عرضنا في الحلقة الأول الإطار العالمي للحرب العالمية الأولى، وشرحنا أسباب اندلاعها عام 1914م، وتداعياتها الإقليمية التي جعلت الخلافة العثمانية تناصر دول المحور (الإمبراطورية الألمانية، والإمبراطورية النمساوية المجرية، والمملكة البلغارية)، ومصر الخديوية تساند الحلفاء (المملكة المتحدة، وفرنسا، والإمبراطورية الروسية)، وكيف كانت انعكاسات ذلك على المشهد السياسي في السودان الإنجليزي-المصري، وطبيعة رد الفعل المحلي في أوساط القيادات الطائفية وزعماء الإدارة الأهلية والقبائل. ونناقش في هذه الحلقة الثانية دور السيد على الميرغني على المستويين المحلي والإقليمي، وأسباب مناصرته لفكرة الخلافة الهاشمية في الحجاز على حساب الخلافة العثمانية، التي كان يُعدُّ من حلفائها البارزين بعد اندلاع الثورة المهدية عام 1881م، ومعارضته للمهدي وأنصاره من منفاه بقاهرة المعز.
السيِّد علي الميرغني وفكرة الخلافة الهاشمية ظهر السيِّد علي الميرغني حليفاً استراتيجيّاً لإدارة الحكم الثنائي (1898 -1956م) في السُّودان منذ عودته إلى الخرطوم عام 1901م؛ إذ تمَّ استثمار نفوذه الديني والسياسي في مواجهة أنصار الإمام المهدي، الذين كانوا يشكِّلون تحدياً حقيقيّاً للقوات الاستعمارية ودورها في استتباب الأمن والاستقرار في ربوع السُّودان. وبعد اندلاع الحرب العالمية الأولى وظَّفت الحكومة علاقات الميرغني الدينية والاجتماعية لتعزيز النفوذ البريطاني في مواجهة التأثير العثماني؛ وذلك استناداً إلى علاقته الشخصية بالشريف حسين بن علي في مكة، واللورد كتشنر المندوب السامي البريطاني (1911 -1914م) في القاهرة، والسير ونجت باشا، حاكم عام السُّودان (1899 -1916م). وبدأ هذا التوظيف برسالة بعثها الميرغني إلى السير ونجت باشا، مقترحاً عليه تبني مشروع دولة عربية مستقلة عن تركيا يكون الحجاز مركزاً لها. وتثميناً لذلك الاقتراح بعث السير ونجت نسخة من مذكِّرة الميرغني إلى السير إدوارد جراي، وزير الخارجية البريطانية، الذي استجاب لاقتراح الميرغني استجابةً جزئيةً، حسب البرقية التي بعثها إلى السير هنري ماكماهون، المندوب السامي البريطاني (1914 -1916م) في القاهرة، موضحاً فيها أن حكومة جلالة الملك تُكلِّف السير ونجت بأن يعلن عن سياستها الخارجية المتمثِّلة في إبقاء "الجزيرة العربية وما فيها من أماكن إسلامية دولة مستقلة ذات سيادة، شرطاً أساسيّاً من شروط أي اتفاق للسلام"، وذلك دون تحديد لحدود الدولة المقترحة في ذلك الوقت، وأوضح أيضاً أن "مسألة الخلافة" من المسائل التي يجب أن يحسمها المسلمون أنفسهم، دون تدخل من أية جهة غير إسلامية، وألمح إلى أن الأماكن الشيعية المقدسة ستُعامل معاملة خاصة. كلَّف السير ونجت السيِّد علي الميرغني بأن يقوم بنقل هذه الرسالة إلى الشريف حسين بن علي، وزوَّده أيضاً بنسخة من الإعلان السياسي البريطاني الخاص بالجزيرة العربية. وفي رسالة مؤرَّخة في 25 إبريل 1915م، شكر الميرغني ونجت باشا على السماح له بمعرفة