التنمية والتكيف في حالات الاضطرابات السياسية والاقتصادية
د. نازك حامد الهاشمي
13 March, 2024
13 March, 2024
د. نازك حامد الهاشمي
تُعد الهشاشة والصراع والعنف من أبرز التحديات العالمية الجديدة، التي قد تنتج عن عدم الاستقرار والحروب الأهلية وتعاقب الكوارث المناخية الأخرى. وتفضي الهشاشة والصراع والعنف في الغالب إلى سلسلة من المخاطر المتداخلة التي يظهر انعكاسها على الأوضاع الاقتصادية بصورة مباشرة. ودائما ما يتسبب عدم الاستقرار السياسي الى انتقال الهشاشة عبر الحدود، خاصة من الدول المجاورة، مما يؤدي إلى نزوح السكان، وخلق أزمات مختلفة للاجئين، بالإضافة إلى العديد من الجرائم العابرة للحدود. وكل هذا وغيره من العوامل التي تضاعف من تعقيدات الأمن والسلم على المستويات المحلية والإقليمية وحتى الدولية.
وتعد السمة المميزة لهشاشة الدولة هي انخفاض مستويات قدرتها على تنفيذ مهامها ومسؤولياتها الرئيسية. وهنالك أبعاد لقياس الهشاشة التي تستخدم وتتمثل في العنف، والعدالة، والمؤسسات، والأسس الاقتصادية، والقدرة على الصمود في وجه الكوارث والأزمات. ويمكن أن تختلف نوعية تلك الهشاشة من دولة لأخرى. ودائما ما تعتبر القارة الافريقية خير مثال للمناطق المتأثرة بالصراع والهشاشة. وتواجه البلدان فيها، خاصة تلك التي عانت من هشاشة طويلة الأمد، نسبةً عالية من الفقر، وانعداماً للأمن الغذائي، وضعفاً كبيراً في البنية التحتية والخدمات العامة، وانكماشاً في تنوع الاقتصاد فيها، وعجزاً مؤسسياً كبيراً بها، مع انعدام مبادئ الحكم الرشيد فيها. وكل هذا يجعل تلك البلدان عرضةً لأزمات متعددة من أهمها الصراعات الداخلية وعدم الاستقرار السياسي والأمني. وفقاً لتقرير صادر من البنك الدولي (في أبريل 2023م) ذكر فيه أنه بحلول عام 2030م، ستشكل البلدان المتأثرة بأوضاع الهشاشة والصراع والعنف ما يقدر بنحو 59٪ من الفقراء المدقعين في العالم.
ومن أهم الانعكاسات السالبة على الاقتصاد، ما تحدثه الاضطرابات والصراعات من تأثيرات كبيرة على حركة السلع الأولية والتوريد بين الدول، خاصة في مناطق التوترات الجيوسياسية، ولا سيما في أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط. وهذا ما يتسبب في ارتفاع تكاليف الشحن بين القارات. وترتفع أسعار السلع وتظل متقلبة، وقد تزداد الضغوط على الأسعار لتنعكس على أسعار الخدمات أيضا وبقية النشاطات الاقتصادية الأخرى التي من أهمها أسعار الفائدة. وسترتفع في هذه الحالات أسعار الفائدة طويلة الأجل، وهذا مما من شأنه زيادة الضغوط على الحكومات لكي تستمر في ضبط وتعديل مستمر للمالية العامة، وهو مما قد يؤثر بدوره سلباً على النمو الاقتصادي.
ومن الأمثلة الحديثة على ما ذكرنا آنفاً، هي التعديلات التي تمت في مسار الشحنات العالمية مؤخرا بسبب هجمات الحوثيين في البحر الأحمر التي دفعت إلى تحويل مسار الشحنات لتدور حول إفريقيا. ويتضح من ذلك أن انعدام الاستقرار الجيو- اقتصادي بات هو المعطى الجديد في العلاقات الدولية، وهو مرهون باستمرار هذه التوترات في التصاعد. وذكر العديد من الخبراء الاقتصادين أن أزمة البحر الأحمر القائمة الآن تعمق من المخاوف العالمية من ترجيح عودة التضخم للارتفاع مجددا في حال استمرارها. حيث إن انقطاع شبكات الإمداد وتقلبات أسواق الطاقة هو من المعطيات الجديدة في المنافسة الدولية، وهو الأمر الذي يتطلب من العالم ضرورة التكيف معه.
