الجمهُورية الثانية: هل يحِلُّ منبرُ السلامِ محل المؤتمر الوطني؟

 


 

 


boulkea@yahoo.com


عندما نفذت الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة إنقلابها العسكري في الثلاثين من يونيو 1989 كانت أكثر الأحزاب السودانيَّة تنظيماً وتماسُكاً داخلياً. وإستمر الوضع كذلك لعددٍ من السنوات في ظل الإنقاذ حتى جاءت اللحظة التي تم فيها حل كافة الأجهزة التنظيمية وإندمج الحزبُ بالكامل في السُلطة والدولة, وظهر على السطح حزب المؤتمر الوطني كتعبيرٍ عن المرحلة الجديدة.

و في فترة لاحقة بدأت خلافات الحزب في الظهورعلى السطح, وتفاقم الصراع الداخلي بين القابضين على السلطة وأولئك الذين أصرُّوا على إستمرار الحزب في الإمساك بزمام الأمور, وإستقوى الطرف الأول بقوة الدولة, بينما لجأ الطرف الثاني للقواعد الجماهيرية مما أدَّى إلى تصاعُد خلافات الطرفين حتى وصلت حد القطيعة والإنشقاق.

بعد أفول شمس المشروع الإسلامي والتوجه الحضاري تحوَّل حزب المؤتمر الوطني إلى حزبٍ سُلطويٍ يفتقرُ الى رؤية  فكرية جامعة وإلى مجموعة مشتركة من القيم توجِّهُ مساره مثلما كان في الماضي, وأضحى محكوما – عوضاً عن المؤسسات - بمجموعات المصالح ومراكز القوى ومسنوداً بعلاقات القرابة والقبيلة والجهة, وأصبح القرارُ فيه مُرَّكزاً في دوائر صغيرة مُغلقة.

وقد أحسن الباحثان الأميركيان جون تيمين وثيودورميرفي توصيف حزب المؤتمر الوطني بالقول أنه : ( يُمثل تحالفاً لمجموعةٍ متنوعةٍ من المصالح التجارية والدينية والعسكرية والأمنية التي تتعاون من أجل الحفاظ على مواقعها والسيطرة على السلطة. تأثير هذه المصالح المختلفة يتأرجح صعوداً وهبوطاً في إطار التحالف ولكن الإعتماد المتبادل فيما بينها يؤدي إلى بقاء معظمهم ضمن التحالف وقيامهم بحماية بعضهم البعض. الرئيس البشير ودائرته الضيقة يحققون مصالحهم بالإعتماد على مرؤوسين يتغيرون بحسب الحاجة ولكنهم لا يغادرون الحزب بصفة نهائية ). إنتهى

في أحيانَ كثيرةٍ  يتمُّ التمييز داخل صفوف المؤتمر الوطني بين مُعسكرين أحدهما مُتشدِّد ويُعرف بمُعسكر "الصقور" وآخر مُعتدل ويُعرف " بالحمائم". وغالباً ما يُذكر إسم الدكتور نافع على رأس المُعسكر الأول بينما يقفُ الأستاذ علي عثمان على رأس المُعسكر الثاني. وهذا تقسيمٌ – في رأيي -  مُضللٌ بدرجةٍ كبيرة ولا يصلحُ لتحليل صراع القوى و مراكز صنع القرار داخل حزب المؤتمر الوطني, إذ هو يتجاهلُ طرفاً في غاية الأهمية, وهو الرئيس ودائرتهُ الخاصة.

كلَّ الأطراف داخل المؤتمر الوطني تسعى للتقرُّب من " دائرة الرئيس الضيقة" التي أشار إليها تيمين وميرفي في تقريرهما عن الجمهورية الجديدة, وهذه الدائرة – بحسب العارفين – لا يزيدُ عدد أفرادها عن أصابع اليد الواحدة, وتجمع بينهم الخلفية العسكرية التي لا تثقُ كثيراً بالساسة.

هذه الدائرة التي يقفُ على رأسها الرئيس ترتكِزُ على  المؤسسة الأمنيِّة و الجيش كخط دفاع أول وأخير في مواجهة كافة التحديات والتهديدات ( بما فيها ما قد يبرز من الحزب الحاكم نفسه), وفي الجانب السياسي لا تتقيُّد الدائرة  بتوجُهات الحزب وقراراته إنْ لم تصادف هوى في نفسها.
قد كشف الإتفاق الإطاري الذي وقعَّهُ الدكتور نافع نيابة عن المؤتمر الوطني والحكومة مع مالك عقار رئيس الحركة الشعبية بالشمال في أديس أبابا الكثير عن أسلوب إتخاذ القرار ومراكز القوى داخل الدولة والحزب. فالدكتور نافع الذي ظلَّ على الدوام يوضع في رأس قائمة "صقور" الحزب الحاكم أُجبر على الرضوخ لقرار الجهات الفاعلة بالتخلى عن الإتفاق. هذه الجهات الفاعلة ليست المُعسكر المناوىء " الحمائم" الذي يقودهُ الأستاذ علي عثمان كما سيتبادر للأذهان بل هى : الرئيس ودائرتهُ الضيِّقة والجيش والطيب مصطفى ومنبرهُ.

