الثور

 


 

شوقي بدري
24 January, 2020

 

 

shawgibadri@hotmail.com

يأتي نهر السوباط من الهضبة الاثيوبية وعند الحدود السودانية ترقد مدينة الناصر عاصمة قبيلة الانجواك ، وان كان النوير يشاركونهم الانتماء للناصر . الانجواك اول من استعان بالاسلحة النارية بسبب وجودهم في السودان اثيوبيا والتي لا تمنع الحكومة فيها حيازة الاسلحة النارية بواسطة المدنيين . للانجواك مثل الشلك حكم مركزي وشيوخ قرى وحلال خارج الناصر ، الا ان النوير محاربون اشاوس يحبون الحرية والاستقلال ولا تحدهم سلطة مركزية .
يندفع السوباط هادرا في فصل الخريف الا انه في نهاية الصيف يسير متسكعا تحيطه المناظر الطبيعية الجميلة على الضفتين والغابات موطن كل انواع الحيوانات البرية . واخير يقبل السوباط النيل الابيض عند التوفيقية عاصمة اعالي النيل قبل ان تنتقل العاصمة الى مدينه ملكال واسمها الحقيقي هو ماكال وهذا اسم نوع من الثيران وهي على بعد عشرة اميال شمالا . لنهر السوباط الكثير من الروافد آخرها ماعرف بخور فلوس على الضفة الجنوبية ، وهنا ،، البنطون،، بارجة تحمل السيارات ، الشاحنات والناس عبر السوباط ، وتدار بتروس ضخمة بايدي عمال عن طريق الحبل السميك المجدول من الحديد والمثبت على الجانبين بكتل خرصانية ضخمة .
بالقرب من البنطون يسكن العمال الذين يديرون البنطون على مدار الساعة وطيلة السنة وليست هنالك رسوم للعبورفي الزمن الذي كانت الحكومة تعمل لراحة المواطن وليس تعاسته. كما توجد منازل جميله ، حديقة ومزرعة تسر العين خارج مبنى السجن القريب . وعلى مسافة قصيرة توجد قرية الدليب تميزها اشجار الدليب العملاقة وبعض اشجار الدوم المميزة والمجموعتان على وشك طرح ثمارهم عند هطول الامطار التي ستأتي بعد اسابيع . ثمار الدليب ضخمة وقد تزن الحبة الواحدة ثلاثة كيلو جرامات .
احد اشجار الدليب كانت قصيرة مقارنة بالحجم الطبيعي الذي قد يقارب العشرين مترا . كانت على حافة الماء ، جزء من ساقها قد اختفي للناظر من ضفة النهر المرتفعة وكانت ثمارها اقرب لمن على الشاطئ . نجح ثلاثة من الاطفال في سن الثانية عشر يصحبهم اطفال في عمر السادسة والسابعة في صنع حبل من سعف اشجار الدوم التي لم ترتفع كثرا عن الارض . وفي ذلك الحبل صنعوا انشوطة . تسلق اكبر الصبية ساق شجرة الدليب وقام بطعن بعض الثمار بقناة الرمح الذي انتزعوا نصله واستخدموه كسكين في الحصول على السعف المستخدم في صناعة الحبل . وكان يتذوق رأس القناة للتأكد من ان طعم الثمار قد صارحلوا . ثم حاول لمرات عديدة وضع الانشوطة حول احد الثمار الحلوة ، ونجح بعد مشقة . وبعد محاولات عديدة تمكن الاطفال من اسقاط احدى الثمارعن طرق التعلق بالحبل ، وجلسوا للاستمتاع بالثمار وسيعيدون الكرة مرة اخري .
امام البنطون كان هنالك رتل من شاحنات الجيش في انتظار عبور السوباط في طريقها الي الاستوائية . صار من غير المسموح للشاحنات المدنية من استخدان البنطون ، تلك كانت الدكتاتورية العسكرية الاولى واهل الكاكي يملأهم الفخر . الشاحنات المدنية تتوقف باستكانة وسائقيها يلعنون الدنيا فبضائعهم من المفروض ان تصل لاهلها لكي يعودوا في سباق محموم لقضاء اكبر قدر من المشاوير قبل ان يأتي الخريف وترحل الشاحنات الى الشمال خوفا من الانغراس في ارض اعالي النيل الصلصالية .