نوايا بريطانيا وسياستها الخارجية تجاه الجزيرة العربية، وأكَّد له أن الإعلان البريطاني الذي يرمي لقيام دولة مستقلة في الحجاز سيلقى ترحيباً واهتماماً بالغاً في العالم الإسلامي. وفي 5 مايو 1915م، بعث الميرغني رسالة ثانية للحاكم العام، اقترح فيها طباعة الإعلان الرسمي الخاص بموقف بريطانيا من قضية الخلافة، ثم أوصى بتوزيعه في الجزيرة العربية لتنوير الرأي العام. ويبدو أن الميرغني قد أشار في إحدى الرسائل المتبادلة مع الخارجية البريطانية إلى ترشيح الشريف حسين لمنصب الخلافة المقترحة؛ لأن الخطاب السري الصادر من وزارة الهند إلى الخارجية البريطانية يشير إلى اهتمام المستر تشمبرلين باقتراح الميرغني الذي يقضي بترشيح "كبير أشراف مكة" إلى رئاسة الخلافة العربية. ويؤكد الخطاب أن وجهة النظر المشار إليها تتطابق مع وجهة نظر حكومة صاحب الجلالة، لكن وزارة الخارجية ومجلس اللوردات يفضِّلان أن يُترك التعامل مع هذه القضية للمسلمين أنفسهم. ثم تساءل الخطاب عن المقصود بالإعلان الرسمي الذي يقترحه الميرغني، وطبيعة العون المادي والمعنوي الذي ينبغي أن يُقدَّم إلى الشريف حسين. وأخيراً خلص الخطاب إلى:
"أن سياسة حكومة صاحب الجلالة ينبغي أن تقوم على تشجيع شريف مكة بكل السبل والوسائل الممكنة، باستثناء التدخل العسكري، للقضاء على الهيمنة التركية، ومؤازرته ضد تركيا بصفته حاكم الحجاز المُستقل، وأن تبذل حكومة صاحب الجلالة مساعيها الحميدة لدى القادة العرب الآخرين، ممن تستطيع التأثير فيهم (كالسيِّد الإدريسي وأمير نجد) للاعتراف به حاكماً على الحجاز... وإن طالب بالخلافة بعد أن يكون قد نال استقلاله فسيكون بمقدور السيد علي الميرغني وغيره المناداة به خليفة."
أمَّا الشريف حسين فقد كان متواصلاً مع السيِّد علي الميرغني، عبر وسائط مكتوبة وشفهية، لكن مكاتباته التي وقفنا عليها اتسمت بالغموض وعدم وضوح الرؤية في كثير من جوانبها. ويبدو أن السبب في ذلك أن الشريف لم يكن مطمئنّاً لوعود السُّلطات البريطانية بإنشاء خلافة عربية-إسلامية، ومنزعجاً من تراخيها في وضع حدود دولة الخلافة المقترحة. ونوثِّق لذلك بالرسالة السريَّة التي بعثها الشريف إلى الميرغني، قائلاً: "فيما يتعلق بالعرض الذي تشيرون إليه، لا يسعني إلا أن أسال الله أن يبارككم، ويكافئكم بالنيابة عن الإسلام والمسلمين. وقد أجريت الترتيبات مع حامله حول إرسالها، وكذلك بشأن إرسال رسائلكم في المستقبل". وفي رسالة أخرى إلى الميرغني يجدِّد الشريف مطالبته بترسيم الحدود، قائلاً: "لقد سبق أن أوضحت الحدود التي ستمكِّننا من المحافظة على أراضينا وكياننا. وكانت الإجابة على أن مناقشة موضوع الحدود مسألة سابقة لأوانها". وهنا، يظهر بوضوح مماطلة الحكومة البريطانية في حسم قضية الحدود؛ لأن مقترح إنشاء خلافة إسلامية بالجزيرة العربية لم يكن مقصوداً لذاته، بل كان وسيلة لفصل المنطقة العربية عن الخلافة العثمانية، وخلْق نوع من العداء بين الأتراك والعرب. ومن جانب آخر يوضِّح