موقف الرئيس البشير وأحد أعضاء دائرته الضيَّقة (عبد الرحيم محمد حسين) عبَّر عنهُ الأستاذ محمَّد لطيف في صحيفة الأخبار بالقول :

( إنفرَدَتْ "الأخبار" أمس بنشر أول موقف صريح ومباشر للسيد رئيس الجمهورية شخصياً من إتفاقية أديس أبابا الإطارية التى وقعَّها الدكتور نافع علي نافع، مساعد الرئيس ونائب رئيس المؤتمر الوطنى من جهة، والسيد مالك عقار والي النيل الأزرق رئيس الحركة الشعبية قطاع الشمال من جهة أخرى. وذلك عبر حديث للرئيس البشير أكد فيه ذلك الموقف. الواقع أننى فى ذلك اليوم وجدتُ نفسى فى مأزق لم يخارجنى منه إلا تامبو إمبيكي، فقد وقعتُ فى "كماشة" بين جنرالين، المشير البشير رئيس الجمهورية من جهة, والفريق أول عبد الرحيم محمد حسين وزير الدفاع من جهة أخرى، والذي لم يُخف منذ اليوم الأول معارضتهُ الصارخة للإتفاق الإطاري). إنتهى

هذا الموقف الرافض للإتفاق من قبل " الجنرالين" لم يتم التعبير عنهُ من خلال القنوات الحزبية وبالطرق المؤسسية المعروفة, بل تمَّ إعلانهُ في المسجد عقب صلاة الجُمعة حتى تصل الرسالة للمكتب القيادي للحزب كي يعرف طبيعة القرار الذي يتوجب عليه إتخاذه في هذا الخصوص. وهو ماتمَّ بالفعل,  حيث جاء قرار المكتب القيادي رافضاً للإتفاق, ومتماشياً مع موقف الرئيس ووزير الدفاع.

المؤسسة العسكرية عبَّرت عن موقفهِا من الإتفاق برسالةٍ للمؤتمر الوطني في غاية الوضوح كتبها العميد محمَّد عجيب في صحيفة " القوات المُسلحة", وكان مما جاء فيها :

( أيُّها المؤتمر الوطني لن نغني معك.. ما يفوتُ على المؤتمر في نسخة ما بعد الفتح وما بعد المُفاصلة إنَّ ما يُبقيه حتى الآن على قيد الحياة وعلى سُدَّة الحكم هو ما كان يملك من قدرة على مُخاطبة وجدان الجماهير وما يطرحُ من برامج مصادمة لا تعرف غير الله رباً والإسلام ديناً وسيدنا محمد نبياً ورسولا.. والمُلاحظ أنَّ المؤتمر الوطني منذ فترة «طلق الدرب».. وأنه «يرى» أنهُ مؤمن بالله ولا يعبُد أمريكا.. لكنه يتقرَّب بها إلى الله زلفى.. المؤتمر الوطني يُخالف تعليمات المشير البشير بإيقاف الدغمسة ويُناور حول الحِمى الأمريكي ويظنُّ بالله الظنون..أيها المؤتمر قيام حزب للحركة الشعبية في الشمال بعد التاسع من يوليو خيانة للدين والوطن.. ومنحُ منصبٍ دستوريٍ رفيعٍ على أساس قبلي تكريسٌ لعصبياتٍ عرقية قال عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم: «دعوها فإنها مُنتنة..» لكن فيما يبدو أنَّ فقه المرحلة والدغمسة في مخزون التبريريين في المؤتمر الوطني لم ينضب بعد.. فالمؤتمر يعقدُ من الصفقاتِ ويُبرم من الاتفاقات ما يصيرُ الحليمُ فيه حيران.. أيها المؤتمر.. ما نفقه كثيراً مما تقول.. وإنا لنراك فينا ضعيفاً.. ولولا «بقيةٌ من أملٍ» لرجمناك.. وما أنت علينا بعزيز ). إنتهى

هذه رسالة مُوجهَّة للمؤتمر الوطني كحزب, وليس للدكتور نافع وحدهُ , وهى لا تقتصرُ على قضيَّة الإتفاق بل تتعدى ذلك للهجوم على سياسات المؤتمر الوطني المُتعلقة بالعديد من القضايا   ( سلام دارفور والعلاقات مع أميركا و الشريعة وغير ذلك ). هذا حديث لا يُفرِّق بين صقورٍ أو حمائم بل يُهِّدد الجميع ويتوعدهم بالرَّجم, ويستثني الرئيس, ويستبطِنُ رسالة في غاية الخطر مفادها أنهُ : بمقدور الرئيس والجيش التخلص منكم وإستبدالكم بمن هو أقوى ويُمكنُ الوثوق به.