على الضفة الجنوبية كان هنالك كثير من البشر وكأنهم في فستفال عند مدخل الرافد على نهر السوباط . ولم تكن المياه بعميقة بسبب الصيف وتوقف الامطار لنصف عام ، وعند انخفاض الماء تهرع الاسماك الى السوباط حتى لا تكون ضحية للحيوانت المفترسة والانسان الذي يجمعها ويقوم بتجفيفها كمحزون بروتيتي جيد طيلة العام ، يعرف بالكجيك او المندجي . اما اسماك القرموط العملاقة وما يعرف عالميا ب،، كات فيش ،، فتدفن نفسها في الطين الذي يجف تماما تاركة منفذا صغيرا تتنفس منه في انتظار الامطار بعد نصف العام او اكثر . وخلف سور من الاغصان الرفيعة المغروسة على عرض المجرى كان يقف مجموعة في الشباب وبيدهم رماح باسنان مرعبة يترقبون اصطدام الاسماك الهاربة من السلال بالأغصان فتكشف عن موقعها وتتاح الفرصة للصيادين لطعنها برماحهم . وعلى بعد عشرات الامتار تقف النساء في صف واحد وهن يحملن سلالا كبيرة مخروطية مصنوعة من الاغصان مفتوحة من الجانبين ، الا ان الفتحة العليا ضيقة . كن يرفعن االسلال ويضعنها في الماء في نفس الوقت . ومن تحس انها قد اصطادت سمكة تدخل يدها وتخرج السمكة وتطوح بها الى الشاطئ وتجمعها الفتيات وهن يغردن بضحكات ومداعبات ترسل الدماء لقلوب الشباب . احدى الفتيات كانت طويلة القامة لا تتوقف عن السير كاشفة عن قامتها الممشوقة وجمالها وعلى نصفها الاعلى صدار من الخرز وتعرف ان النظرات تتابعها . فالصدار يعني انها قد صارت مستعدة للزواج وعلى من يثق بنفسه ان يتقدم .
احدي النسوة كانت مختلفة فلقد كانت تحمل علامات الشلك على جبهتا قي شكل حبيبات مصطفة وتضع في وسطها قطعة من القماس يحليها الخرز يسمونها ،، بانو ،، كانت خاصة بنساء الشلك . بقية النسوة كن يحملن خطوطا مستقيمة على جباههن ورؤوسهن حليقة كعادة الدينكا وابناء عمومتهم النوير .
السيدة كانت تمسك بنوع من السمك يعرف بالثعبان له جسم خشن انسيابي كالثعبان و حراب صغيرة على ظهره . وقبل ان تطوح بالثعبان الضخم بعيدا عن الماء تتوقف حركتها وهى تنظر الى المرتفع وشاب طويل القامة يرتدي جلبابا وعمامة ملونة تعرف ...بالشال يحبها الشباب . يجد ثعباب السمك فرصة للتملص والعودة الى الماء، بعد ان جعل اصابع السيدة تنزف . لم تهتم السيدة بل غسلت يديها بالماء وهرعت لترتدي ،، اللاوي ،، وهو قطعة كبير من القماش تربط في الكتف . واشارت للفتاة الجميلة بلبس قطعتها وسط استغراب الفتاة . ولكن عندما شاهدت الشخص القادم لم تتردد .
