تناولت الحلقة الثانية من هذا البحث الذي نُشر في كتاب "استقلال السُّودان: ستون عاماً من التجربة والخطأ (1956-2016م)، الصادر عن دار الحضارة للنشر بالقاهرة 2015م، والذي حرره الدكتور حيدر إبراهيم علي، انتخابات عام 1953م؛ افتراضاً بأنها قد أفرزت قيماً سياسيةً جديدة، شكلت منصة التأسيس الخطأ التي انطلقت منها التجارب الانتخابية اللاحقة والممارسات الديمقراطية المصاحبة لها. وفي هذه الحلقة الثالثة أعرض نتائج انتخابات عام 1958م، وتحالفاتها الحزبية المتناقضة، وكيف مهدت تلك التناقضات الطريق للمؤسسة العسكرية؛ لتحيد عن مهامها الوظيفية، وتسيطر على مقاليد الحكم في الخرطوم عبر عملية تسليم وتسلم باهظة الثمن السياسي، أفسحت المجال للمؤسسة العسكرية لتكون جزءاً من الحل المرحلي، وطرفاً من مشكلة الحكم المستدامة في السودان.
انتخابات عام 1958م: التحالفات المتناقضة وفي ظل تلك الظروف الحرجة التي أفرزها الواقع السياسي المتصدع بدأت عمليَّة الإعداد لانتخابات عام 1958م تحت قيادة حكومة الأمة-الشعب الديمقراطي ائتلافيَّة، التي كانت تهدف إلى إحكام قبضتها على السلطة، وتحجيم حركة الأحزاب المعارضة التي نعتتها بالعلمانيَّة والالحاد. وتحقيقاً لذلك ألغت دائرة الخريجين ذات المقاعد الخمسة، وزادت عدد الدوائر الجغرافية في مناطق الثقل الطائفي لحزبي الأمة والشعب الديمقراطي. والغى قانون الانتخابات لسنة 1957م حق المرأة في التصويب لمجلس الشيوخ وذلك بخلاف ما أقره قانون الانتخابات لعام 1953. وبهذه الكيفية بدأت عملية التنكر للقيم الديمقراطية وتوظيف الأغلبية الميكانيكية في البرلمان لخدمة مصالح القوى القطاعية، فضلاً عن عدم الالتفات لمطالب أهل الجنوب بالفيدرالية. في ظل هذه الظروف السياسية المأزوم بدأت عمليَّة الاقتراع 27 فبراير واستمرت حتى 8 مارس 1958م. وفي 13 مارس 1958م أعلنت لجنة الانتخابات نتائج انتخابات مجلس الشيوخ بفوز حزب الأمة بأربعة عشر مقعداً، والأحرار "الجنوبي" بسبعة مقاعد، والوطني الاتحادي بخمسة مقاعد، والشعب الديمقراطي بأربعة مقاعد. ثم عين مجلس السيادة عشرين عضواً لتكملة العدد الكلي لهيئة مجلس الشيوخ، مراعياً في ذلك التمثيل النيابي للأحزاب السياسيَّة في المجلس. أما بالنسبة لمجلس النواب فقد جاء تقسيم الأصوات التي نالها الفائزون، ونسبهم المئويَّة من مجموع الذين أدلوا بأصواتهم (المقترعون)، وتوزيعهم على الأحزاب السياسيَّة على النحو الآتي:-
تحليل نتائج الانتخابات وتداعياتها السياسيَّة في ضوء هذا العرض الإحصائي لنتائج الانتخابات البرلمانيَّة لعام 1958م، يمكننا أن نسجل ملاحظاتنا التحليليَّة في النقاط الآتية:-
أولاً: التوزيع القطاعي للنواب حافظت انتخابات 1958م على التركيبة القطاعيَّة التقليديَّة للنواب، حيث شملت قطاع النواب الذين ينحدرون من خلفيات وظيفيَّة في القطاع العام أو مهنيَّة في القطاع الخاص، وقطاع النواب أصحاب المشاريع الزراعيَّة والتجار، وقطاع نواب الإدارة الأهليَّة. فالنواب الذين ينحدرون من خلفيات وظيفيَّة في الدولة أو مهنيَّة كانوا يشكلون حضوراً كثيفاً في دوائر المديريات الجنوبيَّة الثلاث، والخرطوم، والشماليَّة، ويليهم في الثقل البرلماني أصحاب المشاريع الزراعيَّة والتجار الذين كان لهم نفوذ متعاظم في النيل الأزرق، وكردفان، ودارفور، وبحر الغزال، أما رجال الإدارة الأهليَّة فقد احتلوا المرتبة الثالثة، وكانوا أكثر حضوراً في النيل الأزرق، وكردفان، ودارفور، وكسلا. وداخل البرلمان أعيد تشكيل تلك الولاءات القطاعيَّة حسب الانتماءات الحزبيَّة للنواب، الذين توزعوا بين أحزاب الأمة، والوطني الاتحادي، والأحرار، والشعب الديمقراطي. ولا شك أن إعادة التوزيع بالكيفيَّة التي أشرنا إليها أعلاه تؤكد أن خلفيات أولئك النواب القطاعيَّة