياسية محتدمة سلمياً ، إلا بعد دخول العسكر إلى ميدان السياسة ، وبداية صراعات الإتقلابات والإنقلابات المضادة ، التي اعقبتها مجازر وإعدامات ومشانق كوبر والدروة.
تلك التناقضات في الساحة غير المسلحة ، إلا من قهر العسكر واستبداده ، تأثر بها الشمال والوسط لأسباب تاريخية وجيوسياسية ، ولكن هذه الظروف نفسها ، هي التي حولتها إلى صراعات حربية مسلحة ومدمرة ، في آن ومتصلة ، بين الأطراف والمركز ، ولا أقول الهامش ، لأن أرض السودان بأكمله هامش ، حتى مدنه وعاصمته ، وكل ذلك نتاج أخطاء النخب داخل هذا المثلث الشمالى ، التي حكمت المدعو المركز بإسمها ، والتي إنغلقت على ذاتها ، وأنشغلت بذواتها ، وأَدَّارت هذا المركز ودورته بمزاجها ، بما يلائم مصالحها ، ومصالح طبقتها ، فهي التي كرست التنمية في مناطقها دون أطراف السودان الأخرى ، وإن لم تكن مظاهر تنمية كافية ، وإنما كانت في مستوى حد الكفاف لم تتعداه ، حتى لم تصل درجة الفارق الكبير الشاسع بينها وهذه الأطراف ، ورغم ذلك أفرز هذا التكريس الجائر للتنمية على قلته المحظور امتدادها لغير مثلثهم المنكوب بهم في ذاتهم ، من أطراف البلاد الأخرى ، إلى أحقاد وطغائن ، ترسبت في وعي أبناء تلك المناطق ، زادها سوءاً ، إحساس أهل المركز النخبوي ، بالتفوق العرقي بالإنتماء العروبي الإسلامي المتفوق في وعيهم النائم في شهور عسل الإستعلاء على الآخرين ، منذ الزبير باشا وتجارة الرقيق ، تجاه العنصر الأفريقي المتعدد الثقافات والديانات ، مما فاقم الوضع ، وجعله أكثر سوءاً ، فقد حوَُل هذا الواقع المرير ، أبناء الطرفين الغربي والشرقي ، حمالين أسية المظلومية ، فمن ناحية هذين الإقليمين ، فقد تحول شعبيهما ، إلى شغيلة للماكينة الإنتخابية ، منتجة وولودة للدوائر البرلمانية ، لتأتي بنخبة الوسط كسلطة حاكمة في المركز ، و شغيلة وخدام منازل لا غير في الطرف الجنوبي ، وحين لم تكن هذه المهنة كافية ، لإستيعاب كل الفقراء الكادحين ، لأهل هذا الإقليم ، فقد جعلت أبناء الجنوب ، يتحولون إلى خدمة الإنشاءات والتعميرات ، لبيوتات الغابات الأسمنتية المعمارية ، لرفاهية النخبة الحاكمة وأغنياؤها وسادتها ، الذين لايشبعون إلا وحدهم دون الآخرين ، حتى من أبناء مناطقهم من الكادحين . فتحولت كل هذه التوجهات المختلة إلى قنابل قابلة للإنفجار ، بل سرعان ما أنفجرت بالفعل ، بعد دمار الحروب المستمرة ، فكانت قنبلتها الأولى ، إنفصال جنوب السودان ، وأزداد المركز تعقيداً ، ليس بينه والأطراف فقط ، وإنما بين المركز والشعب بمجمله ، حين جاءت الإنقاذ وشرفت ، فشرقت وغربت بمواصفاتها ، وهي لابسة لبوس السوء بقناع الدين الذي زيفوه ، وحين لم يجدوه كما أرادوه ، تخيلوه ثم طبقوه . وهذه المرة حولت أبناء الأقليم الغربي ، إلى فعلة لها ، بالإنتماء لدينها الكذوب ، فحاربوا به الجنوب حرب جهادية دينية ، وقد ظلت حربهم منذ مولدها في هجمة توريت البشعة ، مجرد مظلومية سياسية إجتماعية ، لا بُعد ديني لها ، وحين ثارت ضدهم ، نخب الغرب نفسها بالسلاح ، تركوا جانباً الإنتماء الديني الذي استنفذ أغراضه ، إلى الإنتماء القبلي العشائري المناطقي ، وجعلوا أهل الغرب يتحاربون بعضهم البعض ، وكانت حروبهم في شراستها ، تعادل إن لم تكن أقوى وأشرس من حرب الجنوب ، فقد أخرجوا لهم من رحمهم ، جنداً أشاوس متلفعين بعقيدة القتل والنهب والإغتصاب ، سلحوه وغذوه (.. وخذوا الغنائم متى انتصرتم) كما وجههم أحد المتنفذين في برلمانهم المحتكر ، وزودوه بما يلزم ولا يلزم من المال والسلاح ، وحتى برجال الجيش ضباطاً ذوي الكفاءة العالية منهم ، حيث ساروا على هذا النهج حتى تاريخ هذه الحرب العبثبة المتواصلة إلى لحظتئذٍ .