امسكت السيدة اشول بيد الشاب القادم بيديها الاثنتين وهزتهما بشدة ثم لمست خده بحنان . تطلع الجميع وتابعوا المشهد . توقفت السلال وتدلت الحراب بجانب الشباب مسترخية . ولكن بعد عدة جمل كانت السيدة تهتز ودموعها تسيل ، وهي تردد غير مصدقة ..... اكول اكول ؟ ولم يكن الكلام عن الشمس التي تعنيها الكلمة ولكن اكول كاسم شخص ، لا بد انه كان يعني الكثير للسيدة اشول
يظهر شمالى آخر يرتدي البنطال وقميص وحذاء يغطي اسفل ساقه . كان يحمل بندقية خرطوش ويتبخطر وكانه يمتلك الكون . وبعد تبادل بعض العبارات يتعرض حامل البندقية للصفع والضرب وتنتزع البندقية من كتفه ويقبض الرجل صاحب الشال بماسورة البندقية ويطوح بها لتسطدم بحافة الشاطئ العالية وتجد طريقها الى الماء وسط صراخ وتشنج صاحب البندقية الذي نسى الاهانة والضرب وصار همه انقاذ البندقية التي كانت تساوي ثروة وتعطيه احساسا بالاهمية . ويرفض المتواجدون في المساعدة لاخراج البندقية بعد ان حذرهم الرجل الغاضب بلهجة هي خليط من الشلكاوية والدينكاوية . وعندما بدا صاحب البندقية في البكاء . تطلب السيده اشول من الرجل الغاضب ان يساعد في استرجاع البندقية . ويبدو انه لن يرفض لها امرا .
على اثرمناداة الرجل يحضر اثنين من آكلي ثمار الدليب سباحة من الشاطي الآخر . وبعد عدة محاولات من الغطس تأتي البندقية . وينتزع صاحب الشال ما قد يعتبر ثروة من جيب حامل البندقية ويضع تلك القطع الفضية في ايدي الاطفال الذين لم يكن يصدقون اعينهم .
صاحب البندقية صاحب اللون الفاتح هوالمهندس سعد الذي عرف فيما بعد باسم طرزان ، شخصية هوليوود . هو الرجل الابيض قاهر الوحوش في ادغال افريقيا . سعى سعد لان ينقل الى الجنوب ، اشترى بندقية الخرطوش ومعدات المعسكرات من منظار مقرب ، زمزمية ، خنجرا وفاسا صغيرا كاميرا ومعدات صيد الاسماك الاوربية الخ من المتجر المشهور في الخرطوم ،، هاوس اوف اسبورت ،،. صدم عندما اكتشف ان لملكال مساكن رائعة على شاطئ النيل تحيطها الحدائق الغناء واشجار المانقو الموز الجوافة الباباي الخ ، بها نوادي اجتماية مدارس جميلة مباني رائعة فرق للعب لكرة القدم والسلة ، ميادين للتنس جامع فاخر وكنائس وكل مظاهر المدنية . وعندما شاهد اللوري الذي يتم شحنه بجوالات الاسمنت في مخازن مصلحة الاشغال، وان اللوري في طريقه الى بلدة فشلا على الحدود الاثوبية ، والمنطقة مليئة بالصيد ولا تزال بكرا وبعيدة عن المدنية ، احس بأنه سيجد ارض المغامرات التي سيحكي عنها عندما يعود الى الخرطوم .
بعد الكثير من التردد وتدخل الكثيرين وافق طه صاحب اللوري باصطحاب المهندس سعد بعد ان شدد عليه بأن ينفذ كل ما يطلب منه وان يلتزم باحترام اهل الديار وان له تجارب غير طيبة مع من يحضرون من الخرطوم . كانت الرحلة مهمة لأن العمل في جسر فشلا قد توقف لصغر كمية الاسمنت الموجودة وكل العملية يجب ان تنفذ في يوم واحد . كانت تلك العملية اسعافية ، تلك القنطرة قد تعرضت للتخريب في انتفاضة جنوب السودان الاولى ، كانوا يريدون تأهيل الجسر من جديد وبسرعة .
المهندس سعد شاهد بعض الدينكا في محادثة وترحيب بطه وكانوا في طريقهم سيرا الى ملكال التي سيصلونها بعد اربعة ساعات . كانوا يشيرون لمنطقة حفل صيد السمك وتردد اسم اشول . بعدها شدد طه على طرزان عدم ترك الشاحنة والبقاء مع الزين اخ طه الذي لم يكن يتكلم كثيرا وكان في حالة وجوم . الا ان طرزان الذي كان يبحث عن مغامرة سيحكيها للاهل في الخرطوم تابع طه متجاهلا التحذير ، وعندما شاهد ،، بتاو،، الجميلة تقف كتمثال ابنوسي والسيدة اشول تقبض على يد طه. استفسر عن غرابة اهمال الفتاة الجميلة والاهتمام بما اسماها ب ،،الخادم العجوز ،، .