كانت تتقاطع سلباً وإيجاباً مع انتماءاتهم الحزبيَّة، وذلك باستثناء حزب الأحرار الذي تشكلت عضويته من نواب المديريات الجنوبيَّة فقط، وتبنى نوابه مطالب أهل الجنوب، ورفعوا شعار الفيدراليَّة مع الشمال، كإشارة مرور لمشاركتهم في عمليَّة التدافع البرلماني، وتسيير مؤسسات الدولة عبر وسائط دستوريَّة. وكانت تلك القوى القطاعيَّة –أيضاً- أقل تأثيراً في عمليَّة الحراك السياسي على الصعيد القومي؛ لأنها كانت محكومة بتوجهات الولاءات الطائفيَّة، التي استوعبتها داخل إطارها المطاطي، ووظفتها توظيفاً مصلحياً في صياغة القرارات السياسيَّة داخل أروقة الحكومة الائتلافيَّة والبرلمان، وفي صالونات الحزبين المؤتلفين عندما يستدعي الأمر تسويَّة خصومات داخليَّة، أو تدبير مناورات سياسيَّة على المستوى القومي. لكن هذا الاستيعاب الوظيفي لا يعنى أن تلك القوى القطاعيَّة كانت راضيَّة عن كل سلوكيات القيادات الطائفيَّة، بدليل أن (محمد أحمد محجوب) وصف لقاء السيدين بأنه "أعظم كارثة مُنيَ بها تاريخ السياسة السودانيَّة"، وأن الاتحاديين عندما اختلفوا مع السيد علي الميرغني رفعوا شعار "لا قداسة مع السياسة" ورفضوا "الكهنوت السياسي والرهبنة". وفي ضوء هذه النماذج يمكننا القول بأن المصالح المشتركة كانت من أقوى العوامل التي جمعت بين تلك المتناقضات، ووظفتها في إطار استمرار الواقع المعيش دون إحداث تغيير راديكالي يعيد تنميط الحياة السياسيَّة في السودان بصورة حديثة تتعارض مع معطيات الماضي وقيمه التقليديَّة، وتسهم في تغيير أساليب الكسب المعيشي، وتحديث العلاقة الجامعة بين الريف والحضر.
ثانياً: غياب القوى الحديثة في انتخابات 1958م
أسهم إلغاء دائرة الخريجين ذات المقاعد الخمسة عام 1957م في أبعاد القوى الحديثة من المشاركة في البرلمان، لأن تلك القوى- وفي مقدمتها الحزب الشيوعي السوداني- لا تملك أي ثقل جماهيري في الدوائر الجغرافيَّة، يمكَّنها من منازلة الأحزاب الطائفيَّة والقوى القبليَّة في انتخابات عام 1958. واستجابة لذلك التحدي فقد نجح الحزب الشيوعي والقوى المصاحبة له في تركيز نشاطهم خارج البرلمان في أوساط النقابات العماليَّة، والطلاب، والمزارعين، وتواصلوا -أيضاً- مع الحزب الوطني الاتحادي، صاحب الأغلبيَّة البرلمانيَّة في مديريَّة الخرطوم، واتفقوا فيما بينهم على كثير من القضايا الخلافيَّة التي كانت تمس سيادة الوطن أو تتعلق بالصالح العام. وتأتي في مقدمة تلك القضايا المثيرة للجدل إجازة الحكومة الائتلافيَّة للمعونة الأمريكيَّة، التي رفضتها القوى السياسيَّة المعارضة داخل البرلمان وخارجه، ودخلت في تحدّ سافر مع الحكومة يقضي بإزاحتها من دست الحكم. وبلغ الأمر ذروته عندما بادر اتحاد طلاب جامعة الخرطوم بعقد مؤتمر شعبي في 29 أكتوبر 1958م، وتمت في ذلك المؤتمر إدانة الحكومة، وأعلن اتحاد عام عمال السودان إضراباً لمدة ثلاثة أيام، شلّ حركة الحياة في السودان. وفي ظلّ إصرار الحكومة على تنفيذ قرارها البرلماني انضمت بعض القوى البرلمانيَّة للمعارضة الشعبيَّة، وتقدم أربعة من وزراء حزب الأمة باستقالاتهم من الحكومة، وظهرت الدعوة إلى تكوين حكومة قوميَّة. وتبلور حصاد ذلك الحراك السياسي في إعلان رئيس الوزراء لحالة الطوارئ في البلاد، وتأجيل انعقاد البرلمان إلى الرابع من ديسمبر 1958م، وبذلك دخلت البلاد في حالة فوضى سياسيَّة، مهدت الطريق لقيام انقلاب 17 نوفمبر 1958م، الذي دق مسماراً في نعش الديمُقراطيَّة الوليدة. وبذلك نخلص إلى أن سياسيَّة الإقصاء التي تبناها الحزبان الحاكمان عبر الوسائط الديمُقراطيَّة المشروعة كانت واحدةً من الأسباب الرئيسة التي أسهمت في تقويض الديمُقراطيَّة نفسها، وخلق قوى مناهضة لسياسات الحكومة خارج البرلمان وداخل مؤسسات المجتمع المدني.
