التراكم الرأسمالي الاولي و نظام المؤتمر الوطني 1989 – 2019
طارق بشري (شبين)
19 July, 2022
19 July, 2022
رؤية ماركسية أولية (1 من 8)
tarig.b.elamin@gmail.com
مقدمة
يميل التحليل الملموس في هذا المقال (البحثي) بشكل كلي إلى القول أن حالات التغييرات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية الملموسة الناتجة عن سيطرة الجبهة الاسلاموية على السلطة في يونيو 1989 وما تتبعه من أشكال الصراع الاجتماعي حتى 2019 و ما زال نتيجة لتراكم الثروة و المال .هذا التراكم الرأسمالي الذي قاد إلى تحولات اجتماعية غير مسبوقة في ا لسودان ما بعد رحيل الحكم الكولونيالي من 1898 إلى 1956.تحولات اجتماعية لم تؤثر فقط على غالبية القوى الاجتماعية ولكن أيضًا على مؤسساتها المدنية و العسكرية وأصولها في الثروة الاجتماعية ومهاراتها التعليمية و المعرفية و صحتها العامة و الخاصة و أساليب حياة الاغلبية و القلة الغنية و في فرص التوظيف وفي اتجاه النمونحو المزيد من انكشاف الاقتصاد السوداني نحو الخارج(تبعية الاقتصاد السوداني و تأثره سلبا بالاقتصادات الإقليمية و الدولية (الدول الرأسمالية المتقدمة من مثل امريكا وفرنسا و بريطانيا و غيرها او الامبريالية الجديدة او ما يسمي brics وهي البرازيل وروسيا والهند وجنوب أفريقيا والصين)) مباشرة الأعمال الخاصة وفق آلية اسواق غير متعارف عليها كلاسيكيا حيث يتحكم فيه اللاعب المتحصل على ثروات و أموال بغير اليات السوق المعروفة بل باليات تراكم راسمالي شملت فيما شملت آليات الاتكاء على اليات الدولة السياسية و القانونية و التشريعية اضافة الي اليات الدولة القمعية.نتناول هنا بالتحليل اولا:سياسات الخصخصة و ثانيا:الاستحواذ علي الريع.ريع الطفرة البترولية (2005 الي 2011) و ما تلاها من من الريع المتحصل من الذهب و ثالثا نزع الاراضي علي نظاق واسع من قبل السلطة و منحها لراس المال الاجنبي و السوداني و رابعا المجمع الاقتصادي العسكري (اقتصاد الجيش+ قوات الدعم السريع +الاجهزة الامنية) .ظلت هذه الاليات الاربعة مدخل للتراكم الراسمالي الغير مسبوق في تاريخ الدولة و الاقتصاد السوداني ونكرر القول بان تركيزنا سوف يتعلق علي الوسائل غير الاقتصادية extra-economic means.لهذا التراكم الراسمالي و الذي كان الاستراتيجية السياسية و الاقتصادية الاولي للراسمالية الطفيلية و تحالفها الاجتماعي المحدد تاريخيا في الفترة من 1989 الي 2019.
المقال سوف يكون في أجزاء متتابعة للنشر و في المقال الأخير سوف نوفر قائمة المراجع و المصادر و التي اعتمدنا عليها.اقسام المقال هي أولا: تمهيد نظري حول مفهوم التراكم الرأسمالي البدائي primitive capital accumulation و يليه ثانيا : مفهوم التراكم الراسمالي عبر السلب capital accumulation by dispossession للمنظر الجغرافي الماركسي ديفيد هارفي و من ثم نقدم عرض نقدي لمفهوم النزع عبر السلب او نوع الملكية والقسم الذي يليه عن التراكم الرأسمالي الأولى في تاريخ السودان من 1898 إلى 1989 و تليه أربعة أقسام عن الخصخصة و نزع الأراضي land grabbing و ريع البترول و الذهب و الخصخصة واقتصاد الجيش و اخيرا سوف نفرد مقالا عن رأسمالية الحياة و الموت necrocapitalism f بتكوننها ممارسات تراكم راسمالية تخضع فيها السلطة (الاسلاموية هنا) الية السوق الحر(وفق مقاييس السلطة لماهية السوق) لمنطق إخضاع الحياة لسلطة الموت.