سعد كان يقف محاولا اصطياد عربة عائدة الى ملكال حاملا كل اغراضه ومنها كرسي قابل للطى والكاميرا التي تتدلى من عنقه . كان منظره يبدو مضحكا بقبعته العريضة ووجهه يحمل كدمات اول مغامرة له في الجنوب . فلولا مناشدة السيدة لتواصل الضرب ، طه كان يفور من الغضب.ولم يفهم سعد السبب !
قبل ربع قرن من ذلك الزمان كان التاجر دفع الله الذي اتى فقيرا من قرية صغيرة خارج مدينة عطبرة قد صار صاحب متجر معقول وله مشروع زراعي صغير ينتج القطن والذرة في شمال اعالي النيل، وله بندقيتان للصيد مثل الكثير من الشماليين . وزوجته على وشك ان تضع مولودها الاول . كان يبحث عن فتاة عاقلة لمساعدة زوجته في اعمال المنزل ورعاية الطفل .
العم ادوك الذي حضر مع زوجته وابنته الشابة الصغيرة من غرب ملكال الغرض كان بيع معزة صغيرة السن وابتياع بعض الذرة والاغراض المنزلية . اتوا على احد من عشرات زوارق الشلك المعروفة بالشروك وهى عبارة عن جزع شجرة مجوف , تأتي في الصباح محملة بالخضروات القصب الطرور الفحم الحطب السمن والاسماك الدجاج الخ . زوجته وابنته كانتا في طريقهن الى سوق الدخولية حيث يجلس النسوة ويبعن كل شئ . كانتا تحملان كمية من الاصداف الكبيرة لبيعها والتي تستخدم كملاعق لاكل وجبة الولول الشهية . وهى حبيبات مستديرة مصنوعة من طحين الذرة تضاف الى الاسماك المطهية ، اللحم ،العسل مع الروب او السمن وكل ما يخطر على البال . والشلك كانوا اجود الطباخين يمتازون بالنظافة الشديدة في اجسامهم وملابسهم وحب الملابس الجميلة والزينة ، ولهاذا يحب البعض الزواج بفتياتهم .
الصدفة هي التي جمعت التاجر دفع الله بالعم ادوك . انتقلت المعزة للمالك الجديد وانتقل بعض المال الى بائع المعزة .استفسر التاجر عن امكانية ايجاد فتاة عاقلة لخدمة زوجته . عادت انجاملو من ابنتها اشول لتمكث بعض الايام في منزل التاجر، وبعد ان تأكدت واطمأنت لوضع ابنتها الجديد عادت الى قريتها في غرب ملكال . كانت تتردد على ابنتها كلما اتت الى السوق . استمرت اشول في العناية بطه الى ان بلغ سن الفطام . وعندما اتى وقت الوداع كان طه الصغير يبكي وكانت اشول تبكي فلقد اعطت الصغير كل حبها واهتمامها متحملة في كثير من الاحيان مضايقات والدته وقسوتها . كانت الام تكتفي بارضاع طه وتتركه لها وتذهب الى الجارات للثرثرة وتعود لارضاعه مرة اخرى ثم تنام . بعد سنة من فطام طه كانت والدته تعاني من ألام المخاض مرة اخري . ولكن لم يكتب لها او الجنين الذي كان طفلة الحياة . وصار دفع الله يبدو وكأنه ليس بمسيطر على حياته. بدا اصدقاءه في تقديم الكثير من العروض لتزويجه شقيقاتهم او قريباتهم . اما شقيقه الماحي فقد خاطب اهله لتزويج دفع الله بشقيقة زوجته التي انتقلت الى رحمة مولاها .