وسار الحال هكذا والسودان من دحديرة إلى أحرج منها وأعمق ، حتى تفجرت ثورة ديسمبر المجيدة ، وجاءت هذه الثورة العملاقة ، بأفكار وقيم واعية جديدة ، لهدم القديم ، من كل هذه الحوائط والجُدر المنغلقة ، هادمة الملزات والحياة الناعمة المشرقة ، التي أسس لها الرعيل الأول من حكامنا ، وأخَّلوا بل خانوا واستهانوا بالمسار الذي أسسه نضالهم ضد المستعمر الذي صابروه وصبروا عليه ، وصارعوه حتى صرعوه . وأول آيات الكفر كان في ذلك الزمان ، إنحياز طلائع المتعلمين ، الخريجين الأوائل ، الذين أسسوا لمؤتمرهم النضالي ، فتحول جمعهم ، إلا قليله وبعضه المعدود ، التي واصلت فعلها النضالي ، حين هرع الآخرين منها مهرولين ، إلى اليمين الإقطاعي الطائفي ، الذي لعب فيه يمين الإسلام السياسي المتطرف ، من يومه ، الدور المحرض للأحزاب ، بطائيفيتها المتدينة التزاماً ومحتوى ، وبدل أن تتفرغ تلك الكتلة الصماء ، المنتبهة فقط لمصالحها الذاتية ، وتتفرغ ،لتكوِّن طبقتها الوسطى القادرة علي تطوير البلاد والعباد ، شغلت نفسها في الإتجاه الخطأ ، رافعة شعار التحرير الملتبس ، لا التعمير المنسي المندرس . وكأنهم لم يصدقوا أنهم بذاتهم ، الذين رفعوا علم السودان عالياَ رفرافاً للتحرير ، وبدء التعمير . وأنتهى أمرهم في النهاية ، بأن أُكلوا يوم أُكل الثور الأبيض ، حيث غدرت بهم حركة الاسلام السياسي ، المتطرف من يومه ، وتعشت بهم ، ولم يكونوا أصلاً راغبين في التغدي بها ، فهي الحبيب والمتغزل الأول ، ولم تراعي تلك الحركة حتى رعايتهم وإحتضانهم لحركتها ، من قِبِّل هؤلاء المأكولين حسرة ، ولكن بلا ندم ، فلا زال البعض منهم يحن لممارسة تلك الرعاية والإحتضان الرومانسي الرغائبي معهم ، وحين شبت عن الطوق ، هذه الحركة الخؤونة ، وأشتد ساعدها رمتهم جميعاً ، في سلة نفاياتها ، تم لها ذلك في إنقلابها المشؤوم عام السجم والرماد في 89 19م . وبه أتصلت ثلاثينيتهم البغيضة ، حتى فاجأتهم ثورة ديسمبر بشعارها المستديم مساراً ، والمشبع فكراً ووعياً ومنارة وأستنارة ، بالحرية سلام وعدالة ، والثورة خيار الشعب ،والثورة ثورة شعب ، والسلطة سلطة شعب ، والعسكر للثكنات والجنجويد ينحل ، وكانت فتحاً مبيناً . هذه الشعارات التي يستهين بها بعض مثقفي البرجوازية الصغيرة وكتابها وصحفييها ، بأنها شعارات لا تغني ولا تسمن من جوع لوقف حرب ، وعودة إلى ديمقراطية وحكم مدني راسخ ، بهدف جلب الرفاه والسعادة ، التي هفت إليها قلوب السودانيين في ثورتهم القرنعالمية ، بذخيرة شهدائها وبسالاتهم ، الذين بذلوا أرواحهم في سبيلها .
لماذا ؟؟ ، يقولون لأن الشعارات لا "تأكل عيش" ، ولا تأتي بفكر جديد ، إنما الذي يأتي بالجديد ، هو نتيجة المنتصر في هذه الحرب ، أياً كان من هو من بين الطرفين ، الإسلاموكوز أو الجنجوكوز ، وكلاهما رضعا من ثدي أم أتت بهم سفاحاً ، وكأن الحرب ، سيكون فيها خاسر ومنتصر ، علماً إن لم يكن من ذا لا علم ، أنها حرب بين فصيلين منشقين تفاصلا ثم تخاصما ثم أنقسما ، وأنقسما اميبياَ ، حتى صاروا شيعاً مسلحة ، بتوجهات مدمرة ، وأصبح بينهما ما صنع الحداد ، حتى الذي يدعي أنه مع الثورة ، وفارق خطى الآخرين ، الذين بعضهم تبنى فكر العنصرية الإنفصالية ، بأحلام هدم دولة 56 ، والحكم بالنخبة الغرباوية بديلاً للنخبة الجلابوية . أو ذلك الذي يحلم بدولة الساحل والصحراء الكبرى داخل مسستشارية الدعم السريع ، تلك التي إختطت لحميدتي بفقه الضرورة الترابية "أذهب أنا سجيناً وأذهب أنت رئيساً" ، وأختارت له طريق الديمقراطية المدعاة زيفاً وتدليساً لمرحلة الحرب ، حتى يغيض الله لهم مخرجاً آخر بعد الحرب ، تلك المستشارية الإسلاموية حتى النخاع .
