الحرب البليدة .. ثم ماذا بعد ؟؟

 


 

 

و لكن البلادة جزء من البنية البشرية ، حتى جاء في الأثر أن غباء الإنسان ليس له حدود .
إن هذه الحرب ليست سوي سم أطعمنا له كياناتنا العسكرية و المدنية ، و ها هم يتجرعونه قطرة قطرة ، و يجرعونه الشعب السوداني قطرة قطرة .
و دوما ما تلبس الحرب لبوسات "منطقية" و دوافع ضرورية ، و لكنها تظل دوما مرآة لما يدور في عقلك . فحيازتك للسلطة لا تغير شخصيتك ، إنما تضخم ما أنت عليه في حقيقتك فحسب .
على أن أغبى أنواع الحروب هي التي تعبر عن دوافع شخصية ذاتية كحرب "الجنرالين" في السودان . فقد صرح البرهان و حميدتي بعبثية الحرب و خسرانها على التوالي . كما لم يمنعهما الحياء من الإفصاح عن شخصنة هذه الحرب البليدة . فقد أبان البرهان أنه ليس ضد "الدعم السريع" و لكنه ضد قيادة الدعم السريع ، و أبان حميدتي أنه ليس ضد "الجيش" و لكنه ضد قيادة هذا الجيش و من يقف خلفه من الإسلاميين ، حلفاء الأمس . و ما يشكف زيف مبرراتهم لخوض الحرب ، إنما هو عدم اكتراثهم لحياة و ممتلكات الشعب السوداني و لو من باب التظاهر بذلك ، و لكنه الغباء . فلو كانوا غير ذلك لفتحوا مسارات لإغاثة الملهوف و ستر المقتول ، تماما مثلما فتحوا ذات المسارات لإغاثة ملهوف الأجانب .
ستتوقف الحرب قريبا ، إن لم يكن بسبب الأصوات العسكرية التي ترى عبثية الحرب ، فبالتدخل الدولي السياسي و الاقتصادي . فمن فرادتنا ، أن تتدخل العديد من الشركات ، التي تعتمد كارتيلاتها على المواد المنهوبة من السودان ، لتمارس نفوذا سياسيا دوليا لوقف الحرب المجنونة هذه .
ثم ماذا بعد الاتفاق لوقف الحرب ؟؟
كثير من الكتاب يسندون قعود الدولة في السودان عن الانطلاق المستحق ، منذ الاستقلال الحديث منتصف القرن الماضي ، إلى تدخلات العسكر في مجرى الفعل السياسي ، و تمدد هذا الوهم و وجد مقعده في شعارات آخر ثورات الشعب السوداني المجيد و المجيدة .
و لكن الوضع في حقيقته ليس كذلك ، إنما هو فشل الكيانات السياسية التي نسميها مجازا أحزابا و تفاهة مشاريعها . و دعني أقرر مرة واحدة ، و إلى الأبد ، إن فشل الأحزاب السياسية في إدارة الدولة السودانية التي منحهم إياها الشعب السوداني ، إنما هو المغناطيس الوحيد الذي يجتذب العسكر إلي الاستحواذ على السلطة و يجعلهم عرضة لقصاصات الأفكار التائهة التي يجتذبها الفراغ بدوره ، و كان انقلاب العسكر الأخير في 25 أكتوبر ترجمة ناصعة لملء الفراغ ( راجع مقالنا الذي حمل عنوان: نعم انقلاب لكنه ملء تلقائي للفراغ ) .
عند الاتفاق على وقف الحرب ، يكون الجلوس للتفاوض على الانتقال ، و هنا يأتي الحل الناجع بإبعاد كل الأحزاب و كل واجهاتها من المشهد الانتقالي كلية ، فهي ببساطة ليست قدر هذه المهمة . و ذلك لأنها لم تكن قادرة على تطوير طرحها و أكتفت بأن استمرأت مخدع الشعارات الناعم الذي يؤمنها من وجع الدماغ في التقكير الذي يستوعب ذلك الوعي المكشوح خارج مواعينها في ديسمبر 2019 .
و لكن أين تكون هذه الأحزاب و واجهاتها في الفترة الانتقالية ؟؟
للأحزاب مكانان في الفترة الانتقالية: المفوضية العامة للانتخابات و المجلس التشريعي . و بس .
فلتشغل ، إذن ، الأحزاب و واجهاتها كامل مفوضية الانتخابات من مديرها إلى غفيرها . وذلك من أجل وضع قوانين الانتخابات و سبل مراقبتها بالطريقة التي يرونها تؤدي ، في رأيهم ، إلى انتخابات حرة و نزيهة ، بما يشمل تقسيم الدوائر و عمليات الإحصاء و الإدارة المرتبطة بها . و ليس ذلك من أجل تحييد حججها الأثيرة بتزييف إرادة الجماهير عند فقدانها الانتخابات ، كونها وضعت قوانينها بيديها فحسب ، بل لينمو مع ذلك إحساسها أن للسلطة واجبات و شغل يجعلها مستحقة .