ما حدث كان حديث ملكال . دفع الله بدأ في شراء الأبقار التى فاضت بها حظيرة البقر التي تعرف بالواك . واختفت الابقار وبدلا من الابقار ظهرت اشول . تغير حال دفع الله وصار مرحا لطيفا يتعامل مع الجميع باريحية وكرم لا تنكد حياته زوجة كثيرة الشكوى والطلبات . صار شقيقه الماحي متجهما . كثر الكلام ولكن الجميع عرفوا ان مناقشة دفع الهه والتدخل في شأنه نوع من الجنون . واستمرت الحياة في ملكال رزق دفع اله بطفل صار اسمه في شهادة الميلاد الزين دفع الله الزين . لم تنقطع علاقة دفع الله بشقيقه الا انها كانت باردة اذ لم يغفر له ما اعتبره اهانة للاسرة بسبب زواجه من جنوبية . صارت جارات اشول يترددن عليها بعد ما لمسن ادبها وعدم تدخلها في ما لا يعنيها . كما كانت تعتني بدفع الله وتتفاني في خدمته. ما عرف عن الشلكاويات انهن يعظمن ازواجهن . اما علاقتها بطه فقد كانت فوق الوصف . كانت تقول دائما انه ابنها الاول.
ما ان اكمل الزين او اكول كما تناديه والدته في بعض الاحيان عامه السابع حتى التحق بمدرسة البندر الاولية شرق الجامع الكبير . صار طه في السنة الاولى في المدرسة الوسطى . كان كل شي على ما يرام الا من ثور ضخم ابيض اللون يعرف نوعه عند الدينكا ،، بماريل ،،. لم يفكر دفع الله ان الثيرا والكثير من الحيوانات وحتى الافيال عندما تسيطر عليها هرمونات الذكور تصير شرسة وتعتبر كل انسان او حيوان منافسا لهم . والثيران في تلك الظروف تستخدم قرونها الكبيرة في الهجوم . من يعرفون هذه الحقيقة يعرفون متى يتفادون الثيرات الجمال او الافيال في السيرك او في الخدمة
انفضت ثلاثة ايام ودفع الله التاجر المعروف بود الزين في المستشفى وبعدها اسلم الروح كان الدفن في الليل وامتلأت المقابر في شمال شرق ملكال بالمصابيح التي تعمل بالضغط والجاز . لم يبق الكثير من رجال ملكال في بيتهم ذلك المساء ولسبعة ايام كان المأتم يجمع اغلب الناس .
سارت الامور سريعا مكثت اشول محبوسة في المنزل لاكتمال عدتها بالرغم من انها واهلها كانوا يريدون ان يقيموا مأتما حسب تقاليد الشلك . حكم القاضي للماحي بحضانة الاولاد ونسى الناس انها حسب الشرع كزوجة لها ثمن المنزل المشروع والدكان ولابنها نصف ما تبقى .
فجأة يجد اكول نفسه في قرية والده مع جده وجدته . جده الزين كان رجلا سمحا لين العريكة، اما جدته فكانت امرأة متسلطة . بدا الامر بالموس وهى ترسم حرفا لاتينيا علي خديه برغبة جدته في غياب جده .ولم يكن الا اقلية من التلاميد يحملون تلك التشويهات على وجوههم ولم يكن والده يحملها لانها عادة متخلفة مثل ختان الاناث . ولسبب ما مارسوها مع الزين الصغير وربما لاثبات نسبه وكأنه جمل يوضعون عليه وسم القبيلة. وكانما ارادت جدته ان تنفي عنه انتماءه للجنوب . لم يكن يؤلمه وصفه كل الوقت بابن الشلكاوية بقدر ما كان يؤلمه سخرية الاغلبية من الجنوبيين ونظرتهم الدونية . اما مفارقة والدته فقد كادت ان تصيبه بالجنون . ولم يفهم لماذا يكذب الكبار ؟ ولماذا قالوا له انه ذاهب في اجازة وسيعود لامه ؟ لم تكن معاركه تنتهي مع بقية الصبية الا لتبدأ وتلك المعارك جعلته قويا جثمانيا ونفسيا . صار الجميع يهابونه ويحترمونه خاصة في بداية شبابه فقد صار قويا يتمتع بقامة جدوده الشلك . ولولا لطف جده وحبه الصادق له لما قدر على الصبر كل تلك المدة . كانوا يقولون له انه لا يمكن ان يعود لوالدته كلما سأل لانها قد تزوجت برجل من الدينكا ولها اطفال منه . وربما لا تريده في حياتها ، كان هذا يؤلمه كثيرا .
