الجنائية ومأزق الدبلوماسية!!(1)
26/2/2009
كيف سيكون حال الدبلوماسية والدبلوماسيين بعد الرابع من مارس؟. الإشارات التي أرسلتها الحكومة للبعثات الدبلوماسية حتى الآن تضع أمامها خارطة طريق واضحة للتعامل في الفترة المقبلة. الإشارة الأولى هي إعلان التزام الحكومة بالمعاهدات والضمانات الممنوحة لهذه البعثات بموجب الاتفاقيات الموقعة، سواء أكان ذلك على مستوى الأسس الدبلوماسية أو الاتفاقيات الثنائية بين الحكومة والبعثات العاملة في السودان. الإشارة الثانية هي التزام الحكومة بأمن وسلامة السفارات والعاملين بها، والبعثات الأممية الموجودة بالسودان. الإشارة الأكثر أهمية هي تلك التي تتعلق بالتحذير البيّن، والذي تكرر من أكثر من جهة، وهو ضرورة التزام البعثات بمبدأ سيادة السودان، بمعنى أن أي محاولة للانتقاص من سيادة البلاد، أو رمز الدولة، ستجد الرد المناسب دبلوماسيا. هنا يكمن المأزق. كيف؟
الدول الموقعة على ميثاق روما (130) دولة، منها ثلاثون دولة أفريقية، أربع منها على حدود السودان: (تشاد, أفريقيا الوسطى, الكنغو, يوغندا)، ستجد نفسها بين ثلاثة خيارات صعبة: الأول هو أن تتجاهل قرار المحكمة ونصوص الميثاق، وتعمل عملها الدبلوماسي العادي، وكفى الله البعثات شر المواجهة مع الحكومة. الخيار الثاني أن تعلن أنها لن تتعامل مع رمز الدولة بسبب قرار الجنائية، والتزامها بنصوص ميثاق روما. الخيار الثالث هو ممارسة الصمت التام تجاه قرار الجنائية.
أيّا من هذه الخيارات، سيجعل العمل الدبلوماسي في غاية الصعوبة، وستنشأ تعقيدات غير مسبوقة في عالم الدبلوماسية. فإذا اختارت هذه الدول أن تتعامل بشكل عادي كأن شيئا لم يكن، تصبح روما وميثاقها في خبر كان. إذن ليس من جدوى أصلا لمحكمة لاهاي مادام الدول التي وقعت عليها لاتلتزم بإنفاذ نصوصها.
إذا اختارت الدول الموقعة أن تتعامل مع الجنائية، فستطلب الحكومة منها مغادرة البلاد في غضون ساعات قليلة. فلن تقبل دولة في العالم ببعثة دبلوماسية لدولة ترغب في جرجرة رئيسها في المحاكم. عليهم ساعتئذٍ احترام أنفسهم ومغادرة السودان، وكذلك المنظمات التي تتمتع بجنسية تلك الدولة. وعليهم أيضا أن ينسوا أي مصالح قائمة لهم مع السودان.
إذا فضلت بعض الدول أن تلوذ بالصمت في البدء، فإن أمرها سرعان ما ينكشف عند أول دعوة للقاء رئيس الجمهورية. عليهم تدبر مأزقهم بشكل مختلف منذ الآن، فالمتغطي بالأيام عريان.
البعثات الأممية في الغالب ستلتزم الحذر في تصريحاتها وخطواتها، فهي ستكون أكبر المتضررين من قرار الجنائية. فتحركاتها وتصريحاتها ستكون مرصودة بشكل دقيق. لقد ظلت الأمم المتحدة وكل أجهزتها تدّعي ألا علاقة لها بالجنائية، ولذا سوف لن يكون مقبولا منها أي فعل أو تصريح يشي بعكس ذلك. التعقيد هنا أن هذه البعثات وخاصة يونميد ويونمس تعملان تحت إمرة نفس الجهة التي أحالت قضية دارفور للجنائية، وهي الأمم المتحدة ممثلة في مجلس الأمن، من ثم إذا تعاملت مع الحكومة السودانية بعد الرابع من مارس فستبدو وكأنها لاتعبأ بقرار مجلس الأمن ولا بالجنائية. أما إذا حاولت أن تلتزم بما صدر من الجنائية فقد حكمت على مهمتها واتفاقياتها في السودان بالإعدام. إشارة السيد مدير المخابرات قبل أيام مثّلت رسالة شديدة الوضوح. فبحسب السيد فريق أول صلاح قوش فإن الدولة لاشأن لها بالموافقين على القرار. أما الذين سيحاولون إنفاذه فإن إياديهم ستُقطع. كانت هذه إشارة واضحة لبعثات قوات حفظ السلام في جنوب وغرب البلاد. إذن الدور الذي مارسته هذه القوات في القبض على الرئيس الليبيري السابق شارلس تايلور في نيجيريا لايمكن أن يُسمح له بالتكرار هنا. صحيح أن نيجيريا هي التي أعطت هذا الدور لقوات حفظ السلام، ولكن مجرد لعب هذا الدور القذر، ينبئ بالمدى الذي يمكن أن تصل له بعثات حفظ السلام، في تجاوز صلاحياتها واتفاقياتها، لتعمل كشرطي في الدول التي تعمل بها.