ومن المعلوم أن البحر الأحمر يكتسب أهمية جيو - إستراتيجية مميزة، إلى جانب موقعه الرابط بين القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأوروبا، وبه نقاط إستراتيجية عديدة، منها قناة السويس ومضيق باب المندب. ويعد المعبران من أهم المعابر الاستراتيجية، وقد شكلا البعد الجيو - إستراتيجي للبحر الأحمر، حيث ارتبط وجودهما بتمثيل خط الملاحة الأقصر والأقل تكلفة بين شرق آسيا وأفريقيا وأوروبا، وصار أكثر الطرق التجارية حيويةً في العالم. كذلك تأتي أهمية البحر الأحمر كونه المنفذ البحري الوحيد للعديد من الدول مثل الأردن والسودان وإريتريا وجيبوتي. كذلك تكمن الأهمية الأمنية والعسكرية للبحر الأحمر كونه يعتبر ممراً إستراتيجياً لحركة الأساطيل الحربية بين البحر المتوسط والمحيط الهندي وأفريقيا، لذلك ظل موقعاً للصراع الإقليمي والدولي.
ومعلوم أيضاً أن السودان يمتلك واحداً من أكبر الموانئ على ساحل البحر الأحمر؛ ويعد ميناء بورتسودان إحدى أكبر وسائل النقل البحري إقليمياً ودولياً، ويعود تاريخ إنشائه إلى عام1909م. كما توجد بالسودان عدداً من الجزر على البحر لاحمر تبلغ نحو 36 جزيرة، وأهمها مجموعة جزر سواكن، إلا أن السودان لم يحسن استغلالها اقتصاديا. ومن المؤكد كذلك أن البحر الأحمر يحتوي على ثروة قيمة من الموارد المعدنية والحياة البيولوجية والشعاب المرجانية بالإضافة لثروة سمكية كبيرة، والكثير من المنتجات التي يمكن استخلاصها لصناعة الأدوية والمنتجات الطبيعية. وكان من الممكن أن تمثل تلك الثروات البحرية رافدا اقتصاديا مهما، كان له أن يعمل على دعم اقتصاد الدولة. وبالإضافة لتك الثروات البحرية هناك مجال لازدهار الاقتصاد السياحي في البحر الأحمر، إذ أن به بيئة جاذبة للسياحة يمكن الاستفادة منها مثلما فعلت بعض دول الجوار في شواطئها المطلة على البحر الأحمر وأقامت مدن سياحية به.
ويعد افتقاد التنوع في الاقتصاد إحدى أكبر مشاكل تحقيق الاستدامة في التنمية. وللابتكار والتنوع دور محوري في النمو الاقتصادي، حيث يؤديان إلى تطوير المنتجات والخدمات الجديدة، ويعملان على خلق فرص عمل جديدة، ويزيدان من الدخل والثروة. ولذلك تعد الطاقة من المشروعات الداعمة للنمو الاقتصادي في الدول النامية خاصة الدول الافريقية، وواحدة من أهم الموارد الاقتصادية الداعمة للتنوع الاقتصادي. وكان بنك التنمية الافريقي قد قام في عام 2019م بإطلاق مبادرة "من الصحراء إلى الطاقة"، للاستفادة من إمكانات الطاقة الشمسية في 11 دولة في منطقة الساحل (بوركينا فاسو، تشاد، جيبوتي، إريتريا، إثيوبيا، مالي، موريتانيا، النيجر، نيجيريا، السنغال، والسودان) من خلال الاستثمار في إنتاج الطاقة الشمسية وتوفير الوصول إلى الكهرباء. وظل هدف تلك المبادرة هو زيادة القدرة على إنتاج الطاقة الشمسية بمقدار 10 جيجاوات من عام 2019م وحتى عام 2030م، من خلال المشاريع العامة والخاصة، داخل وخارج الشبكة، وذلك لتزويد 250 مليون شخص بإمكانية الوصول إلى الكهرباء. غير أن السودان، فيما يبدو، لم يستفد من تلك المبادرة بالصورة المطلوبة (https://www.afdb.org/en/search/content/sudan)