ولنعد أخرى لنائب الامين العام للمؤتمر الشعبي ، حين قدم خطابه ، على منصة تنسيقية مؤتمر تقدم ، فوجدناه قد إستعاد كل مبررات إنقلابهم المشؤوم ، التى رددوها أيام عزهم وعزوتهم في تبرير إنقلابهم بحجة الرد على مذكرة قيادة الجيش ، كما كنت يامولاي لم تتغير ..!! حتى لم تتنازل وتعتذر لشعب السودان عن الإنقلاب ، ملحقاً به مصائبكم المتواصلة ، حتى هذه الحرب العبثية ، كما حدد الفترة الإنتقالية بعام واحد ، كما هو مطلبهم الثابت منذ اكتوبر 64 ، ومارس/أبريل 85 ، حتى يعجلوا بإنتخابات الخج المعلومة نتائجها لديهم .
ونعود إلى أولئك المخذلون ونقول أنه الغرض المرض ، من المتنطعين ، يغذون أفكار الخذلان والإحباط ، وضرب الثورة في مقتل بهذه الأفكار ، ويطعّمِونها بالهجوم على اليسار عريضه وفريده ، وقد ظل هذا ديدن البعض منهم ، ونماذجهم كثر ، منذ الإستقلال ، فكل من يأنس في نفسه الكفاءة المدعاة ، بربطة عنق زاهية الألوان ، ورغبة حميمة في الإستوزار ، أو الإستئثار بالوظيفة المحترمة ومعتبرة ، أو حتى برئاسة تحرير صحيفة صفراء أو خضراء لا يهم ، أول ما يبدأ به لتحقيق طموحاته هذه ، هو الهجوم المبطن لتبرئة نفسه من تهمة الإنتماء للشيوعية الهدامة ، طبقاً لذلك القانون الذي ظل سارياً منذ الإستعمار وحتى تاريخه الماثل ، وإن تغيرت عناوين مواده وأرقامها . وهم اليوم بالجانب الآخر يحاولون ممارسة دور الإسلام السياسي الذي إنشغل بحرب شعب السودان بكامله وأحزابه ، ولم يجدوا وقتاً لليسار العريض أو الشيوعي، فخصصوه للثورة لإجهضها ، نيابة تحملتها قحت الهشة في تكوينها ، فاتهموها حتى في خلافاتهم السرر- ليلية ، دون وجه حق ، لكنها كانت على طريقة إياك أعني ياثورة وثوار . فلم يجدوا وقتاً للتفرغ الكامل كما في سابق أوانهم وعهدهم المباد ، ولكن فرحين حل مكانهم ، أصحاب الغرض هؤلاء ، في الهجوم والطعن ، وتزييف التاريخ وقع الحافر على الحافر ، ويقول لهم الشهود ، قبلكم كان الإسلامويين أشطر .
ودون لت وعجن ، الكل يعرف أن مركز العمل السياسي يبدأ وينتهي بجماهير وبشعارات ثورة ديسمبر ، وهي الوجهة وهي المركز والمحور ، التي يجب أن تدور حوله واليه وبه توجهات ، كل من يريد ويرغب في وقف الحرب ، واستعادة مسار الثورة ، ووحدة قواها العالية المنارة ، بالقيادة الجماعية بشعارها ، حرية سلام وعدالة ، التي يظنها الكثر من كتاب وجماعات وأحزاب الطبقة المتذبذبة ، قصيرة النظر والنَفَّس ، أن الثورة راحت شمار في مرقة ، فهم خائبون ، من الخيبة المعلومة وليس التجريح ، تقول لهم جماهير الثورة أنها عائدة وراجعة وراجحة ، كما كان يقول الصادق المهدي في صدقيته عن ديمقراطيته المؤكدة ، ولكنها بلا ضفاف ، حين كان يفقدها لحظة حساباته لها وهي على محك الضياع ، كما تلك بتوضيحاتها ، إتفاقية الميرغني-قرنق حتى راحت تحت الأرجل الإنقلابية ، وتظل عودة الديمقراطية والدولة المدنية ولكن بديمقراطية لها ضفاف ، ولها أسنان مبدأها ومنتهاها ، لاحرية لأعداء الحرية والسلام والعدالة ، والثورة لازالت هي خيار الشعب رضى من رضى ، ومن لا يرضى ، فليشرب من البحر ، ففيه متسع للنهل منه ، يساويه ويفيض عنه النهل من مائه الاملح ، ممن يرغب في تراكم التخذيل ونشر الإحباط بالدعاوي ، التي ينادي أصحابها حتى درجة القبول بالمصالحة والإتفاق ، مع أهل النظام البائد ، وفروعهم القديمة والجديدة المتشعبة حتى درجة الموزاب المتدنية ، وهم بذلك يكونوا بوعي متعمد أو بدونه ، يريدون تجريد شجرة الثورة ، حرية سلام وعدالة ، من كل أغصانها اليانعة الخضراء .
.٦
omeralhiwaig441@gmail.com