خلال سنوات حكم الجبهة الاسلاموية و التي هي هي المؤتمر الوطني(الاخوان المتاسلمين) كانت هناك 3 سمات اساسية تحكم المناخ السياسي الاجتماعي العام لفترة حكمهم ال30 عاما وهي أولا الحكم الاستبدادي والذي يعني ضمن ما يعني قمع الحريات الليبرالية من حق التعبير والتنظيم والتظاهر… الخ و ان الحريات الليبرالية ما كانت ممنوحة الا للفئة الراسمالية الطفيلية و تحالفاتها التاريخية المحددة حيث كانت لها حرية التعبير والتنظيم والحركة …الخ . بخصوص علاقة الاستقطاب الاجتماعي ما بين الرأسمال كانت السلطة الحاكمة تمارس كافة أشكال الاستبداد والعنف الخطابي والمادي ضد قوى العمل (نقابات واتحادات العمل) و هذا يستدعي السمة الثانية و هي سيطرة السياسات النيوليبرالية ( تقليص دور الدولة لصالح القطاع الخاص و إفساح المجال لقوى السوق الحر لتحديد اتجاه التنمية في إطار بنية الاقتصاد الريعي و مع تزاوج النيوليبرالية و الاستبداد و العنف السلطوي ربما نستدعي السمة الثالثة و هي ان حكومة المؤتمر الوطني كانت تزاوج ما بين النيوليبرالية و راسمالية الموت و الحياة necrocapitalism و التي تعني وفق Subhabrata Banerjee ( راجع https://bit.ly/3nKJwgx ) الأشكال المعاصرة من التراكم التنظيمي الذي ينطوي على نزع الملكية وإخضاع الحياة لقوة الموت> و بمعنى ان السلطة تحدد في إطار اقتصادها السياسي و العنف و تراكم الثروة من خلال سلب الملكية (العامة و الخاصة) هي من تحدد من يعيش الحياة و من هو يستحق الموت ( مثلا:تذكر قول علي عثمان shoot to kill) و للموت تنويعات اجتماعية و اقتصادية و سياسية مختلفة.ففي هذه السحب الملبدة بالاستبداد و النيوليبرالية و راسمالية الحياة و الموت تأسست استراتيجية سلطة الجبهة الاسلاموية نحو تعظيم تراكم الثروة و هذا ما كان غير مسبوقا في تاريخ السودان ما بعد الكولونيالية.
(1) في مفهوم التراكم الأولي
الدراسات و البحوث التي تاخذ من الحقل النظري لمفهوم تراكم رأس المال(الأولي) لها أهمية أساسية لفهم التطور المتميز للبنية الاجتماعية و تشكلها الاجتماعي التاريخي المحدد. في نظرة كلية ، أن عملية تراكم رأس المال هي المحرك الرئيسي للتاريخ الحديث و من هنا فعند دراسة البنية الاجتماعية لنظام سياسي لبلد ما فإنه بالضرورة في زمننا الحداثي هذا أن تتم قراءة و فهم كيف كان و يتكونن التراكم الرأسمالي. كان ماركس أول من سبق- وفق منهجه التحليلي الملموس - نحو التفسير الكلي للقوانين العامة للتراكم الرأسمالي ، وبالتالي ،أيضا لتطور الرأسمالية.
بدأ التعبير الماركسي على ما يبدو،التراكم البدائي، في الأصل بتأكيد آدم سميث (سميث 1976) على أن «تراكم الثروة من طبيعة الأشياء، يجب أن يكون سابقًا لتقسيم العمل. نهج سميث في التراكم الأولي وصف بالغرابة، على أقل تقدير. بالتأكيد، يتم العثور على تقسيم العمل عبر التاريخ ليس فقط في المجتمعات البشرية انما ايضا يمكن ان نجده في في مجتمعات الحشرات (انظر Morely 1954). ومع ذلك، كان سميث يجعلنا نعتقد أن تقسيم العمل يجب أن ينتظر تراكم الثروة ، وهي الكلمة الرمزية لرأس المال. مثل هذه الفكرة خاطئة بشكل واضح. كيف يمكننا تفسير تقسيم العمل في النمل أو خلية النحل كنتيجة لتراكم الثروة؟ ترجم ماركس كلمة سميث، لتعني (السابق) نقلا عن الالمانية والتي وصفها مترجمو ماركس الإنجليز بدورهم بأنها (بدائية) في هذه العملية، رفض ماركس هذا التصور و الذي قدمه سميث. وناقدا سميث لمحاولته شرح الوجود الحالي للطبقة ( الاجتماعية ) بالإشارة إلى ماض أسطوري يتجاوز قدرتنا على تحديه. أصر ماركس على أن التراكم البدائي يلعب تقريبًا نفس الدور في الاقتصاد السياسي كما تفعل الخطيئة الأصلية في اللاهوت. تشبيه ماركس مناسب وفق بيريلمان. كل من الخطيئة الأصلية والتراكم الأصلي يحولان انتباهنا بعيدًا عن التاريخ الحاضر إلى الماضي الأسطوري، والذي من المفترض أن يفسر (المصائب) التي يعاني منها الناس اليوم.( The invention of capitalism ...Perelman 2000)
في كتابه رأس المال (الجزء الاول) تناول ماركس بالتحليل عملية العمل و بما فيها دراسته للسلع و فائض القيمة ثم تقدم منطقيا لدراسة التراكم الرأسمالي الاولي مزاوجا بين اللغة الساخرة و الجدلية ، وفق تحليله فإن التراكم الرأسمالي الأولي هو أنه تحول في العلاقات الاجتماعية. حيث أنه يشير إلى كل من تلك الكتلة المعتبرة من رأس المال وقوي العمل التي تشكل نقطة البداية لنمط الإنتاج الرأسمالي و الأساليب و المناهج التي يتم بها الحصول على هذه الكتل او الكميات من من رأس المال والقوى العاملة. في كلتا الحالتين ، يتم فصل المنتج المباشر عن وسائل الإنتاج وتحوله إلى عمل مأجور يستغله الرأسمالي، بعد تمظهره أي الرأسمالي باعتباره مكملا للعامل و الذي يمتلك قوة العمل.يقترح فيستوس (1986-Festus lyayi) أنه بالإمكان تحليل التراكم البدائي لرأس المال بالاتكاء على فحص ثلاثة ظواهر تتبدى بكونها منفصلة لكنها شديدة الترابط:
أ) كيف يتم تجميع رأس المال النقدي في أيدي هذا القسم من المجتمع الذي يحول نفسه لاحقًا وبسبب هذا التراكم إلى شريحة من الرأسماليين
ب) كيف يتم تحويل "رأس المال المتراكم" إلى راس مال صناعي اوتجاري او الي شكل اخر من رأس المال، باختصار كيف تؤدي عملية التراكم إلى ظهور الرأسماليين وتطورهم بوصفهم مكملين لعملية العمل و مستحوذين على فائض القيمة الناتج بعد ذلك ؛ و
ج) كيف يتحول المنتجون المباشرون إلى عمال بأجر قابلين ل الاستدعاء الجماعي بما هم عمال أحرار في بيع قوة عملهم.