ثالثاً: حزب الأحرار الجنوبي وتوجهاته الفيدراليَّة اتسمت انتخابات عام 1958م بمكر بعض القادة الجنوبيين الذين رشحوا أنفسهم تحت مظلة الأحزاب الشماليَّة، وفازوا بفضل تأييدها المعنوي ودعمها المادي في دوائرهم الانتخابيَّة، لكن بعد إعلان النتائج الانتخابيَّة أفصحوا عن انضمامهم إلى الكتلة الجنوبيَّة الفدراليَّة، وانكشف موقفهم هذا عندما شرع مجلس السيادة في تعيين أعضاء مجلس الشيوخ غير المنتخبين حسب نسب الأحزاب النيابيَّة في المجلسين. فتقدمت الأحزاب الشماليَّة بقوائم تحوى أسماء النواب الشماليين والجنوبيين الذين ترشحوا على هدي مبادئها ودعمها المالي، إلا أن حزب الأحرار اعترض على تلك القوائم، متعللاً بأن كل الجنوبيين الذين فازوا في انتخابات المجلسين ينتمون إلى كتلة الجنوب، وليست لهم أدنى علاقة بالأحزاب الشماليَّة. وفضاً لذلك النـزاع عُقد اجتماع طارئ في القصر الجمهوري في 19 مارس 1958م، حضره عن الأحزاب الشماليَّة عبد الله خليل، وخضر حمد، وعلي عبد الرحمن، ومن الجنوبيين استانسلاوس بياساما، والفريد جون، وتم في ذلك الاجتماع استجواب النواب الجنوبيين عن انتماءاتهم الحزبيَّة واحداً تلو الآخر، فجاءت ردودهم على النسق التالي: أعلن خمسة وثلاثون منهم انتماءهم لكتلة الأحرار الجنوبيين، وأربعة للشعب الديمقراطي، وثلاثة للوطني الاتحادي، واثنان لحزب الأمة، واثنان آخران بأنهما مستقلان. ولا غرو أن مثل هذه المناورات السياسيَّة كانت تعكس طرفاً من انهيار الثقة بين الشمال والجنوب، وتبين أيضاً فساد النواب، وعدم استقرارهم على مبادئ سياسيَّة واضحة المعالم، وقد لاحظنا ذلك من قبل عندما انسلخ نواب طائفة الختميَّة من الحزب الوطني الاتحادي، وانضموا إلى المعارضة، وَشِيع آنذاك بأنهم كانوا يتقاضون رواتب شهريَّة من السكرتير العام لحزب الأمة، عبد الله خليل، مقابل فعلهم السياسي الذي أفضى إلى إضعاف الوطني الاتحادي، وتحويله إلى حزب أقليَّة داخل البرلمان. وقد دفع ذلك الواقع التآمري الصحفي عبد المنعم حسب الله إلى رفع دعوة جنائيَّة ضد رئيس الوزارة الائتلافيَّة، عبد الله خليل، بتهمة الرشوة والتآمر، وأثبت المدعي حيثيات اتهامه أمام محكمة الموضوع بكشف يحوى أسماء نواب الختميَّة والفئات الماليَّة التي حصلوا عليها من عبد الله خليل، وقد أقر الأخير بصحة توقيعه على الكشوفات المعروضة أمام المحكمة، وبذلك ثبت تورط الطرفين في تلك القضيَّة التي سجلت طعنة نجلاء في بنيَّة النظام الديمقراطي الناشئ في السودان، وسابقة سياسيَّة انسحبت عليها مواقف مشابهة عبر التجربة البرلمانيَّة الثانيَّة، وأسهمت بدورها في إفساد العمليَّةالديمُقراطيَّة وتقويض مفهوم تداول السلطة عبر طرق سلميَّة تواضع عليها الناس.