ومعلوم أن السودان يتمتع برأس مال طبيعي وقوي، ويزخر بكم هائل من الموارد الطبيعية، بما في ذلك الأراضي الصالحة للزراعة والثروة الحيوانية والمعادن وغيرها. وتشير جل الدراسات والتقارير إلى أن السودان يعوقه نقص التمويل حتى يستطيع تسخير هذه الموارد لتحقيق التحول الاقتصادي. وهذا النقص يسير متلازما مع إهمال التخطيط المستقبلي، مثل قضايا وسياسات تغير المناخ، حيث يواجه السودان تدهوراً في حالة الأراضي وارتفاع درجات الحرارة وحالات متكررة للجفاف والفيضانات، وعدم انتظام هطول الأمطار، الأمر الذي ينتج عنه عادةً انخفاض في الإنتاج الزراعي. وأفضى كل ذلك إلى تباطؤ النمو في الناتج المحلي الإجمالي. وكذلك تعمل فجوة تمويل المناخ على الحد من قدرة الدولة على بناء إستراتيجيات للتكيف مع تغير المناخ. كما ورد في تقرير مجموعة بنك التنمية الافريقي أن نسبة البطالة في السودان كانت قد بلغت 20.6% عام 2022م، وعزا التقرير تلك النسبة المرتفعة بصورة جزئية إلى انخفاض النشاط الاقتصادي بسبب عدم الاستقرار السياسي. وكانت التوقعات المستقبلية تشير إلى تحسن نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.0% في عام 2023 م، و3.8% في عام 2024م في حال حدوث استقرار سياسي في السودان.، وكان من المتوقع أيضاً أن يكون النمو مدفوعا بالزراعة والتعدين في جانب العرض، وبزيادة الاستهلاك الخاص والاستثمار في جانب الطلب.
وعند الاطلاع على تجارب الدول التي كانت قد عانت من الحروب الأهلية والصراعات الداخلية تبقى مشاركة الخبرة البشرية من أهم العوامل المفيدة والملهمة للغاية، ومن أجل المعرفة والاسترشاد بكيفية إعادة بناء المجتمع والدولة. وتعد دولة رواندا خير مثال للخروج من الازمات الاقتصادية في إفريقيا، وذلك عقب سنوات طويلة وعنيفة من الحرب الأهلية والصراعات الداخلية، حيث استطاعت إعادة هيكلة وبناء الدولة، عبر عدد من الآليات والإستراتيجيات، واتبعت فيها تلك الدولة (التي لا تزيد مساحتها عن 26,33 كـم2 وسكانها عن نحو 13 مليون نسمة) أسرع الطرق في التنمية باستخدام التقنية في التعليم، وعبر تأسيس لقاعدة بيانات بعد إنشاء أول قمر اصطناعي بها، سهل توفير بيانات دقيقة تدعم الخطط والدراسة لمشروعات التنمية في مجالات عدة أهمها جمع البيانات حول موارد المياه والكوارث الطبيعية والزراعة والأرصاد الجوي. كذلك ساهمت التكنولوجيا في دعم نظام حكومة رواندا الإلكترونية. وكانت مرحلة التحول نحو النماء بالضرورة إطلاق عدد من الإصلاحات الاقتصادية الراسخة لدعم بناء الاقتصاد الجديد لرواندا، من خلال إعادة صياغة قوانين الضرائب، وإعادة هيكلة السياسة النقدية لخفض التضخم الذي كان يقضي على كافة أدوات التنمية. كما هدفت سياساتها في مدى أول داعم لتكوين الثروات، وفي مدى آخر إلى تقليل الاعتماد على المعونات والقروض الدولية. وهذا ما مكنها من خلق طبقة وسطى منتجة ومتعلمة تعمل على خلق وتعزيز التنمية وتساهم في تطوير اقتصاد البلاد. كذلك بالطبع اتبعت الدولة السياسات وسنت القوانين التي تعزز من المصالحة الأهلية والتماسك والسلم المجتمعي.