و أما المجلس التشريعي ، فليكن للأحزاب الربع منه . و ربع ثاني للحركات المسلحة . أما النصف ، فللشباب . و لا داعي لنسب أخرى كالمرأة و غيرها . فلو كانت تؤمن هذه المجموعات المتنطعة بالمرأة و غيرها ، فلتقدمها جزءا من نسبتها في هذا المجلس .
و في هذا المجلس ، يتعلم الشباب بعض "فنون" الحكم الضرورية من ملاواة الأحزاب لبعضها البعض داخل كل من المجلس و المفوضية ، و من أجنحتها لجنة حصر خراب الحرب و إعادة الإعمار . و هو أمر يشجع الشباب لتكوين حزبهم المبرأ من الأسرية و الطائفية و الدوغما و مفاهيم الإثنية ، كما يسرع في إنضاج الأحزاب لتقوى على البقاء .
ستمضي خمس سنوات تتعافر فيها الأحزاب داخل المفوضية لإخراج قانون يرضيهم . و ظني المستحب أنهم يكونون صرعى "الأمبيفلانس" تجاه الأمر الانتخابي ، و هو تناقض الوجدان . فمن جهة ، هم شغوفون لنيل السلطة مما يدفعهم إلى تجويد شغلهم السياسي و يتخلون عن أفكارهم الصبيانية كتحرير العالم من "الإمبريالية" أو "نفوق العالم أجمع" أو نحن و العرب أصحاب "رسالة خالدة" ، و ذلك لأن العالم من فوقهم و من تحتهم الجيل الراكب راس. و من جهة أخرى ، هم يخشون نهاية عجلى للفترة الانتقالية قبل ترتيب أصوات جماهيرهم ، فتبعدهم الانتخابات من دفء السلطة إلى صقيع التيه السياسي في معارضة تتطلب فهما جديدا.
و بنهاية الخمس سنوات ، تكون حركة الدكتور استيفن قرير اكتسبت زخمها البديع حول العالم بعد تدشين فيلمه "القرن المضاع ، كيف نستعيده" ، في مطلع الشهر القادم أو الذي يليه . و هو يتناول كشف القمع المدروس لأعمال نيكولا تسلا المتعلقة باستقبال الطاقة المجانية التي تتحدر من أزقة متصل الزمان و المكان ، و هي قادرة على مد كل كواكب مجرة الطريق اللبني بالطاقة المجانية التي لا تنتهي ، و تضع بذلك الأرض أقدامها على مشارف اتحاد المجرات الفيدرالي . و تأتي أهمية هذه النقطة ، ضمن أشياء أخرى ، لأنها تعزز من فرضية تقلص الحروب بسبب مورد مهم كالطاقة (الكهرباء و النفط) و ما يتبعه من زيادة في سكان الأرض ، مضافا مع توهان النحل عن خلاياه لارتباك المجال المغنطيسي الذي يسترشد به النحل لتلقيح الخضروات و الفواكه (70% من غذاء الإنسان و الحيوان) ، الأمر الذي يجعل زراعة كل شبر ممكن من "سلة غذاء العالم" أمرا بالغ الأهمية .
كان حمدوك صاحب مشروع نهضة حقيقي ، بل هو الوحيد الذي طرح فكرة تقسيم السودان لخمسة أقاليم اقتصادية ، و هو المشروع العملي الذي أفتقده السودان منذ استقلاله ، منتصف القرن الماضي . و هو مشروع شبيه بالمشروع الأثيوبي الذي انتشلت به اثيوبيا أكثر من عشرين مليونا أثيوبيا من الفقر ، كما أشارت إلى ذلك سوزان رايس في كلمتها في جنازة ملس زيناوي . فمن شأن إعادة هذا المشروع ، و انخراط الشباب فيه بالتدريب و العمل ، أن يساهم في إعادة إعمارنا و نهضتنا و يحررنا من قيود العطف المزعج للمجتمع الدولي نحونا .
و لعلك تذكر ، أن جيمي كارتر صرح ، ذات مرة ، أنه لم يقض ليلة في البيت الأبيض بعد خروجه منه ، إلا مرتين إثنتين ، و المرتان الإثنتان كانتا بسبب السودان ، فقد شرح لبيل كلنتون ، الرئيس حينها ، أهمية السودان لأمريكا و للعالم مستقبلا ، و لكن كلنتون كان غارقا في أزماته العاطفية في ذلك الوقت .
كيف تتشكل الحكومة ، إذن ، بلا أحزاب ؟؟
و الإجابة هي بالمتاح الممكن ، بما يساعد على اقتلاع ما يعرف بالدولة العميقة لتسيير دولاب العمل . و ذلك يتم ببساطة بتعيين نواب الوزراء و الولاة و المدراء العامين مكان رؤسائهم ، و بذلك تكون رفعت "العمق" درجة إلى السطح . فأنت لا تستطيع محاربة المجرمين تحت الأرض في الظلام ، لأن تلك بيئتهم التي يجيدون العمل فيها ، فعليك إخراجهم إلى الضوء رويدا رويدا ، فتتفكك معهم شبكات المصالح اللصوصية مع فتح ملفات الفساد التي تتناسب طرديا مع درجة الإنكات من هذا "العمق" ، و ذلك حتى لا يرتج دولاب العمل و تفقد السيطرة عليه ..

adil.esmail@gmail.com

 

آراء