تناولت في مقالات سابقة التعليق على بعض الموضوعات التي قدمت في المؤتمر الذي نظمه معهد الدراسات السودانية والدولية بجامعة الزعيم الأزهري ضمن برامج سنار عاصمة الثقافة الاسلامية بمقر الجامعة بالخرطوم بحري يوم 14 مارس 2017 بعنوان " التجربة السنارية وبناء الدولة الحديثة في السودان " وقد انشغلت في الفترة الماضية ببعض السفريات داخل وخارج السودان فلم أواصل التعقيب، وساتناول هنا التعقيب الأخير عن السلات والتقسيمات القبلية. فقد لاحظت كما ورد في تقديم الأستاذة أماني الزين رحمة الله "الواقع الاجتماعي في عهد الدولة السنارة" وفي بعض الأوراق الأخرى تناول المجتمع السوداني من خلال التقسيم القبلي مثل: "السود وشبه السود والنوبة والبجة والعرب، والمجموعة الجعلية والمجموعة الجهنية" وغني عن البيان فإن مثل هذه التقسيمات إن وجدت رواجاً في الخطاب السياسي ينبغي أن ينآ عنها الباحثون في المجالات الأكاديمية. ويبدو أننا لا نزال بعيدين عن مواكبة التقدم الكبرى في عالم المعرفة. فالتصنيفات التقليدية لتقسيم شعوب العالم مثل السلالات الآرية والقوقازية والسامية والحامية والزنجية - والتي لا تزال سائدة في الوسط الأكا ديمي - قد أصبحت مفاهيماً قديمة تخطتها الدراسات الحديثة. فعلم السلالات الجينية (الهابلوقروب (Haplogroup قد حل الآن محل التقسيمات التقليدية القديمة لسكان العالم، وأصبحت خريطة العالم السكانية الآن ترسم وفقاً لنتائج أبحان الحمض النووي (DNA) تحت إشراف جمعيات علمية عالمية متخصصة مثل International Society of Genetic Genology ( (http:/www.isogg.orgفقد قسمت شعوب العالم إلى مجموعات سكانية (سلالة) متقاربة في جيناتها الوراثية (Y-Chromosome) وأعطيت كل مجموعة سكانية حرف هجائي مثل A و B و E وهكذا. فعلى سبيل المثال السلالة السلالة A بفرعها منتشرة في شرق افريقيا وبخاصة في السودان واثيوبيا، لم يهاجر أفرادها خارج افريقيا، وتشكل نسبة 42.5 % ممن حللت عيناتهم من السودانيين قبل انفصال الجنوب. والسلالة B بفروعها منتشرة في افريقيا ولم يهاجر منتسبوها خارج القارة. والسلالة E بفروعها المتنوعة غادر قسم منها افريقيا، وانتشرت باقي الفروع في افريقيا ويخاصة شرق وشمال شرق افريقيا. وينحدر منها قدماء المصريين ونسبة كبيرة من اثيوبيا وأغلب الصوماليين وسكان الصحراء الكبرى (الأمازيغ). وقد وجدت هذه السلالة منذ زمن بعيد مع السلالة السامية في شبه الجزيرة العربية، كما انتشرت بنسب كبيرة في أوربا الشرقية واليونان. فالمنتمون إليها يتسمون بسمات البلدان المتواجدون فيها لكن أصولهم القديمة ترجع إلى افريقيا. والسلالة R تنتشر في شمال ووسط افريقيا، وتنتشر بصورة واسعة في كل القارة الأوربية وغرب ووسط قارة آسيا. والسلالة J تسمى بالمجموعة السامية وذلك بسبب انحدار الشعوب السامية منها، وقد نشأت بالشرق الأوسط قبل نحو 30 ألف سنة. وفرعيها J1 وJ2. الفرع J2 يعتقد أنه نشأ في شرق تركيا وانتشرت في أواسط آسيا وإيران وأوربا. الأكراد والجورجيين والتركمانستانيين وبعض الألبان والأسبان. الفرع J1 نشأ قبل نحو 10 ألف سنة جنوب العراق، وخرجت منه هجرتان كبيرتان، خرجت الأولى قبل نحو 10 ألف سنة في اتجاهين شمالا نحو أوربا وجنوبا نحو اليمن واثيوبيا. وأصبح اليمن بعد ذلك مصدراً للسلالة J1 خرجت منه الهجرات المعاكسة للعراق والشام مثل هجرة الكلدانيين والبابليين. ثم خرجت الهجرة الثانية بعد الاسلام. وإلى جانب هذه اللالات توجد سلالات أحرى في افريقيا مثل السلالات K و C وD وL وH و F ولما كانت السلالة J مرتبطة في أذهاننا بأصول بعض سكان السودان فقد رأيتأن أعرض الجدول رقم 1 الذي يوضح انتشار هذه السلالة، وتظهر بوضوح صلة القرابة بين العرب وسكان افريقيا وأسيا وأوربا.