ومعلوم أنه مع كل أزمة تظهر فرصا للإصلاح. ورغم وجود إقرارٍ عالمي واضح عند الاستجابة للأزمات، بأن هنالك تداخلا للعلاقات بين العمل الإنساني والتنمية والعمل الدبلوماسي وحتى الأمني، فإن التركيز على الاستثمارات الطويلة الأجل يعتبر واحداً من الحلول الضرورية لتحقيق التنمية الاقتصادية، ولمنع تجدد الصراعات، فلا يمكن تحقيق سلام دائم دون إحراز تقدم مستدام نحو الاستقرار والرخاء، ودون اتخاذ قرارات تفضي إلى التوازن بين الاحتياجات الأمنية قصيرة الأجل، والاحتياج إلى التنمية طويلة الأجل، حيث إن نقص الأمن، وانعدام الاستقرار، وعدم توفر فرص العمل، والفساد، وضعف تقديم الخدمات يعتبر من بين أهم المخاطر التي تعيق النمو الطويل الأجل. ويتطلب ذلك تحقيق مستويات عالية من النمو المتنوع الذي يسير متوازيا مع تحقيق السلام والاستقرار ومستويات معيشة أفضل للسكان.
وللتحرر من واقع الهشاشة سواءً أكانت اقتصادية أو أمنية لا بد من مسار شامل لاستراتيجية قومية موحدة،
يستعان فيها بالجهات الفاعلة في مجالات التنمية، بوضع برامج تمكنها من القيام بدعم النمو الاقتصادي، وتحسين الحوكمة وعمل المؤسسات التي تشكل أساس الاستقرار. وبما أن العالم يشهد عدداً من التوترات الدولية والمخاطر الجيوسياسية، فإن ذلك يستوجب كذلك وضع إطاراً تشخيصياً للتجارة وتقييماً لإمكانات الدول للاستفادة من التكامل التجاري والإقليمي، بالإضافة للتعاون العابر للحدود، وهو أمر أساسي للحد من الصراعات ولتحقيق النمو والاستقرار.
nazikelhashmi@hotmail.com
تُعد الهشاشة والصراع والعنف من أبرز التحديات العالمية الجديدة، التي قد تنتج عن عدم الاستقرار والحروب الأهلية وتعاقب الكوارث المناخية الأخرى. وتفضي الهشاشة والصراع والعنف في الغالب إلى سلسلة من المخاطر المتداخلة التي يظهر انعكاسها على الأوضاع الاقتصادية بصورة مباشرة. ودائما ما يتسبب عدم الاستقرار السياسي الى انتقال الهشاشة عبر الحدود، خاصة من الدول المجاورة، مما يؤدي إلى نزوح السكان، وخلق أزمات مختلفة للاجئين، بالإضافة إلى العديد من الجرائم العابرة للحدود. وكل هذا وغيره من العوامل التي تضاعف من تعقيدات الأمن والسلم على المستويات المحلية والإقليمية وحتى الدولية.
وتعد السمة المميزة لهشاشة الدولة هي انخفاض مستويات قدرتها على تنفيذ مهامها ومسؤولياتها الرئيسية. وهنالك أبعاد لقياس الهشاشة التي تستخدم وتتمثل في العنف، والعدالة، والمؤسسات، والأسس الاقتصادية، والقدرة على الصمود في وجه الكوارث والأزمات. ويمكن أن تختلف نوعية تلك الهشاشة من دولة لأخرى. ودائما ما تعتبر القارة الافريقية خير مثال للمناطق المتأثرة بالصراع والهشاشة. وتواجه البلدان فيها، خاصة تلك التي عانت من هشاشة طويلة الأمد، نسبةً عالية من الفقر، وانعداماً للأمن الغذائي، وضعفاً كبيراً في البنية التحتية والخدمات العامة، وانكماشاً في تنوع الاقتصاد فيها، وعجزاً مؤسسياً كبيراً بها، مع انعدام مبادئ الحكم الرشيد فيها. وكل هذا يجعل تلك البلدان عرضةً لأزمات متعددة من أهمها الصراعات الداخلية وعدم الاستقرار السياسي والأمني. وفقاً لتقرير صادر من البنك الدولي (في أبريل 2023م) ذكر فيه أنه بحلول عام 2030م، ستشكل البلدان المتأثرة بأوضاع الهشاشة والصراع والعنف ما يقدر بنحو 59٪ من الفقراء المدقعين في العالم.