وبعد ان تخطى العشرين ها هو الزين يعود لوطنه . ان الاشياء التي يتعود عليها الانسان عندما يفتح عينيه على الدنيا من طبيعة منازل بشر رائحة الارض الاشجار الناس ومذاق الاطعمة المشروبات يبقى لنهاية الحياة . لهذا كان الزين يحس بالانتماءعند رجوعه لملكال .
السيدة اشول هرعت الى قريتها ،، اوتل في بداية الطريق الذي بنتهي في يوغندة على بعد مئات الاميال . وكانت تكاد ان تطير من الفرح . وعندما وصلت القرية اخبرت زوجها ،، اتيم ،، شيخ القرية وابناءة ،، اجوت ،، و ،،اوو،، اشقاء بتاو الكبار بخبر الزائر الذي سيأتي بعد المغرب .
بعد ان عبر قائد الفرقة العسكرية الذي اتى في النهاية على ظهر عربة الجيب ، حتى عبر طه بعربته كاول شاحنة . وبعد رحلة قصيرة كان عند قرية اوتل .
في البداية كان اكول متحفظا ويقف متصلبا . ولكن مع صراخ والدته ودموعها صار يحتضنها وهو يشيح بوجهه ليخفي دموعة ولكن بعد فترة كان ينتحب ويضم امه الى صدره وكأنه يريد ان يدخله بين ضلوعه . بعدها تعرف باخته ابوك من امه واجوت كان في الحادية عشر .
بعد العشاء بالسمك والمنوكولو او الولول كان الولول بالعسل والسمن . احضر طه السكر الشاي والبلح والتبغ لاتيم ثم الجاز الابيض وزيت السمسم من الشاحنة . وبعد تردد انزل السرير السفري الذي ينام عليه وحقيبة اخيه اكول الصغيرة. وطلب من اكول ان يبقي مع امه واخوته وسيغادر الى فشلا مع المساعد وسيعود بعد يومين . لا يحتاج للسرير لانه سيواصل القيادة الى فشلا بدون نوم وقد يأخذ منه الامر 12 ساعة مخترقا كل بلاد النوير وعند نهر اكوبو ومركز اكوبو آخر مركز للنوير سينحرف جنوبا الى بلاد المورلي بلدة بيبور على نهر بيبور ثم فشلا . وسيعود باسرع فرصة .
العم اتيم كان سعيدا لحضور اكول . وهو قد تزوج من السيدة اشول بعد وفاة زوجته ،، ورزق منها ببنت وولد والبنت ابوك قرة عينه ومصدر سعادته . لم يذهب سوي الصغار الى النوم واستمر الجميع في سمر مع التمر والفول السوداني . وبالرغم من الظلام كانت هنالك شحنات من الكهرباء بين بتاو واكول . وفي الصباح رفضت بتاو ارتداء الصدار الجميل الدي كانت تسعد بارتدائه .
لم يحضر طه كما وعد . لقد وجد فرصة لاخذ بعض المؤن من فشلا الى حامية صغيرة للجيش في جبل بومة وتلك من اجمل بلاد الله تكاد ان تكون ارضها مغطاة بالصيد والحياة البرية . وفي قرية اوتل بالقرب من نهر السوباط كانت السيدة اشول تطهي الولول واكول وبتاو يجوبون المنطقة مصحوبين بأبوك الضاحكة واجوت الذي يتغمص شخصبة المحارب . وعندما يهجع الجميع تبقى بتاو مع اكول يتسامران ويضحكان اكبر وقت من الليل . وحتى عندما لا تستيقظ بتاو في الفجر كعادتها لا تلومها زوجة والدها على كسلها . وبعد ان قام اكول بذبح خروف بسكينه ذات الغمد الجميل اخذت بتاو السكين ووضعتها حول ساعدها كما يفعل اكول وهي تضحك فرحة وتقول انها ستحتفظ بها لضمان عودته كما وعد .
