الحردلو صائد الجمال (3) لا بِخلت ولا جادت عليّ بلحيل…!
د. مرتضى الغالي
22 February, 2024
22 February, 2024
يقول صديقنا الأستاذ "عادل بابكر" صاحب كتاب (الحردلو: صائد الجمال) إن الإعجاب أو لنقل (الشعبية المتصاعدة) حالياً للشعر البدوي (Bedouin poetry) يمكن اعتبارها بمثابة البعث الجديد لتراث مضى عليه قرن من الزمان..! والحردلو (1830- 1916) يُنظر إليه على نطاق واسع كأحد الشعراء الكبار ذوي الأهمية في تاريخ السودان الإبداعي..!
فبعد أكثر من مائة عام من وفاته، ظل حياً في ذاكرة الناس وفي أغانيهم..واستمر صدى أشعاره ومقاطعه عبر الأجيال بالرغم من إغراقها في الخصوصية البدوية...!
ويعود الفضل في ذلك إلى غنائيتها الخصبة (rich lyricism) وحيويتها وتجسيدها الذي يماثل التصوير السينمائي..! فكثير من أعمال الحردلو تم تقديمها عبر التلحين الموسيقي والأغاني التي يتم سماعها اليوم في مختلف بقاع السودان..!
ومقاطعه وإشعاره الرومانسية والتي تصف الطبيعة تدفع لمقارنته بشعراء كبار مثل امرؤ القيس وذي الرمة من عهود الشعر العربي الكلاسيكي..وأيضاً بالرواد من شعراء الانجليز الرومانتيكيين..وتحديداً (وليام ووردزورث) و(كوليردج) و(جون كيتس)..!
**
كان ميلاد الحردلو في عام 1930 لأسرة ذات ثراء ونفوذ..وكان والده هو "شيخ الشُكرية"..إحدى القبائل البدوية الرعوية التي تسكن في سهول البطانة، والتي تبلغ مساحة أرضها 120 ألف كيلومتر مربع، وتمتد من الحدود الإثيوبية عبر جنوب شرق وأواسط السودان. ويقضي ساكنوها وقتاً مُعتبراً من العام في التنقل والرحيل نحو المراعي؛ من النيل الأزرق في الغرب إلى (نهر سيتيت) في الشرق؛ ومن القضارف في الجنوب الشرقي إلي حدود الخرطوم في الشمال الشرقي..!
حياة البداوة هذه منحت الشُكرية جذوة مشتعلة من التوق لمراتعهم ووديانهم علاوة على "مَلَكة شعرية" متوقّدة..! ولا غرو أن امتازوا على مدى زمني طويل بأشعار بدوية رائعة. ويلعب الشعر (دوراً مركزياً) في حياتهم؛ وهو يكاد يمثل الشكل الثابت لـ(نمط الاتصال) الذي يجري بينهم كل يوم..من خلال رحلاتهم وراء المراعي المعشوشبة، أو حفلات الزواج والمناسبات الاجتماعية الأخرى، أو من خلال الاشتباك مع القبائل الأخرى..!
وهكذا فإن كل مناحي حياتهم اليومية يمكن أن تنتج عنها مقاطع شعرية جميلة تكتسب الرواج في الجوار وما وراء الجوار. ومن أشهر أغراض أشعارهم الحب والغزل والحنين واللواعج والفخر والفروسية وكذلك الرثاء والتغنّي بوصف الطبيعة..!
كم كان الحردلو بارعاً في فن الغزل وسبر مظاهر وغوامض مطارحات الغرام وسلوك معشوقاته بين المنع الرفيق وبين (الإتاحة المحسوبة) ذات النواهي..!
اكتسب الحردلو شهرته من تشكيلة و(خلطة) متفرّدة من العوامل؛ ويُعزى جانب من شهرته وسيرته الحياتية والاجتماعية والإبداعية إلى حياته الخصبة المتنوّعة و(تحولاتها الحادة)..!! حيث تتباين تلك الحياة من سعة الثراء والدعة والحياة الخليّة اللاهية..إلى الفقر المُدقع والنفي والابتعاد من مسقط رأسه ومراتع قومه..! وبينما ألهمت المرحلة المبكرة من حياته شعره العاطفي؛ صبغت سنواته الأخيرة أشعار الحنين والشوق الجارف إلى أيام وليالي زمانه الجميل..!