ومن أهم الانعكاسات السالبة على الاقتصاد، ما تحدثه الاضطرابات والصراعات من تأثيرات كبيرة على حركة السلع الأولية والتوريد بين الدول، خاصة في مناطق التوترات الجيوسياسية، ولا سيما في أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط. وهذا ما يتسبب في ارتفاع تكاليف الشحن بين القارات. وترتفع أسعار السلع وتظل متقلبة، وقد تزداد الضغوط على الأسعار لتنعكس على أسعار الخدمات أيضا وبقية النشاطات الاقتصادية الأخرى التي من أهمها أسعار الفائدة. وسترتفع في هذه الحالات أسعار الفائدة طويلة الأجل، وهذا مما من شأنه زيادة الضغوط على الحكومات لكي تستمر في ضبط وتعديل مستمر للمالية العامة، وهو مما قد يؤثر بدوره سلباً على النمو الاقتصادي.
ومن الأمثلة الحديثة على ما ذكرنا آنفاً، هي التعديلات التي تمت في مسار الشحنات العالمية مؤخرا بسبب هجمات الحوثيين في البحر الأحمر التي دفعت إلى تحويل مسار الشحنات لتدور حول إفريقيا. ويتضح من ذلك أن انعدام الاستقرار الجيو- اقتصادي بات هو المعطى الجديد في العلاقات الدولية، وهو مرهون باستمرار هذه التوترات في التصاعد. وذكر العديد من الخبراء الاقتصادين أن أزمة البحر الأحمر القائمة الآن تعمق من المخاوف العالمية من ترجيح عودة التضخم للارتفاع مجددا في حال استمرارها. حيث إن انقطاع شبكات الإمداد وتقلبات أسواق الطاقة هو من المعطيات الجديدة في المنافسة الدولية، وهو الأمر الذي يتطلب من العالم ضرورة التكيف معه.
ومن المعلوم أن البحر الأحمر يكتسب أهمية جيو - إستراتيجية مميزة، إلى جانب موقعه الرابط بين القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأوروبا، وبه نقاط إستراتيجية عديدة، منها قناة السويس ومضيق باب المندب. ويعد المعبران من أهم المعابر الاستراتيجية، وقد شكلا البعد الجيو - إستراتيجي للبحر الأحمر، حيث ارتبط وجودهما بتمثيل خط الملاحة الأقصر والأقل تكلفة بين شرق آسيا وأفريقيا وأوروبا، وصار أكثر الطرق التجارية حيويةً في العالم. كذلك تأتي أهمية البحر الأحمر كونه المنفذ البحري الوحيد للعديد من الدول مثل الأردن والسودان وإريتريا وجيبوتي. كذلك تكمن الأهمية الأمنية والعسكرية للبحر الأحمر كونه يعتبر ممراً إستراتيجياً لحركة الأساطيل الحربية بين البحر المتوسط والمحيط الهندي وأفريقيا، لذلك ظل موقعاً للصراع الإقليمي والدولي.
ومعلوم أيضاً أن السودان يمتلك واحداً من أكبر الموانئ على ساحل البحر الأحمر؛ ويعد ميناء بورتسودان إحدى أكبر وسائل النقل البحري إقليمياً ودولياً، ويعود تاريخ إنشائه إلى عام1909م. كما توجد بالسودان عدداً من الجزر على البحر لاحمر تبلغ نحو 36 جزيرة، وأهمها مجموعة جزر سواكن، إلا أن السودان لم يحسن استغلالها اقتصاديا. ومن المؤكد كذلك أن البحر الأحمر يحتوي على ثروة قيمة من الموارد المعدنية والحياة البيولوجية والشعاب المرجانية بالإضافة لثروة سمكية كبيرة، والكثير من المنتجات التي يمكن استخلاصها لصناعة الأدوية والمنتجات الطبيعية. وكان من الممكن أن تمثل تلك الثروات البحرية رافدا اقتصاديا مهما، كان له أن يعمل على دعم اقتصاد الدولة. وبالإضافة لتك الثروات البحرية هناك مجال لازدهار الاقتصاد السياحي في البحر الأحمر، إذ أن به بيئة جاذبة للسياحة يمكن الاستفادة منها مثلما فعلت بعض دول الجوار في شواطئها المطلة على البحر الأحمر وأقامت مدن سياحية به.