هذا ما كان من أمرِ الجيش, أمَّا الحليف المُحتمل للرئيس ودائرتهِ الضيِّقة فقد رفض الإتفاق بقوة وشرع مُباشرة في إجهاضهِ وهذا ما ورد في الخبر التالي لصحيفة الإنتباهة :

( وصف المهندس الطيب مصطفى رئيس حزب منبر السلام العادل، إتفاق أديس أبابا بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية بـ «الكارثي». وقال خلال تنوير قدمه للأئمة والدُعاة بقاعة الشهيد الزبير مساء أمس، إنَّ الإتفاق أحيا نيفاشا مرة أخرى بعد أن قُبِرَتْ. وأشار إلى أنَّ الحرب في جنوب كردفان إستخدمت ذريعةً حتى يتم هذا الاتفاق الذي أتاح للحركة الوجود في الشمال. وأكد الطيب أنَّ الجيش رفض الاتفاق من خلال صحيفة «القوات المسلحة»، وقال إنَّ كل انتشار عسكري يعقبه انهزام سياسي من الوطني ). إنتهى

نحنُ هُنا بإزاء رجُلٍ ذو نفوذ كبير, يتحَّركُ بحريةٍ مُطلقة ويُعارض إتفاق الحزب الحاكم من داخل "قاعة الشهيد الزبير", ويجتمعُ بأئمةِ المساجد والدُعاة ليُحرِّضهم على إجهاضهِ دون أن يعترض سبيلهُ أحد, فهل يمكنهُ الإقدام على مثل هذا الفعل لولا وجود ضوءٍ أخضر من "الدائرة الضيَّقة" ؟ ورغماً عن ذلك لم يلتقط كثيرٌ من المحللين هذه الإشارات وهوَّنوا من شأن الرجل وحزبهُ. من هؤلاء الأستاذ الصادق المهدي الشريف الذي كتب في صحيفة التيار مُعلقاً على الإتفاق :

( فمنبرُ السلام العادل الآن خارج دائرة التأثير في المؤتمر الوطني.. وهو لا يملكُ من أدواتِ التغيير سوى منبره اليومي (صحيفة الانتباهة). وحِراكٌ قانوني يمكن أن يقوم به في المحكمة الدستورية طعناً في الإتفاق.  لكن هناك مسألة في غاية الخطورة يمتلكها م. الطيّب مصطفى رئيس المنبر. وهو التأثير المباشر على الرئيس البشير. إبن أخته. وهو أمرٌ خارج دائرة التقديرات حتى هذه اللحظة. ولكنّه يمكن أن يتطوَّر في لحظةٍ ما. بصورة تقلب كل الموازنات.  وإلى تلك اللحظة فإنَّ اتفاق أديس أبابا هو اتفاق قابل للحياة. قابل للتنفيذ ) . إنتهى

فاتَ على الأستاذ الصادق أنَّ أدوات التأثير على قرارات الحزب لم تعُد – منذ أن تحوَّلت المنظومة إلى حزب سُلطة - هى الأدوات المُتعارف عليها في الماضي وذلك بسبب غياب المؤسسات والهياكل التنظيمية الفاعلة, وأنَّ القرار الحزبي أصبح منوطاً بتلك الدائرة الضيَّقة.

وأخيراً تمَّ إجهاض الإتفاق بعد أنْ أجهزت عليه قوى ثلاث : الجيش والدائرة الضيقة والمنبر.

ستواجهُ الحكومة ضغوطاً سياسية وإقتصادية و دولية كبيرة في الفترة المقبلة. وستظهرُ آراء مُختلفة داخل المؤتمر الوطني لكيفية التعامُل مع هذه الضغوط. و قد يُنادي البعض بتقديم تنازلات قد تكون مؤلمة في العديد من القضايا الداخلية وللمُجتمع الدولي وتؤدي لتغيير جدَّي.

وإذا إختارت الدائرة الضيَّقة عدم إحداث تغييرات حقيقية في بنية الحكم – وهو الأمر الراجح – فإنَّ ذلك سيؤدي إلى مواجهات في جبهاتٍ عديدة ( بؤر التوتر المرشحة للإشتعال مثل النيل الأزرق وأبيى أو المشتعلة فعلياً مثل جنوب كردفان ودارفور) , إضافة للجبهة الدولية ( مجلس الأمن والولايات المتحدة والمحكمة الدولية), وكذلك التوترات التي قد تنتج عن الضائقة المعيشية.

مُواجهة هذه التحدِّيات لا تحتملُ " دغمسة" المؤتمر الوطني التي تحدَّثت عنها صحيفة القوات المسلحة بل تحتاجُ لكتلةٍ تسيرُ مع متطلبات المرحلة وتؤمِنُّ على توَّجُهات الدائرة الضيِّقة. وإذا فقدت الجهات الفاعلة " بقية الأمل" – بحسب العميد عجيب - في المؤتمر الوطني فإنَّ بديلهُ سيكون منبر السلام العادل.      


 

آراء