كما هو معروف، طرح ماركس مفهوم التراكم البدائي لمحاولة فهم الأصول التاريخية للرأسمالية. وينبغي أن و تعددت تاريخيا اشكال هذا التمفصل فيما اشار اليه المفهوم أعلاه ،ومنها علي سبيل المثال لا الحصر – النموذج البريطاني و الذي درسه ماركس - الاستحواذ القسري على الممتلكات العامة من خلال أعمال العنف الفردية وفي الاتكاء على جهاز الدولة المادي و التشريعي لتخفيض أجور العمال ، ومصادر رأس المال النقدي و التي تراكمت أساسا من تمويل عجز الدولة، وسرقة ومصادرة أراضي التاج الملكي والأراضي المملوكة العامة والكنسية،. الربا، وإنشاء الأسواق المحلية، وتدمير المنازل و الاكواخ الريفية و الصناعات البدائية، تخفيض اسعار وقيم الذهب و الفضة. الاستحواذ علي موارد وخيرات الدول المستعمرة من قبل بريطانيا و استخدام الأطفال كعمال اضافة الى انتزاع الاف السكان من أراضيهم الاصلية والاستعباد للسكان الأصليين في الأمريكتين الجنوبية و الشمالية، بداية غزو ونهب جزر الهند الشرقية (Jim Glassman).
طور ماركس نظريته عن "التراكم الأولي" أو ، بشكل أكثر دقة ، "ما يسمى بالتراكم البدائي" ، وهذه إشارة إلى آدم سميث - في محاولة لشرح العنف الذي تمارسه الرأسمالية . في الفصول من 26 إلى 33 من المجلد الأول لرأس المال ، وهو المكان الكلاسيكي لمناقشته حول "محاكاة التراكم البدائي" ، اهتم ماركس بشكل مركزي بالطريقة التي بها الرأسمالية - نمط معين من الإنتاج المدفوع بالاستغلال التنافسي لقوة العمل من أجل خلق فائض القيمة والاستحواذ عليه وتراكمه - تفترض الإقصاء ومصادرة الملكية من خلال وسائل غير اقتصادية(Umut Özsu2009)يكون أحد الجوانب الحاسمة للتراكم البدائي هو تراكم الحقوق غير الملموسة وليس تراكم الموجودات أو السلع الملموسة(P. Chandra & D. Basu 2007).
جرت معالجتان لموضوعةماركس عن التراكم البدائى لراس المال فى التقاليد الماركسية . الاولى معالجة زمنية ارتبطت بممارسة تاريخية قامت بتوفير الظروف التى ادت الى ولادة نمط الانتاج الراسمالي ، اما المعالجة الاخرى فطرحت مفهوم التراكم البدائي كعملية مستمرة داخل نمط الانتاج الراسمالى ، وبالتحديد فى ارتباط بالتحليل الماركسى لخضوع الجنوب العالمى للشمال في بنية الاقتصاد العالمي .
ارتبط مدخل ماركس لتحليل عملية التراكم البدائي بالمفاهيم النظرية المختلفة التي عالج بها مقولة راس المال ، وتأسست عليها باعتبار راس المال كعملية اجتماعية طبقية ، وليس مستودعا للثروة ( او النقود) . يقول ماركس "ان علاقة رأس المال ، تفترض قبلا الفصل الكامل بين العمال وملكية الظروف التى تحقق انتاجية عملهم " . وانطلاقا من تحديد رأس المال كعلاقة اجتماعية طبقية ، يقول ماركس أن هذه العملية تنتج تحولان : “تتحول وسائل الإنتاج الاجتماعية للبقاء على قيد الحياة وللانتاج إلى رأسمال ، ويتحول المنتجون إلى عمال بالأجر " . ثم يقول " ان ما يسمى بـ التراكم البدائى ليس الا سوى العملية التاريخية التى تفرق بين المنتج ووسائل الإنتاج " .
يحاجج ان مقولة التفريق ( او الفصل ) بين العامل ووسائل عيشه (وسائل انتاجه) تنطبق على التراكم كما تنطبق على التراكم البدائي . وفى نظر ماركس ان التراكم هو نفسه التراكم البدائي والذي عرفه ماركس فى حدود عملية التفريق او الفصل ، مرتفعا الى مستويات أعلى من القوة .. وقد كان أكثر دقة فى نظريات القيمة الزائدة ، عندما حدد ان التراكم : “ يعيد إنتاج الانفصال ، والوجود المستقل للثروة المادية فى مقابل او مواجهة العمل وبشكل متزايد " وبالتالى " تعرض – كعملية مستمرة – ما يظهر فى التراكم البدائي كعملية تاريخية متميزة " . ومرة اخرى يقول فى القرونريسى : " وعندما تتحقق عملية الفصل هذه ، تستمر عملية الإنتاج بتحققها من جديد ، وإعادة إنتاجها ، وإعادة إنتاجها المتوسعة " .