ويعد افتقاد التنوع في الاقتصاد إحدى أكبر مشاكل تحقيق الاستدامة في التنمية. وللابتكار والتنوع دور محوري في النمو الاقتصادي، حيث يؤديان إلى تطوير المنتجات والخدمات الجديدة، ويعملان على خلق فرص عمل جديدة، ويزيدان من الدخل والثروة. ولذلك تعد الطاقة من المشروعات الداعمة للنمو الاقتصادي في الدول النامية خاصة الدول الافريقية، وواحدة من أهم الموارد الاقتصادية الداعمة للتنوع الاقتصادي. وكان بنك التنمية الافريقي قد قام في عام 2019م بإطلاق مبادرة "من الصحراء إلى الطاقة"، للاستفادة من إمكانات الطاقة الشمسية في 11 دولة في منطقة الساحل (بوركينا فاسو، تشاد، جيبوتي، إريتريا، إثيوبيا، مالي، موريتانيا، النيجر، نيجيريا، السنغال، والسودان) من خلال الاستثمار في إنتاج الطاقة الشمسية وتوفير الوصول إلى الكهرباء. وظل هدف تلك المبادرة هو زيادة القدرة على إنتاج الطاقة الشمسية بمقدار 10 جيجاوات من عام 2019م وحتى عام 2030م، من خلال المشاريع العامة والخاصة، داخل وخارج الشبكة، وذلك لتزويد 250 مليون شخص بإمكانية الوصول إلى الكهرباء. غير أن السودان، فيما يبدو، لم يستفد من تلك المبادرة بالصورة المطلوبة (https://www.afdb.org/en/search/content/sudan)
ومعلوم أن السودان يتمتع برأس مال طبيعي وقوي، ويزخر بكم هائل من الموارد الطبيعية، بما في ذلك الأراضي الصالحة للزراعة والثروة الحيوانية والمعادن وغيرها. وتشير جل الدراسات والتقارير إلى أن السودان يعوقه نقص التمويل حتى يستطيع تسخير هذه الموارد لتحقيق التحول الاقتصادي. وهذا النقص يسير متلازما مع إهمال التخطيط المستقبلي، مثل قضايا وسياسات تغير المناخ، حيث يواجه السودان تدهوراً في حالة الأراضي وارتفاع درجات الحرارة وحالات متكررة للجفاف والفيضانات، وعدم انتظام هطول الأمطار، الأمر الذي ينتج عنه عادةً انخفاض في الإنتاج الزراعي. وأفضى كل ذلك إلى تباطؤ النمو في الناتج المحلي الإجمالي. وكذلك تعمل فجوة تمويل المناخ على الحد من قدرة الدولة على بناء إستراتيجيات للتكيف مع تغير المناخ. كما ورد في تقرير مجموعة بنك التنمية الافريقي أن نسبة البطالة في السودان كانت قد بلغت 20.6% عام 2022م، وعزا التقرير تلك النسبة المرتفعة بصورة جزئية إلى انخفاض النشاط الاقتصادي بسبب عدم الاستقرار السياسي. وكانت التوقعات المستقبلية تشير إلى تحسن نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.0% في عام 2023 م، و3.8% في عام 2024م في حال حدوث استقرار سياسي في السودان.، وكان من المتوقع أيضاً أن يكون النمو مدفوعا بالزراعة والتعدين في جانب العرض، وبزيادة الاستهلاك الخاص والاستثمار في جانب الطلب.
