عندما تولى سيدنا عثمان بن عفان (رض) رئاسة الجمهورية الإسلامية وعاصمتها المدينة المنورة أصدر أول بيان له فى شكل توجيه مكتوب لولاته فى الأمصار ، ولم يكن البيان خطابا جماهريا لأنّ وسائل الإتصال الجماهيرى لم تكن موجودة فى ذلك العصر، وفى هذا البيان المقتضب ارسى لنا ذو النورين فلسفة الدولة في شئون الحكم عامة والشئون الإقتصادية خاصة ، وفوق ذلك كله تنبأ بنبؤة صدقها زماننا هذا ليثبت لنا صلاح هذا الرجل العظيم. وإليكم سادتى نص البيان:
بسم الله الرحمن الرحيم
"أمّا بعدُ ، فإنّ الله أمرَ الأئمّة أن يكونوا رُعاة، ولم يتقدّم إليهم أن يكونوا جُباةً، وإن صَدْر هذه الأمّة خُلِقوا رُعاة ، ولم يُخلَقوا جُباة ، ولَيوشِكنّ أئمتكم أن يصيروا جُباة ولا يكونوا رُعاة. فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء. ألا وإنَّ أعدل السيرة أن تنظروا في أمور المسلمين وفيما عليهم ، فتعطوهم ما لهم ، وتأخذوهم بما عليهم ، ثم تعتنوا بالذمّة ، فتعطوهم الذي لهم ، وتأخذوهم بالذي عليهم ، ثم العدو الذي تنتابون ، فاستفتحوا عليهم الوفاء".
ومن بعد هذا البيان أصدر توجيها واضحا إلى العمّال والقوّاد وعمّال الخراج وعامّة المسلمين بالأمصار يحثّهم فيه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعطف على أهل الذمّة وجباية الخراج بالعدل والإنصاف والنصح لعمّال الخراج فقال: " أمّا بعد ، فإنّ الله خلقَ الخلْق بالحقّ، فلا يقبل إلاّ الحقّ. خذوا الحقَّ وأعطوا الحقَّ به. والأمانة الأمانة ؛ قوموا عليها، ولا تكونوا أوّل مَن يسلبها، فتكونوا شركاءَ من بعدكم إلى ما اكتسبتم. والوفاء الوفاء؛ لا تظلموا اليتيم ولا المعاهد ، فإنّ الله خصمٌ لمن ظلمهم".
نرجو من وزير المالية وكل الجهات المعنية بأمر الإقتصاد السودانى الظاهرة منها والمستترة أن تنكب على قراءة هذا البيان التاريخى ودراسته دراسة متأنية واعية ليستخلصوا منه العبر التى تعينهم لرسم سياسات إقتصادية رشيدة وقرارات شجاعة وسليمة فيما يخص الجبايات التى لا يستطيع أن يحصيها أحد من العالمين ! وأن ينظروا كذلك فى أمر تلك الضرائب الباهظة التى أهلكت العباد والبلاد وطفّشت المستثمرين ودفعت بالناس دفعا للغش والكذب والرشوة والتزوير وكل أنواع الفساد. ضرائب ما أنزل الله بها من سلطان ، ولم يأمر بها فى قرآن ، ولا أساس لها فى سنة صحيحة ، ولا أجمع عليها أهل الذكر، وإنّما أفتى بها نفر من علماء السلطان وأولياء الشيطان ، ورحم الله الإمام النووى الذى عارض الظاهر بيبرس الذى همّ بفرضها بجانب الزكاة فضاق به ذرعا فضربه ونفاه من مصر! والمتأمل فى الضرائب يجدها لازمة من لوازم النظام الرأسمالى المتعفن ، وللأسف ها نحن نسير فى خطاه حذو النعل بالنعل حتى إذا دخل جحر ضب دخلناه معه ثم ندعى من بعد ذلك ونتبجح بأنّ لنا نظاما إسلاميا!! وفى حقيقة الأمر إن إسلامية الدولة تعرف بعدلها و بنظامها الإقتصادى وليس بتطبيق الحدود على خمس أو ست جرائم فقط لا تقع إلا نادرا!!
و بعد أن هبت رياح التغيير فى وطننا الإسلامى وانكسر حاجز الخوف نقول: لقد حان الوقت لكنس النظم الرأسمالية من بلاد الإسلام كافة وتطبيق إقتصاد إسلامى ينسب لأمه وأبيه وأجداده كابرا عن كابر محررا من النفوذ والفكر الرأسمالى. إقتصاد إسلامى ينحاز للفقراء والمساكين والمهمشين. إقتصاد يحرك عجلة التنمية المتوازية كما أمر الله تعالى بها حتى لا يكون المال دولة بين مدن غنية وأفراد أغنياء في الوقت الذى تسحق فيه غالبية المدن والقرى والأرياف سحقا سحقا. نعم، لم تعد المصطلحات القديمة كافية ، ولا المناهج القديمة كافية ، ولا النقول والأنابيش كافية إذا لم تصحبها إجتهادات كثيرة وكبيرة وخطيرة فى مجال الإقتصاد الإسلامى وإلا فالينتظر الجميع الطوفان لأن تطبيق الحدود وحدها لا يكفى لأسلمة الدولة!