حضر طه وهو فرح جدا فلقد كسب مالا وفيرا من تلك الرحل وقد التقط الكثير من الركاب ومنهم مند دفع بجلود الغزلان ، السمن او بعض النقود . وسيعود الى فشلا بعد ثمانية ايام محملا بالطلاء والاخشاب الخ .
عند الرحيل الى ملكال كان الجميع في الوداع الا ان بتاو كانت لا تزال تقف بعيدا مع اكول وهي تمسك بيده . وهو يقول لها انه سيعود بعد ثمانية ايام وهى تقول له كما كان يقول لها دائما عندما لاتصدقة عن الاشياء الغريبة التي شاهدها في عطبرة والخرطوم من جسور مباني قطارات الخ .... الله واحد . وقد يرد عليها بنيكانق اكيل وتعني نفس الشئ الا انها تتكلم عن نياليك الخالق بلغة الدينكا وليس نيكانق كما عند الشلك . وعندما اعتبرت ان فترة غيابه ستطول يحسب لها على اصابعه .... اكيل أريو اديونق الى ان يصل الى ابونقون والاخير هو العد ثمانية تضحك واقبض على اصابعه وتحسب باغة النوير والدينكا . كيل رو ديونف قوان ديج بكل برو بونقون وتضحك مشيرة الى السماء وتقول الله واحد .
تحركت الشاحنه واكول يتكي على حديد نافذة الشاحنة وهو يغمض عينيه . يتوقف طه ويسحب الوسادة من تحتهة ويضعها على الزاوي الحديدية لراحة اخيه الصغير الذي يفتح عينيه ويقول له ..... كم يدفع الانسان من المهر لبنت احد رجال الدينكا ومن تتمتع بالطول والجمال .؟ لقد سمعت عن دفع مئة بقرة ومعها ثور ضخم كمهر . ويرد عليه طه بأن الرقم في العادة مبالغ فية ولكن بين عشرين وثلاثين بقرة فهذا هو المعقول والابقار لا تدفع مرة واحدة وقد تسدد في سنين عديدة . ومن العادة ان يشارك الخيلان في الدفع لانهم اول من يأخذ من اختهم . ووالدنا قد دفع عشرين بقرة لجدك ادوك ثم اضاف اليها عددا آخر فيما بعد. ولقد تزوج خيلانك بتلك الابقار بعد ان اضافا اليها ما دفعه خيلانهم وما اشتروه او قايضوه بالاغنام والحراب الخ . ولان والدهم من دفع الابقار فابوك واجوت يحسبان من ابناء والدهم ود الزين وهم اخوتك واخوتي كذلك . والظروف اليوم تختلف عن قبل 20 سنة . فيكفي يوم احضار ثور جميل وعشرة بقرات ويكمل العدد فيما بعد خاصة عند ميلاد ابنة. فالابنة مرغوبة اكثر عند الدينكا . وعندنا ثور ابيض يقصده الناس كفحل لابقارهم وهذا الفحل حفيد ماريل الذي قتل والدهم ، وان لهم ستة ابقار خارج ملكال ياتيهم منها الحليب ولا يحتاجونها اليوم . وفي الصيف يأتي الامبرو بابقارهم وهم يبيعون بعضها عى عكس لدينكا الذين لا يبيعون ابقارهم . ويمكن شراء الابقار من الامبررو بين 5 الى 8 جنيهات .
عند سماع كل تلك المعلومات اغمض االزين عينيه ومد رجليه الطويلتين ، وعلى شفتيه ابتسامة الرضى ، ففي حوزته ثروة عبارة عن مئتين من الجنيهات وفرها من دخله كميكانيكي لمدة 3 سنوات بعد ان اكمل مدرسة الصنائع في عطبرة .
لم يستيقظ الزين الا بعد وصول الشاحنة وسماع ضجيج المدينة التي قرر ان لا يتركها مرة اخرى.

 

آراء