ويشتهر الحردلو بمساديره الرائعة التي تنطق بالحنين والوجد وتزدهي بالتأمل ووصف مجالي الطبيعة وحركة الحياة..! أما المسدار فهو "بيان شعري طويل" يتم فيه وصف رحلة واقعية أو متخيّلة..فهو سرد إبداعي مؤثر يحتشد بالصور التي تماثل تقنية الفيديو والغرافيك والتجسيد الطبوغرافي والبايولوجي للطبيعة وهي في حالة حركة..! مع (أنسنة) موجوداتها المادية والحيوانية (Personification)..إنه سرد حي من عاشق متبتّل في محراب الطبيعة ومدافع حميم عن الحياة الخلوية البدوية..!
هكذا مسادير الحردلو...في حين أن مقاطعه الرومانسية أكثر في عددها وأقصر بشكل كبير من مساديره، وتكشف هذه المقاطع عن جوانب مختلفة من نفسه..ويبدو فيها خليّاً غير مبالٍ؛ وشعر الحردلو في كل الأحوال لا يفقد سِمة وسمت البلاغة والإثارة والحيوية بحيث لا يزال يجرى ترديده على طول البلاد..بل لقد أصبحت بعض مقاطع أشعاره بمثابة الأمثال السائرة والمأثورات الشعبية (proverbs and aphorisms)..!
يجتهد كتاب "عادل بابكر" في تسليط أقباس من الضوء على إسهام الحردلو الثمين في الشعر البدوي والشعر السوداني بعامة، وتحديد وترسيم أسلوبه ونمطه الشعري المتجاوز، وبيان الموضوعات التي تتكرر في شعره ومصادرها ومؤثراتها من خلال المنظومة الاجتماعية/ الاقتصادية في عصره، وتقديم بعض المؤشرات لبيان كيف أصبح الحردلو رمزاً وتراثاً حيّاً وموحياً، ثم النظر من خلال أشعاره إلى مُجمل الشعر البدوي السوداني كمثال على فن وجنس أدبي متفرّد (ابن بيئته وزرع أرضه)..ومن ثم توصيف وتعريف دوره في صناعة الحس والمذاق الجمالي والتعبير عن هوية السودان الثقافية الهجين كإحدى الأمم (الأفرو-عربية)..التي تغني بلسان..وتصلي بلسان..!!
murtadamore@yahoo.com
//////////////////////
فبعد أكثر من مائة عام من وفاته، ظل حياً في ذاكرة الناس وفي أغانيهم..واستمر صدى أشعاره ومقاطعه عبر الأجيال بالرغم من إغراقها في الخصوصية البدوية...!
ويعود الفضل في ذلك إلى غنائيتها الخصبة (rich lyricism) وحيويتها وتجسيدها الذي يماثل التصوير السينمائي..! فكثير من أعمال الحردلو تم تقديمها عبر التلحين الموسيقي والأغاني التي يتم سماعها اليوم في مختلف بقاع السودان..!
ومقاطعه وإشعاره الرومانسية والتي تصف الطبيعة تدفع لمقارنته بشعراء كبار مثل امرؤ القيس وذي الرمة من عهود الشعر العربي الكلاسيكي..وأيضاً بالرواد من شعراء الانجليز الرومانتيكيين..وتحديداً (وليام ووردزورث) و(كوليردج) و(جون كيتس)..!
**
كان ميلاد الحردلو في عام 1930 لأسرة ذات ثراء ونفوذ..وكان والده هو "شيخ الشُكرية"..إحدى القبائل البدوية الرعوية التي تسكن في سهول البطانة، والتي تبلغ مساحة أرضها 120 ألف كيلومتر مربع، وتمتد من الحدود الإثيوبية عبر جنوب شرق وأواسط السودان. ويقضي ساكنوها وقتاً مُعتبراً من العام في التنقل والرحيل نحو المراعي؛ من النيل الأزرق في الغرب إلى (نهر سيتيت) في الشرق؛ ومن القضارف في الجنوب الشرقي إلي حدود الخرطوم في الشمال الشرقي..!