الشريف حاجته للدعم المالي من الحكومة البريطانية، قائلاً: "أمَّا المسألة الثانية فهي أننا سنظل في حاجة إلى المال؛ لنستخدم جزءاً منه في النفقات التمهيدية، ونحتفظ بالجزء الأكبر حتى يحين الوقت بعون الله لتناول العملية برمتها بنجاح." وبعد هذا الإفصاح النسبي، طلب الشريف من الميرغني الالتزام بالسرية، قائلاً: "هذه هي خلاصة ما أود أن أبلغكم به، وأشدد على أملي في أنكم ستُبقونه في طي الكتمان، وستتصرفون بمنتهى الحكمة والهدوء. وإني أعتمد على رسولكم، ولن أتخذ أية خطوات أخرى في تعاملي مع أصدقائنا إلا عن طريقكم، وسأقتصر في اتصالاتي ومعاملاتي معكم [أي عليكم]، وأنا على ثقة كاملة بالله وبصدق إيماننا". وإلى جانب مشروع الخلافة العربية المقترحة تشير المراسلات المتبادلة بين الميرغني والشريف إلى أنَّ الأول كان من المحرِّضين على إعلان الثورة العربية ضد الخلافة العثمانية، باعتبارها أداة لتحقيق الخلافة الهاشمية، واستقلال العرب من "نير الحكم التركي". وقد بعث خطاباً في هذا الشأن إلى الشريف بتاريخ 17 نوفمبر 1915م، مفاداه أنَّ:
"بريطانيا العظمي، عقدت العزم أن تساعد العرب على استعادة حكمهم المغتصب وسلطانهم، وعلى استرداد استقلالهم المفقود. لقد أضاع العرب هذا منذ عدة قرون بسبب عسف الأتراك ومساوئ حكمهم، وها قد سنحت الفرصة الآن لاستعادة كل ما ضاع [...] والوقت الراهن هو أنسب للقوميين ومطامعهم الاستقلالية، وليجددوا أمجاد أسلافهم العظماء. وليس عليهم الآن إلا أن يغتنموا الفرصة السانحة في هذا الظرف الملائم جدّاً، ويثوروا كما يثور العربي حقّاً، ويهتبلوا الفرصة التي تتاح لهم بعد مضي هذه القرون العديدة. وكيف يمكن للعرب أن يثوروا إذا لم يحرِّكهم ويتولى قيادتهم الرجل المناسب، والمنحدر من أشرف وأنبل سلالة مقدَّمة من قريش، الذي يستطيعون أن يجتمعوا حول رايته، ويستردوا حقوقهم المغصوبة".
وفي موقع آخر من هذا الخطاب يؤكد الميرغني عزيمة بريطانيا على مساعدة الشريف، قائلاً: "إنه لأمرٌ صحيح أنَّ بريطانيا العظمى بالتعاون مع حلفائها الكبار، ترغب في قيام حكومة عربية قرشية، وأن تحلَّ محل هذا العرش التركي المتداعي الذي طفح كيل مظالمه وعسفه. وهم يرغبون في أن تنهض هذه الحكومة القرشية، وتؤسَّس مثلما كانت قبل عدة قرون، وأن تسير يداً بيد مع الحضارة الحديثة، وتنهض بالعرب الكرام إلى قمة الرقي والرخاء". يعكس هذا الخطاب من زاوية أخرى أنَّ الشريف كان يحتاج إلى ضمانات سياسية من البريطانيين لإعلان الثورة العربية الكبرى، وأنَّ الميرغني قد اتصل بالسُّلطات البريطانية، وحصل منها على بعض التأكيدات الشفهية التي نقلها إلى الشريف حسين في هذا الخطاب قبل خمسة أشهر من إعلان الثورة على الخلافة العثمانية، دون أن يدرك الشريفان أن وعود البريطانيين كانت وعوداً مرحلية؛ لتحقيق استراتيجيتهم المتمثلة في القضاء على الخلافة العثمانية، وتوزيع أملاكها حسبما جاء في اتفاقيات سايكس-بيكو 1916م، ووعد بلفور 1917م. وواضح من هذه