ان الفصل بين المنتجين ووسائل الانتاج على المستوى الاجتماعى يعنى موضعة العمل الحى وظروف الإنتاج كقيم مستقلة تقف فى مواجهة بعضها البعض . يقول ماركس :” ان التوسع فى هذه الظروف الموضوعية ، هو فى نفس الوقت عملية إعادة إنتاجها ، وانتاجها الجديد كثروة لذات غريبة تقف مستقلة وغير مهتمة فى موقف ضد (او معاكس) سعة العمل . ان ما ينتج ويعيد إنتاجه ، ليس فقط هو حضور هذه الظروف الموضوعية للعمل الحى ، بل أيضا حضورها كقيم مستقلة ، اى قيم تنتمى الى ذات غريبة، تواجه سعة العمل الحية " .
مفهوم الفصل يوضح ان ك"التراكم الراسمالى هو فى نفس الوقت تراكم للعلاقات الاجتماعية ، فى عملية الانتاج الراسمالية ، لا تنتج فقط بضائع ، لا تنتج فقط قيمة زائدة ، بل تنتج كذلك وتعيد انتاج العلاقات الراسمالية نفسها ، راسمالى فى جانب وعامل فى الجانب الاخر . “
مفهوم او عملية الفصل هو ما يتشاركه التراكم و التراكم البدائي . بينما تنشأ مع التراكم البدائي ، إلا أنها تظهر بعده كعملية ثابتة فى تراكم وتكثيف رأس المال ، قبل ان يتم التعبير عنها أخيرا كمركزة للرأسمال فى يد القليلين ونزعه من يد الكثيرين . يحدد ماركس الفرق بين التراكم و التراكم البدائى بصدد عملية الفصل المذكورة . ففى حالة التراكم يحدث الفصل معتمدا بشكل أساسي على " الإكراه الصامت " الخالص بالعلاقات الاقتصادية التي تضع ختمها فى سيادة الرأسماليين على العمال . اما فى حالة التراكم البدائي فيفرض الفصل بقوى فوق اقتصادية مثل جهاز الدولة ، أقسام محددة من القوى الاجتماعية الطبقية تحرضها بعض القوى الاجتماعية الفاعلة ( مثل بعض اجهزة الدولة ) موجهة ضد بعض الناس الذين يملكون مدخلا مباشرا لوسائل الإنتاج ، وهى عادة ما تأخذ شكلا يهدف وبشكل استراتيجى الى فصلهم عن وسائل الانتاج .
إذن يمكن الإشارة إلى مكونين نظريا فى بناء ماركس لنظرية التراكم البدائي . المكون الأول ان الفصل او عملية التفريق لا تؤشر فقط لانقطاع بين انماط انتاج فى فترة تاريخية" للتحول " . ويعنى هذا أنه لا يمكن حصر التراكم البدائي فى الماضى البعيد ، وانه لا يوجد شئ يمنع حدوثه فى أى وقت ، حتى داخل نمط الإنتاج الرأسمالي ، إذا ما نشأت ظروف جديدة لحدوث عملية الفصل المكورة .
إن تحديد دور عملية الفصل فى تعريف التراكم و التراكم البدائي يتوقف على الشروط التي يتم وفقها عملية الفصل ، مما يفتح الباب لفحص الأشكال الممكنة للتراكم البدائي الماثلة اليوم . أشار ماركس اشكال اخرى من التراكم البدائي مثل تلك التى تتم من خلال التلاعب المالى تمارسة اجهزة الدولة ، يعتبر ماركس الدين العام ، نظام الائتمان العالمى والضرائب كوسائل أساسية لاستمرار التراكم البدائى . فالدين العام هو أحد الدوافع القوية للتراكم البدائي ، فهو يمنح المال غير المنتج القدرة على الخلق ، فيتحول الى راسمال ، بدون عرض نفسه للمخاطره المرتبطة بالنشاط الصناعى ( او المنتج عموما ) . يرتبط بالدين العام بعلاقة تكاملية النظام المالى الحديث ، يقوم على رافعة اساسية هى الضرائب . وكذلك نظام الائتمان العالمى . وهى نماذج تفيد أن التراكم البدائي عند ماركس لم يتخذ شكلا واحدا ( الاحتياز على الاراضى فى انجلترا) بل تم بعدد من الطرق والوسائل.
التنظير الراهن حول مفهوم التراكم الرأسمالي الاولي يتحلق حول قطبين نظرين.فالقطب أو المدرسة الاولي يشدد على الجانب الزمني والآخر يشدد على الجانب التأسيسي أو الأصلي. بالنسبة للمدرسة الأولي، يتم فهم بدائية التراكم البدائي بالمعنى الزمني البحت حيث يُنظر إلى التراكم البدائي على أنه المرحلة التاريخية التي خلقت الشروط المسبقة لتطوير الرأسمالية من خلال فرض فصل العمال ووسائل الإنتاج و مما يعني ان لا قيمة معرفية لهذا المفهوم لدراسة حالات التراكم الرأسمالي الأولى في زمنا المعاصر. بينما تشير المدرسة الثانية إلى أن هناك حجة زمنية(المفهوم هنا ككائن حي له القدرة التفسيرية و النظرية للتحولات الاجتماعية البنيوية) واستمرارية تمتد إلى عصرنا الراهن لمفهوم ماركس حول التراكم الرأسمالي البدائي وهو مما يعنينا في هذا المقال..