وعند الاطلاع على تجارب الدول التي كانت قد عانت من الحروب الأهلية والصراعات الداخلية تبقى مشاركة الخبرة البشرية من أهم العوامل المفيدة والملهمة للغاية، ومن أجل المعرفة والاسترشاد بكيفية إعادة بناء المجتمع والدولة. وتعد دولة رواندا خير مثال للخروج من الازمات الاقتصادية في إفريقيا، وذلك عقب سنوات طويلة وعنيفة من الحرب الأهلية والصراعات الداخلية، حيث استطاعت إعادة هيكلة وبناء الدولة، عبر عدد من الآليات والإستراتيجيات، واتبعت فيها تلك الدولة (التي لا تزيد مساحتها عن 26,33 كـم2 وسكانها عن نحو 13 مليون نسمة) أسرع الطرق في التنمية باستخدام التقنية في التعليم، وعبر تأسيس لقاعدة بيانات بعد إنشاء أول قمر اصطناعي بها، سهل توفير بيانات دقيقة تدعم الخطط والدراسة لمشروعات التنمية في مجالات عدة أهمها جمع البيانات حول موارد المياه والكوارث الطبيعية والزراعة والأرصاد الجوي. كذلك ساهمت التكنولوجيا في دعم نظام حكومة رواندا الإلكترونية. وكانت مرحلة التحول نحو النماء بالضرورة إطلاق عدد من الإصلاحات الاقتصادية الراسخة لدعم بناء الاقتصاد الجديد لرواندا، من خلال إعادة صياغة قوانين الضرائب، وإعادة هيكلة السياسة النقدية لخفض التضخم الذي كان يقضي على كافة أدوات التنمية. كما هدفت سياساتها في مدى أول داعم لتكوين الثروات، وفي مدى آخر إلى تقليل الاعتماد على المعونات والقروض الدولية. وهذا ما مكنها من خلق طبقة وسطى منتجة ومتعلمة تعمل على خلق وتعزيز التنمية وتساهم في تطوير اقتصاد البلاد. كذلك بالطبع اتبعت الدولة السياسات وسنت القوانين التي تعزز من المصالحة الأهلية والتماسك والسلم المجتمعي.
ومعلوم أنه مع كل أزمة تظهر فرصا للإصلاح. ورغم وجود إقرارٍ عالمي واضح عند الاستجابة للأزمات، بأن هنالك تداخلا للعلاقات بين العمل الإنساني والتنمية والعمل الدبلوماسي وحتى الأمني، فإن التركيز على الاستثمارات الطويلة الأجل يعتبر واحداً من الحلول الضرورية لتحقيق التنمية الاقتصادية، ولمنع تجدد الصراعات، فلا يمكن تحقيق سلام دائم دون إحراز تقدم مستدام نحو الاستقرار والرخاء، ودون اتخاذ قرارات تفضي إلى التوازن بين الاحتياجات الأمنية قصيرة الأجل، والاحتياج إلى التنمية طويلة الأجل، حيث إن نقص الأمن، وانعدام الاستقرار، وعدم توفر فرص العمل، والفساد، وضعف تقديم الخدمات يعتبر من بين أهم المخاطر التي تعيق النمو الطويل الأجل. ويتطلب ذلك تحقيق مستويات عالية من النمو المتنوع الذي يسير متوازيا مع تحقيق السلام والاستقرار ومستويات معيشة أفضل للسكان.
وللتحرر من واقع الهشاشة سواءً أكانت اقتصادية أو أمنية لا بد من مسار شامل لاستراتيجية قومية موحدة،
يستعان فيها بالجهات الفاعلة في مجالات التنمية، بوضع برامج تمكنها من القيام بدعم النمو الاقتصادي، وتحسين الحوكمة وعمل المؤسسات التي تشكل أساس الاستقرار. وبما أن العالم يشهد عدداً من التوترات الدولية والمخاطر الجيوسياسية، فإن ذلك يستوجب كذلك وضع إطاراً تشخيصياً للتجارة وتقييماً لإمكانات الدول للاستفادة من التكامل التجاري والإقليمي، بالإضافة للتعاون العابر للحدود، وهو أمر أساسي للحد من الصراعات ولتحقيق النمو والاستقرار.
nazikelhashmi@hotmail.com