أما فيما يتعلق بسكان السودان فقد اتضح من خلال تحليل الحمض النووي DNA أنهم ينتمون إلى العناصر الأساسية المكونة لسكان افريقيا. فقد تم أخذ عينات الحمض النووي لبعض السودانين (14 أنثى و 19 ذكر) من مواقع أثرية من العصر الحجري الحديث وعصر كوش (كرمة ونبتة ومروي) وعصر مقُرة وعلوة، أي منذ نحو أكثر من ثمانية ألف سنة جاءت نتائج التحاليل كالتالي: وجدت السلالة A Haplogroups ( M13) كثيرة بين سكان عصر النيولثك، كما لوحظ في العينات التي فحصت وجود السلالة Haplogroups B (M60) وفي الفترة المروية وما بعد المروية والفترة المسيحية وجدت السلالة Haplogroups F (M60) منتشرة بصورة أكبر. مصدر Hisham, Yousif; Eltayeb, Muntaser (2009-07) http://khartoumspace.uofk.edu/handle/123456789/6376 وقد عرفنا أن السلالتان A و B يمثلان أصول سكان افريقيا باعتبارهما السلالتان اللتان نشأ منهما المكون الأساس سكان افريقيا، وانتشرت منهما باقي السلالات في افريقيا مثل السلالة F وبقية السلالات الأخرى التي انتشرت خارج القارة. أما عن سكان السودان الحاليين فقد تم تحليل Y-Chromosome لعدد 445 من الذكور غير أقرباء من15 مجموعات سكانية من أقاليم مختلفة في السودان تتحدث ثلاثة لغات مختلفة جاءت نتيجة التحليل كما في الجدول رقم 2 (مأخوذ من نفس مكان الجدول الأول)
ن ص تعني متحدثي اللغة النيلية الصحراوية وأف أس تعني متحدثي اللغة الافريقية الآسيوية. متحدثي اللغة النيلية الصحراوية الذين تم فحصهم ينتسبون من القبائل النيلية في جنوب السودان والفور والبرقو والمساليت، ومتحدثي اللغة الافريقية الآسيوية من العرب والبجة والأقباط والهوسا. كما تضمنت العينة المفحوصة أيضاً بعض الفلاني متكلمي لغة النيجر كنغو. يبدو أن متحدثي اللغة الافريقية الآسيوية اكتسبوا جيناتهم الوراثية من متحدثي النيلية الصحراوية. ويلاحظ أن سكان السودان وفقاً لمؤشرات هذا الجدول ينتمون إلى المكون الأساس لسكان افريقيا وهما السلالتان A و B إلى جانب المكون الأفريقي الكبير السلالة E. وتمثل هذه المكونات الثلاث 72,2% وينتسب باقي السكان إلى المجموعات الأخرى. كما يتضح من الجدولين 1 و 2 أنه وفقاً لنتائج تحاليل الحمض النووي لا يوجد جنس نقي أو صافي لم يختلط بغيره. ولو فرض وجود مثل ذلك الجنس لانقرض أو في طريقة للانقراض. كما يلاحظ التنوع الكبير للمكون السكاني في السودان. فإجابة السؤال من أين أتينا؟ أصبحت واضحة وهي: نحن أبناء هذا البلد نشأنا على ترابه منذ عصورموغلة في القدم، استقبلنا هجرات كثيرة من الصحراء الغربية عبرالتاريخ، وكان المهاجرون من نفس سلالة السكان على النيل. كما دخلت بعض العناصر من مناطق الجنوب والشرق والشمال ذابت في سكان المنطقة مكونة الأمة السودانية الحالية بعمقها الزمني الضارب في أعماق التاريخ.