////////////////////////////
tarig.b.elamin@gmail.com
مقدمة
يميل التحليل الملموس في هذا المقال (البحثي) بشكل كلي إلى القول أن حالات التغييرات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية الملموسة الناتجة عن سيطرة الجبهة الاسلاموية على السلطة في يونيو 1989 وما تتبعه من أشكال الصراع الاجتماعي حتى 2019 و ما زال نتيجة لتراكم الثروة و المال .هذا التراكم الرأسمالي الذي قاد إلى تحولات اجتماعية غير مسبوقة في ا لسودان ما بعد رحيل الحكم الكولونيالي من 1898 إلى 1956.تحولات اجتماعية لم تؤثر فقط على غالبية القوى الاجتماعية ولكن أيضًا على مؤسساتها المدنية و العسكرية وأصولها في الثروة الاجتماعية ومهاراتها التعليمية و المعرفية و صحتها العامة و الخاصة و أساليب حياة الاغلبية و القلة الغنية و في فرص التوظيف وفي اتجاه النمونحو المزيد من انكشاف الاقتصاد السوداني نحو الخارج(تبعية الاقتصاد السوداني و تأثره سلبا بالاقتصادات الإقليمية و الدولية (الدول الرأسمالية المتقدمة من مثل امريكا وفرنسا و بريطانيا و غيرها او الامبريالية الجديدة او ما يسمي brics وهي البرازيل وروسيا والهند وجنوب أفريقيا والصين)) مباشرة الأعمال الخاصة وفق آلية اسواق غير متعارف عليها كلاسيكيا حيث يتحكم فيه اللاعب المتحصل على ثروات و أموال بغير اليات السوق المعروفة بل باليات تراكم راسمالي شملت فيما شملت آليات الاتكاء على اليات الدولة السياسية و القانونية و التشريعية اضافة الي اليات الدولة القمعية.نتناول هنا بالتحليل اولا:سياسات الخصخصة و ثانيا:الاستحواذ علي الريع.ريع الطفرة البترولية (2005 الي 2011) و ما تلاها من من الريع المتحصل من الذهب و ثالثا نزع الاراضي علي نظاق واسع من قبل السلطة و منحها لراس المال الاجنبي و السوداني و رابعا المجمع الاقتصادي العسكري (اقتصاد الجيش+ قوات الدعم السريع +الاجهزة الامنية) .ظلت هذه الاليات الاربعة مدخل للتراكم الراسمالي الغير مسبوق في تاريخ الدولة و الاقتصاد السوداني ونكرر القول بان تركيزنا سوف يتعلق علي الوسائل غير الاقتصادية extra-economic means.لهذا التراكم الراسمالي و الذي كان الاستراتيجية السياسية و الاقتصادية الاولي للراسمالية الطفيلية و تحالفها الاجتماعي المحدد تاريخيا في الفترة من 1989 الي 2019.
المقال سوف يكون في أجزاء متتابعة للنشر و في المقال الأخير سوف نوفر قائمة المراجع و المصادر و التي اعتمدنا عليها.اقسام المقال هي أولا: تمهيد نظري حول مفهوم التراكم الرأسمالي البدائي primitive capital accumulation و يليه ثانيا : مفهوم التراكم الراسمالي عبر السلب capital accumulation by dispossession للمنظر الجغرافي الماركسي ديفيد هارفي و من ثم نقدم عرض نقدي لمفهوم النزع عبر السلب او نوع الملكية والقسم الذي يليه عن التراكم الرأسمالي الأولى في تاريخ السودان من 1898 إلى 1989 و تليه أربعة أقسام عن الخصخصة و نزع الأراضي land grabbing و ريع البترول و الذهب و الخصخصة واقتصاد الجيش و اخيرا سوف نفرد مقالا عن رأسمالية الحياة و الموت necrocapitalism f بتكوننها ممارسات تراكم راسمالية تخضع فيها السلطة (الاسلاموية هنا) الية السوق الحر(وفق مقاييس السلطة لماهية السوق) لمنطق إخضاع الحياة لسلطة الموت.
خلال سنوات حكم الجبهة الاسلاموية و التي هي هي المؤتمر الوطني(الاخوان المتاسلمين) كانت هناك 3 سمات اساسية تحكم المناخ السياسي الاجتماعي العام لفترة حكمهم ال30 عاما وهي أولا الحكم الاستبدادي والذي يعني ضمن ما يعني قمع الحريات الليبرالية من حق التعبير والتنظيم والتظاهر… الخ و ان الحريات الليبرالية ما كانت ممنوحة الا للفئة الراسمالية الطفيلية و تحالفاتها التاريخية المحددة حيث كانت لها حرية التعبير والتنظيم والحركة …الخ . بخصوص علاقة الاستقطاب الاجتماعي ما بين الرأسمال كانت السلطة الحاكمة تمارس كافة أشكال الاستبداد والعنف الخطابي والمادي ضد قوى العمل (نقابات واتحادات العمل) و هذا يستدعي السمة الثانية و هي سيطرة السياسات النيوليبرالية ( تقليص دور الدولة لصالح القطاع الخاص و إفساح المجال لقوى السوق الحر لتحديد اتجاه التنمية في إطار بنية الاقتصاد الريعي و مع تزاوج النيوليبرالية و الاستبداد و العنف السلطوي ربما نستدعي السمة الثالثة و هي ان حكومة المؤتمر الوطني كانت تزاوج ما بين النيوليبرالية و راسمالية الموت و الحياة necrocapitalism و التي تعني وفق Subhabrata Banerjee ( راجع https://bit.ly/3nKJwgx ) الأشكال المعاصرة من التراكم التنظيمي الذي ينطوي على نزع الملكية وإخضاع الحياة لقوة الموت> و بمعنى ان السلطة تحدد في إطار اقتصادها السياسي و العنف و تراكم الثروة من خلال سلب الملكية (العامة و الخاصة) هي من تحدد من يعيش الحياة و من هو يستحق الموت ( مثلا:تذكر قول علي عثمان shoot to kill) و للموت تنويعات اجتماعية و اقتصادية و سياسية مختلفة.ففي هذه السحب الملبدة بالاستبداد و النيوليبرالية و راسمالية الحياة و الموت تأسست استراتيجية سلطة الجبهة الاسلاموية نحو تعظيم تراكم الثروة و هذا ما كان غير مسبوقا في تاريخ السودان ما بعد الكولونيالية.