حياة البداوة هذه منحت الشُكرية جذوة مشتعلة من التوق لمراتعهم ووديانهم علاوة على "مَلَكة شعرية" متوقّدة..! ولا غرو أن امتازوا على مدى زمني طويل بأشعار بدوية رائعة. ويلعب الشعر (دوراً مركزياً) في حياتهم؛ وهو يكاد يمثل الشكل الثابت لـ(نمط الاتصال) الذي يجري بينهم كل يوم..من خلال رحلاتهم وراء المراعي المعشوشبة، أو حفلات الزواج والمناسبات الاجتماعية الأخرى، أو من خلال الاشتباك مع القبائل الأخرى..!
وهكذا فإن كل مناحي حياتهم اليومية يمكن أن تنتج عنها مقاطع شعرية جميلة تكتسب الرواج في الجوار وما وراء الجوار. ومن أشهر أغراض أشعارهم الحب والغزل والحنين واللواعج والفخر والفروسية وكذلك الرثاء والتغنّي بوصف الطبيعة..!
كم كان الحردلو بارعاً في فن الغزل وسبر مظاهر وغوامض مطارحات الغرام وسلوك معشوقاته بين المنع الرفيق وبين (الإتاحة المحسوبة) ذات النواهي..!
اكتسب الحردلو شهرته من تشكيلة و(خلطة) متفرّدة من العوامل؛ ويُعزى جانب من شهرته وسيرته الحياتية والاجتماعية والإبداعية إلى حياته الخصبة المتنوّعة و(تحولاتها الحادة)..!! حيث تتباين تلك الحياة من سعة الثراء والدعة والحياة الخليّة اللاهية..إلى الفقر المُدقع والنفي والابتعاد من مسقط رأسه ومراتع قومه..! وبينما ألهمت المرحلة المبكرة من حياته شعره العاطفي؛ صبغت سنواته الأخيرة أشعار الحنين والشوق الجارف إلى أيام وليالي زمانه الجميل..!
ويشتهر الحردلو بمساديره الرائعة التي تنطق بالحنين والوجد وتزدهي بالتأمل ووصف مجالي الطبيعة وحركة الحياة..! أما المسدار فهو "بيان شعري طويل" يتم فيه وصف رحلة واقعية أو متخيّلة..فهو سرد إبداعي مؤثر يحتشد بالصور التي تماثل تقنية الفيديو والغرافيك والتجسيد الطبوغرافي والبايولوجي للطبيعة وهي في حالة حركة..! مع (أنسنة) موجوداتها المادية والحيوانية (Personification)..إنه سرد حي من عاشق متبتّل في محراب الطبيعة ومدافع حميم عن الحياة الخلوية البدوية..!
هكذا مسادير الحردلو...في حين أن مقاطعه الرومانسية أكثر في عددها وأقصر بشكل كبير من مساديره، وتكشف هذه المقاطع عن جوانب مختلفة من نفسه..ويبدو فيها خليّاً غير مبالٍ؛ وشعر الحردلو في كل الأحوال لا يفقد سِمة وسمت البلاغة والإثارة والحيوية بحيث لا يزال يجرى ترديده على طول البلاد..بل لقد أصبحت بعض مقاطع أشعاره بمثابة الأمثال السائرة والمأثورات الشعبية (proverbs and aphorisms)..!
يجتهد كتاب "عادل بابكر" في تسليط أقباس من الضوء على إسهام الحردلو الثمين في الشعر البدوي والشعر السوداني بعامة، وتحديد وترسيم أسلوبه ونمطه الشعري المتجاوز، وبيان الموضوعات التي تتكرر في شعره ومصادرها ومؤثراتها من خلال المنظومة الاجتماعية/ الاقتصادية في عصره، وتقديم بعض المؤشرات لبيان كيف أصبح الحردلو رمزاً وتراثاً حيّاً وموحياً، ثم النظر من خلال أشعاره إلى مُجمل الشعر البدوي السوداني كمثال على فن وجنس أدبي متفرّد (ابن بيئته وزرع أرضه)..ومن ثم توصيف وتعريف دوره في صناعة الحس والمذاق الجمالي والتعبير عن هوية السودان الثقافية الهجين كإحدى الأمم (الأفرو-عربية)..التي تغني بلسان..وتصلي بلسان..!!
murtadamore@yahoo.com
//////////////////////