خامساً: نفوذ السيِّدين وسلطة البرلمان والوزارة إن قيام حزب الشعب الديمقراطي قد أحدث تحولاً جوهرياً في كيفيَّة إدارة المؤسسات التشريعيَّة والتنفيذيَّة في الدولة، حيث أضحت عمليَّة صياغة القرار السياسي لا تتم إلا بعد موافقة السيدين، وبذلك فقدت التجربة البرلمانيَّة الوليدة ماهيتها الوظيفيَّة، وأضحى نواب المجلسين كماً مهملاً، لا يقومون بأي دورٍ مؤثر في صناعة القرارات السياسيَّة، وكذلك الحال في مداولات مجلس الوزراء. ولا جدال أن ذلك الواقع كان إفرازاً طبيعياً للعمليَّة الانتخابيَّة نفسها، لأن الترشيح للانتخابات كان يحسم حسب درجة انتماء المرشح إلى الطائفة الدينيَّة التي تساند حزبه، وإلى السند القبلي الذي يتمتع به في دائرته الانتخابيَّة، دون تدقيق في برنامجه الانتخابي المطروح، أو كفاءته المهنيَّة ليكون نائباً برلمانياً، أو طبيعة العلاقة الوظيفيَّة والاجتماعيَّة التي تربطه بمواطني الدائرة الانتخابيَّة التي ترشح فيها. ونسبة لتجاوز تلك القيم المرعيَّة في النظم البرلمانيَّة ظهر في السودان مفهوم الدوائر المقفولة التي كانت حكراً لبيوتات معينة، ذات ثقل قبلي في المنطقة، ودوائر "الإشارة" التي لا تهتم بأهليَّة المرشح وعلاقته بالدائرة الانتخابيَّة، بل يكفيها فقط أن يحصل ذلك المرشح المعني بالأمر على مباركة أحد السيدين الراعي لحزبه. ويصدق في وصف ذلك الواقع قول الدكتور جعفر محمد علي بخيت:
إن أساس مشكلة السلطة بعد الاستقلال في السودان [... أنها] صارت منطقة امتداد للقوى القطاعيَّة، يستغلها كل قطاع عندما يحرزها لخدمة أفكاره، ومصالحه القطاعيَّة، وفي أحيان كثيرة تجد أجهزة السلطة نفسها محاصرة بالأجهزة القطاعيَّة، أسيرة لرغباتها وأهوائها مما يضعف من احترامها لنفسها، وولائها لمثلها. ونسبة إلى تعدد القوى القطاعيَّة، وانقسام قواها بدرجة لا يتيسر لقوة ما الانفراد بالسلطة، فإن نتائج هيمنة القوى القطاعيَّة على منطقة السلطة كان فلاً لنفوذ السلطة بدلاً من أن تصير السلطة جهازاً قادراً على البت، والتنفيذ، والتوجيه، أصبحت أشبه ما تكون بمديَّة صغيرة يبتغي صاحبها أن يقطع بها حلقوم جمل ضخم كبير العنق، فلا ينال من ذلك إلا جرحاً هنا، وشلخاً هناك.
وفي تلك الأثناء نشطت تنظيمات المجتمع المدني، التي أفلحت في حصار السلطة المؤتلفة، ووضعت الحكومة أمام معارضة شرسة داخل البرلمان وخارجه، لم تشفع لها أغلبيتها الميكانيكيَّة، ولا سندها الطائفي الجماهيري، ومن ثم أضحى مصيرها عرضة لتحرشات تنظيمات المجتمع المدني الراديكاليَّة، التي كانت تحلم بقيام ثورة شعبيَّة، تهب من حيث لا ينتظرها الحزبان الحاكمان، وتأتي بعروشهما من القواعد. وفي ظل ذلك النـزاع السياسي المرير برزت المؤسسة العسكريَّة في مخيلة رئيس الوزراء عبد الله خليل كخيار عملي لحسم الفوضى السياسيَّة التي أعقبت انتخابات عام 1958م، وقبل أن تحتفل الحكومة الائتلافيَّة بعامها الأول، أوعز الأميرلاي عبد خليل للمؤسسة العسكريَّة باستلام مقاليد الحكم في السودان في 17 نوفمبر 1958م. وبهذه الكيفية وضعت التجربة الديمقراطية الأولى أسس الفشل للتجارب الديمقراطية اللاحقة لها، كما أفسحت المجال للمؤسسة العسكرية لتكون جزءاً من الحل المرحلي، وطرفاً من مشكلة الحكم المستدامة في السودان.