(1) في مفهوم التراكم الأولي
الدراسات و البحوث التي تاخذ من الحقل النظري لمفهوم تراكم رأس المال(الأولي) لها أهمية أساسية لفهم التطور المتميز للبنية الاجتماعية و تشكلها الاجتماعي التاريخي المحدد. في نظرة كلية ، أن عملية تراكم رأس المال هي المحرك الرئيسي للتاريخ الحديث و من هنا فعند دراسة البنية الاجتماعية لنظام سياسي لبلد ما فإنه بالضرورة في زمننا الحداثي هذا أن تتم قراءة و فهم كيف كان و يتكونن التراكم الرأسمالي. كان ماركس أول من سبق- وفق منهجه التحليلي الملموس - نحو التفسير الكلي للقوانين العامة للتراكم الرأسمالي ، وبالتالي ،أيضا لتطور الرأسمالية.
بدأ التعبير الماركسي على ما يبدو،التراكم البدائي، في الأصل بتأكيد آدم سميث (سميث 1976) على أن «تراكم الثروة من طبيعة الأشياء، يجب أن يكون سابقًا لتقسيم العمل. نهج سميث في التراكم الأولي وصف بالغرابة، على أقل تقدير. بالتأكيد، يتم العثور على تقسيم العمل عبر التاريخ ليس فقط في المجتمعات البشرية انما ايضا يمكن ان نجده في في مجتمعات الحشرات (انظر Morely 1954). ومع ذلك، كان سميث يجعلنا نعتقد أن تقسيم العمل يجب أن ينتظر تراكم الثروة ، وهي الكلمة الرمزية لرأس المال. مثل هذه الفكرة خاطئة بشكل واضح. كيف يمكننا تفسير تقسيم العمل في النمل أو خلية النحل كنتيجة لتراكم الثروة؟ ترجم ماركس كلمة سميث، لتعني (السابق) نقلا عن الالمانية والتي وصفها مترجمو ماركس الإنجليز بدورهم بأنها (بدائية) في هذه العملية، رفض ماركس هذا التصور و الذي قدمه سميث. وناقدا سميث لمحاولته شرح الوجود الحالي للطبقة ( الاجتماعية ) بالإشارة إلى ماض أسطوري يتجاوز قدرتنا على تحديه. أصر ماركس على أن التراكم البدائي يلعب تقريبًا نفس الدور في الاقتصاد السياسي كما تفعل الخطيئة الأصلية في اللاهوت. تشبيه ماركس مناسب وفق بيريلمان. كل من الخطيئة الأصلية والتراكم الأصلي يحولان انتباهنا بعيدًا عن التاريخ الحاضر إلى الماضي الأسطوري، والذي من المفترض أن يفسر (المصائب) التي يعاني منها الناس اليوم.( The invention of capitalism ...Perelman 2000)
في كتابه رأس المال (الجزء الاول) تناول ماركس بالتحليل عملية العمل و بما فيها دراسته للسلع و فائض القيمة ثم تقدم منطقيا لدراسة التراكم الرأسمالي الاولي مزاوجا بين اللغة الساخرة و الجدلية ، وفق تحليله فإن التراكم الرأسمالي الأولي هو أنه تحول في العلاقات الاجتماعية. حيث أنه يشير إلى كل من تلك الكتلة المعتبرة من رأس المال وقوي العمل التي تشكل نقطة البداية لنمط الإنتاج الرأسمالي و الأساليب و المناهج التي يتم بها الحصول على هذه الكتل او الكميات من من رأس المال والقوى العاملة. في كلتا الحالتين ، يتم فصل المنتج المباشر عن وسائل الإنتاج وتحوله إلى عمل مأجور يستغله الرأسمالي، بعد تمظهره أي الرأسمالي باعتباره مكملا للعامل و الذي يمتلك قوة العمل.يقترح فيستوس (1986-Festus lyayi) أنه بالإمكان تحليل التراكم البدائي لرأس المال بالاتكاء على فحص ثلاثة ظواهر تتبدى بكونها منفصلة لكنها شديدة الترابط:
أ) كيف يتم تجميع رأس المال النقدي في أيدي هذا القسم من المجتمع الذي يحول نفسه لاحقًا وبسبب هذا التراكم إلى شريحة من الرأسماليين
ب) كيف يتم تحويل "رأس المال المتراكم" إلى راس مال صناعي اوتجاري او الي شكل اخر من رأس المال، باختصار كيف تؤدي عملية التراكم إلى ظهور الرأسماليين وتطورهم بوصفهم مكملين لعملية العمل و مستحوذين على فائض القيمة الناتج بعد ذلك ؛ و
ج) كيف يتحول المنتجون المباشرون إلى عمال بأجر قابلين ل الاستدعاء الجماعي بما هم عمال أحرار في بيع قوة عملهم.