النصوص المختارة أن السيِّد علي الميرغني والشريف حسين كانا يتفاعلان مع السياسة البريطانية في الإقليم بطيب خاطر يماس الغشامة، دون إدراك للاستراتيجيات الكامنة وراءها. لذلك عندما كثُر إلحاح الميرغني بقيام دولة الخلافة العربية وتحديد حدودها ومعالمها، حاولت المخابرات البريطانية إبعاده عن موضوع الحجاز . وقد كتب الكولونيل كلايتون، مدير الاستخبارات البريطانية في مصر، إلى السير ونجت باشا، حاثاً إياه التواصل مع الشريف حسين مباشرة، دون إشراك السيد علي الميرغني في الأمر؛ إلا أن ونجت باشا فضل استمرارية التواصل مع الشريف عبر الميرغني، متعللاً بأنَّ استمرار الحصار على ميناء جدة عمل استراتيجي في تلك المرحلة. لأن القضية، وجهته نظره، ليست مرتبطة بأهمية الوسيط أو عدمه، وإنما بسياسة الحكومة البريطانية، الرافضة لمشروع الخلافة العربية تحت إمرة الشريف حسين، أو غيره. ولذلك نلحظ أن بريطانيا بعد الحرب مالت إلى دعم الشيخ عبد العزيز آل سعود، حاكم نجد آنذاك، مُجبرةً الشريف حسين وأفراد أسرته على مغادرة الحجاز والتوجه إلى الأردن. وبذلك مهدت الطريق لابن سعود؛ ليبسط سيطرته على الحجاز ونجد، ثم يوحدهما تحت اسم المملكة العربية السعودية عام 1932م. على الصعيد المحلي، استغلت حكومة السُّودان نفوذ السيِّد علي الميرغني السياسي والديني في خدمة قضيتين أفرزتهما الحرب العالمية الأولى؛ ترتبط القضية الأولى بتأليب الرأي العام السُّوداني ضد الدولة العثمانية، بينما تتمثل القضية الثانية في طمأنة السُّودانيين بأن الحرب ضد تركيا وألمانيا لم تكن حرباً ضد الإسلام والمسلمين. وكما أشرنا من قبل، فإن الميرغني كان في مقدمة الزعماء الذين دعاهم السير ونجت لاجتماع سرايا الحاكم العام التنويري، الذي عُقِد في 8 نوفمبر/تشرين الثاني 1914، بهدف تأييد السُّودانيين لمعسكر الحلفاء، فكان موقف الميرغني موقفاً إيجابيّاً من تلك الدعوة، بدليل توقيعه على سِفر الولاء الذي تُقرأ إحدى فقراته هكذا:
"نحن آسفون للغاية وقلوبنا مليئة بالحزن لعمل تركيا بالاشتراك في الحرب ضد بريطانيا... لقد ضحَّت ألمانيا بتركيا على مذبح أطماعها وغاياتها التي ستنتهي حتماً بدمار كامل ومؤكد. إنَّ هذه الحرب هي ضد مصلحة المسلمين، ولا علاقة لها بالدين بأي شكل من الأشكال، وعلى العكس فإنَّ الإيمان الإسلامي الصحيح يفرض على المؤمنين أن يكونوا أوفياء ومخلصين لالتزاماتهم، وفي مثالنا هذا لم تعد تركيا مخلصة لوعودها وتأكيداتها بأنها ستبقى محايدة".
وإلى جانب هذا التأييد والولاء المطلق للحلفاء، سنرى لاحقاً كيف تمَّ توظيف السيِّد علي الميرغني في إقناع السُّلطان علي دينار بالعدول عن موقفه المعارض لبريطانيا، وكيف نُصِّب الميرغني رئيساً لوفد السُّودان الذي زار لندن في يوليو 1919م؛ لتقديم التهنئة للملك جورج الخامس بمناسبة انتصار الحلفاء في الحرب، ولتجديد شروط الولاء والطاعة لبريطانيا العظمى.
(الحلقة الثالثة، يتبع: السيد عبد الرحمن المهدي والحرب العالمية الأولى)