كما هو معروف، طرح ماركس مفهوم التراكم البدائي لمحاولة فهم الأصول التاريخية للرأسمالية. وينبغي أن و تعددت تاريخيا اشكال هذا التمفصل فيما اشار اليه المفهوم أعلاه ،ومنها علي سبيل المثال لا الحصر – النموذج البريطاني و الذي درسه ماركس - الاستحواذ القسري على الممتلكات العامة من خلال أعمال العنف الفردية وفي الاتكاء على جهاز الدولة المادي و التشريعي لتخفيض أجور العمال ، ومصادر رأس المال النقدي و التي تراكمت أساسا من تمويل عجز الدولة، وسرقة ومصادرة أراضي التاج الملكي والأراضي المملوكة العامة والكنسية،. الربا، وإنشاء الأسواق المحلية، وتدمير المنازل و الاكواخ الريفية و الصناعات البدائية، تخفيض اسعار وقيم الذهب و الفضة. الاستحواذ علي موارد وخيرات الدول المستعمرة من قبل بريطانيا و استخدام الأطفال كعمال اضافة الى انتزاع الاف السكان من أراضيهم الاصلية والاستعباد للسكان الأصليين في الأمريكتين الجنوبية و الشمالية، بداية غزو ونهب جزر الهند الشرقية (Jim Glassman).
طور ماركس نظريته عن "التراكم الأولي" أو ، بشكل أكثر دقة ، "ما يسمى بالتراكم البدائي" ، وهذه إشارة إلى آدم سميث - في محاولة لشرح العنف الذي تمارسه الرأسمالية . في الفصول من 26 إلى 33 من المجلد الأول لرأس المال ، وهو المكان الكلاسيكي لمناقشته حول "محاكاة التراكم البدائي" ، اهتم ماركس بشكل مركزي بالطريقة التي بها الرأسمالية - نمط معين من الإنتاج المدفوع بالاستغلال التنافسي لقوة العمل من أجل خلق فائض القيمة والاستحواذ عليه وتراكمه - تفترض الإقصاء ومصادرة الملكية من خلال وسائل غير اقتصادية(Umut Özsu2009)يكون أحد الجوانب الحاسمة للتراكم البدائي هو تراكم الحقوق غير الملموسة وليس تراكم الموجودات أو السلع الملموسة(P. Chandra & D. Basu 2007).
جرت معالجتان لموضوعةماركس عن التراكم البدائى لراس المال فى التقاليد الماركسية . الاولى معالجة زمنية ارتبطت بممارسة تاريخية قامت بتوفير الظروف التى ادت الى ولادة نمط الانتاج الراسمالي ، اما المعالجة الاخرى فطرحت مفهوم التراكم البدائي كعملية مستمرة داخل نمط الانتاج الراسمالى ، وبالتحديد فى ارتباط بالتحليل الماركسى لخضوع الجنوب العالمى للشمال في بنية الاقتصاد العالمي .
ارتبط مدخل ماركس لتحليل عملية التراكم البدائي بالمفاهيم النظرية المختلفة التي عالج بها مقولة راس المال ، وتأسست عليها باعتبار راس المال كعملية اجتماعية طبقية ، وليس مستودعا للثروة ( او النقود) . يقول ماركس "ان علاقة رأس المال ، تفترض قبلا الفصل الكامل بين العمال وملكية الظروف التى تحقق انتاجية عملهم " . وانطلاقا من تحديد رأس المال كعلاقة اجتماعية طبقية ، يقول ماركس أن هذه العملية تنتج تحولان : “تتحول وسائل الإنتاج الاجتماعية للبقاء على قيد الحياة وللانتاج إلى رأسمال ، ويتحول المنتجون إلى عمال بالأجر " . ثم يقول " ان ما يسمى بـ التراكم البدائى ليس الا سوى العملية التاريخية التى تفرق بين المنتج ووسائل الإنتاج " .
يحاجج ان مقولة التفريق ( او الفصل ) بين العامل ووسائل عيشه (وسائل انتاجه) تنطبق على التراكم كما تنطبق على التراكم البدائي . وفى نظر ماركس ان التراكم هو نفسه التراكم البدائي والذي عرفه ماركس فى حدود عملية التفريق او الفصل ، مرتفعا الى مستويات أعلى من القوة .. وقد كان أكثر دقة فى نظريات القيمة الزائدة ، عندما حدد ان التراكم : “ يعيد إنتاج الانفصال ، والوجود المستقل للثروة المادية فى مقابل او مواجهة العمل وبشكل متزايد " وبالتالى " تعرض – كعملية مستمرة – ما يظهر فى التراكم البدائي كعملية تاريخية متميزة " . ومرة اخرى يقول فى القرونريسى : " وعندما تتحقق عملية الفصل هذه ، تستمر عملية الإنتاج بتحققها من جديد ، وإعادة إنتاجها ، وإعادة إنتاجها المتوسعة " .
ان الفصل بين المنتجين ووسائل الانتاج على المستوى الاجتماعى يعنى موضعة العمل الحى وظروف الإنتاج كقيم مستقلة تقف فى مواجهة بعضها البعض . يقول ماركس :” ان التوسع فى هذه الظروف الموضوعية ، هو فى نفس الوقت عملية إعادة إنتاجها ، وانتاجها الجديد كثروة لذات غريبة تقف مستقلة وغير مهتمة فى موقف ضد (او معاكس) سعة العمل . ان ما ينتج ويعيد إنتاجه ، ليس فقط هو حضور هذه الظروف الموضوعية للعمل الحى ، بل أيضا حضورها كقيم مستقلة ، اى قيم تنتمى الى ذات غريبة، تواجه سعة العمل الحية " .
مفهوم الفصل يوضح ان ك"التراكم الراسمالى هو فى نفس الوقت تراكم للعلاقات الاجتماعية ، فى عملية الانتاج الراسمالية ، لا تنتج فقط بضائع ، لا تنتج فقط قيمة زائدة ، بل تنتج كذلك وتعيد انتاج العلاقات الراسمالية نفسها ، راسمالى فى جانب وعامل فى الجانب الاخر . “
مفهوم او عملية الفصل هو ما يتشاركه التراكم و التراكم البدائي . بينما تنشأ مع التراكم البدائي ، إلا أنها تظهر بعده كعملية ثابتة فى تراكم وتكثيف رأس المال ، قبل ان يتم التعبير عنها أخيرا كمركزة للرأسمال فى يد القليلين ونزعه من يد الكثيرين . يحدد ماركس الفرق بين التراكم و التراكم البدائى بصدد عملية الفصل المذكورة . ففى حالة التراكم يحدث الفصل معتمدا بشكل أساسي على " الإكراه الصامت " الخالص بالعلاقات الاقتصادية التي تضع ختمها فى سيادة الرأسماليين على العمال . اما فى حالة التراكم البدائي فيفرض الفصل بقوى فوق اقتصادية مثل جهاز الدولة ، أقسام محددة من القوى الاجتماعية الطبقية تحرضها بعض القوى الاجتماعية الفاعلة ( مثل بعض اجهزة الدولة ) موجهة ضد بعض الناس الذين يملكون مدخلا مباشرا لوسائل الإنتاج ، وهى عادة ما تأخذ شكلا يهدف وبشكل استراتيجى الى فصلهم عن وسائل الانتاج .
إذن يمكن الإشارة إلى مكونين نظريا فى بناء ماركس لنظرية التراكم البدائي . المكون الأول ان الفصل او عملية التفريق لا تؤشر فقط لانقطاع بين انماط انتاج فى فترة تاريخية" للتحول " . ويعنى هذا أنه لا يمكن حصر التراكم البدائي فى الماضى البعيد ، وانه لا يوجد شئ يمنع حدوثه فى أى وقت ، حتى داخل نمط الإنتاج الرأسمالي ، إذا ما نشأت ظروف جديدة لحدوث عملية الفصل المكورة .
إن تحديد دور عملية الفصل فى تعريف التراكم و التراكم البدائي يتوقف على الشروط التي يتم وفقها عملية الفصل ، مما يفتح الباب لفحص الأشكال الممكنة للتراكم البدائي الماثلة اليوم . أشار ماركس اشكال اخرى من التراكم البدائي مثل تلك التى تتم من خلال التلاعب المالى تمارسة اجهزة الدولة ، يعتبر ماركس الدين العام ، نظام الائتمان العالمى والضرائب كوسائل أساسية لاستمرار التراكم البدائى . فالدين العام هو أحد الدوافع القوية للتراكم البدائي ، فهو يمنح المال غير المنتج القدرة على الخلق ، فيتحول الى راسمال ، بدون عرض نفسه للمخاطره المرتبطة بالنشاط الصناعى ( او المنتج عموما ) . يرتبط بالدين العام بعلاقة تكاملية النظام المالى الحديث ، يقوم على رافعة اساسية هى الضرائب . وكذلك نظام الائتمان العالمى . وهى نماذج تفيد أن التراكم البدائي عند ماركس لم يتخذ شكلا واحدا ( الاحتياز على الاراضى فى انجلترا) بل تم بعدد من الطرق والوسائل.
التنظير الراهن حول مفهوم التراكم الرأسمالي الاولي يتحلق حول قطبين نظرين.فالقطب أو المدرسة الاولي يشدد على الجانب الزمني والآخر يشدد على الجانب التأسيسي أو الأصلي. بالنسبة للمدرسة الأولي، يتم فهم بدائية التراكم البدائي بالمعنى الزمني البحت حيث يُنظر إلى التراكم البدائي على أنه المرحلة التاريخية التي خلقت الشروط المسبقة لتطوير الرأسمالية من خلال فرض فصل العمال ووسائل الإنتاج و مما يعني ان لا قيمة معرفية لهذا المفهوم لدراسة حالات التراكم الرأسمالي الأولى في زمنا المعاصر. بينما تشير المدرسة الثانية إلى أن هناك حجة زمنية(المفهوم هنا ككائن حي له القدرة التفسيرية و النظرية للتحولات الاجتماعية البنيوية) واستمرارية تمتد إلى عصرنا الراهن لمفهوم ماركس حول التراكم الرأسمالي البدائي وهو مما يعنينا في هذا المقال..
////////////////////////////