كنت قد ذكرت في مقال قديم موجود بالاسافير بأنني ولدت بديم التعايشة بالخرطوم، وأضيف اليوم ان جارتنا باليمين كانت زهرة بت العداوي وهي من كبوشية، وجارنا من الناحية الاخرى عبدالله البقاري وهو من دارفور وامام منزلنا يسكن ناس العم إبراهيم عبدالرازق وهم من كردفان وخلفهم العم مصطفى جني قبل رحوله للصحافة، والشارع خلفنا أسرة علوية المصرية، واذكر اسرة العشي واسرة عوض دوكة المعروفة، وكذلك وجدت بعض الاسر المختلطة سوادنية اثيوبية. ولا أنسى من الفنانين كمال كيلا و الجيلاني الواثق.
ولعلي لا ابالغ ان قلت كل سكان ديم كوريا وبيوت الحجر وحي الزهور مرورا بديم القنا وديم برتي وجزء من العمارات كانوا يعرفون بعضهم البعض بالاسم او مكان السكن تقديرا. ولم يسأل أحدهم يوما ما حي العمارات دا حق منو؟؟؟
كل ذلك الخليط الاثني والقبلي لم يكن احد منهم يتسأل لماذا سمي الحي الذي نسكنه ديم التعايشة وليس ديم الحلفاويين مثلا بل كان الجميع أسرة واحدة مترابطين ومتعاونيين وبسبب الجوار حدثت كثير من الزيجات "المخلتطة" من ابناء سكان اتوا من كل بقاع السودان المختلفة. ولم يسأل أحدهم الديم دا حق منو؟؟؟ وهو نفس الحال في كل مدن السودان الكبرى.
حينما أصبح النميري رئيسا وبعدها أصبح الرشيد الطاهر"اخو مسلم" نائب رئيس الجمهورية رغم اشتراكه في انقلاب عسكري قبلها ، لم يسأل احد ما هي قبائل النميري والرشيد الطاهر ومتى وصلوا الخرطوم ليصبحوا في أعلى منصبين في دولة السودان؟؟؟، بل لم يكن احد من أحفاد وأبناء من إستوطنوا الخرطوم منذ 1820 م او قبلها يسأل ماهي قبيلة الازهري او متى اتي السيد إسماعيل الازهري للخرطوم ليصبح رئيسا؟؟؟ ، لأن النفوس كانت مستقيمة ومتطايبة وتعلم انه لا فرق بين سوداني واخر الا بالتقوى والكفاءة.
كذلك، لم يتسأل ابي وأعمامي وهم من مواليد قلب الخرطوم وعلى بعد خطوات من شارع الجامعة، لم يتسألوا لماذا لم يملكوا منازل في الخرطوم او يعينوا في مناصب لانهم "اولاد قلبا"، بالعكس عندما بعث بعض من ابناء الاسرة للعمل في ما يمكن اعتباره مناطق "شدة" والقرى، ذهبوا بكل اريحية لجنوب السودان، اروما، ود حامد، أم روابة، الرهد وغيرها من المناطق. بل إن بعضهم عاش حياته كلها بالخرطوم وتوفى بها بدون ان يستطيع امتلاك قطعة ارض بالتوزيع الحكومي او شراء بيت بالخرطوم او في غيرها من كل اراضي السودان دون ان يجدوا في ذلك معيبة ودون ان يطرحوا السؤال، لماذا كل القادمين للخرطوم لديهم اراضي في مناطقهم واصبحوا ملاك أراضي ومباني بصورة او باخرى في الخرطوم؟؟؟
نأتي الان لسؤال السيد عبدالرحيم دقلو "الخرطوم دي حقت منو"؟؟؟ وبكل سهولة اجيب عليه أنا الخرطومي أبا عن جدا بأنني أؤمن بأن الخرطوم و كل اراضي السودان لكل ابنائه!!! وأنا على ثقة بأنه سيرد علي بأن الحواكير في دارفور ليست لكل ابناء السودان، وأن الاراضي على الشريط الضيق النيلي في شمال السودان ليست لكل أبناء السودان، وأن اغلب مناطق كردفان ليست لكل أبناء السودان، وأن كثير من مناطق شرق السودان ليست لكل ابناء السودان؟؟؟
هنا يتضح الفرق بين "وطنية" القروي السوداني الذي يصر على حريته في الامتلاك وتقاسم السلطة والثروة- الارض- في قريته وحولها بالوراثة وإنتمائه للقبيلة فقط، وكذلك على حريته في الامتلاك وتقاسم السلطة والثروة عبر "التمييز الايجابي" في المدن الكبرى وتحديدا الخرطوم لانه من القرى المهمشة !!! وبين أبناء السودان "الحضر" في كل المدن مثل الخرطوم ومدني وبورت سودان والابيض والدمازين، وكل مدن السودان الكبرى الذين يؤمنون بوحدة السودان وأن التفاضل في التقدم للوظيفة يبنى على الكفاءة وليس القبيلة او الجهوية؟؟؟
يبقى أن قرنق ومناوي وموسى هلال وغيرهم عندما تقاربوا مع القصر الجمهوري في العهد البائد، استبشر كل أهالي السودان خيرا، لايمانهم بضرورة عودة روح التؤالف والمحبة والوحدة بين كل أبناء السودان و بأن السودان لكل السودانيين انطباقا مع قول القائد جون قرنق " فلنتقبل أنفسنا كسودانيين أولا وقبل كل شيء، العروبة لا تستطيع توحيدنا، الافريقيانية المضادة للعروبة لا تستطيع توحيدنا، الاسلام لا يستطيع توحيدنا، المسيحية لا تستطيع توحيدنا، لكن السودانوية تستطيع توحيدنا".
كذلك، رغم كل المأخذ حول اتفاق سلام جوبا وأنه إنحصر في بعض الحركات المسلحة والمدعية للتسليح "جنودي هم مزارعين الجزيرة"، لانتزاع "الثروة" و اقتسام السلطة!!!، والدليل ان اكبر حركتين مسلحتين أي حركة عقار وعبدالواحد لم يوقعا الاتفاق، دون الحديث عن وجود عشرات الحركات المسلحة من دارفور نفسها لم توقع الاتفاق بل عارضته؟ رغم تلك استبشر السودانيون خيرا لان وقف انهمار الدماء والحفاظ على الارواح السودانية هو اثمن من كل ماديات اخرى؟؟
كنا نظن بان تلك الامكانيات المالية والمادية للحركات المسلحة ستوجه نحو مناطق الانتاج فينقل عشرات الالاف من جنود الحركات المسلحة للمساهمة في حصاد القمح ثم يتحركون للمساهمة في لقيط القطن وجمع الصمغ العربي وتوفير الماء لكل القبائل الرحل وقطعانهم بل في بناء كل القرى التي دمرت في دارفور وجبال النوبة وغيرها.
ولكننا فؤجئنا بوصول الالاف من جنود وضباط الحركات المسلحة للخرطوم و"احتلالها" حسب المزاج للحدائق العامة بحجة "الخرطوم دي حقت منو"!!! ورغم وجود الالاف المؤلفة من الجنود في الخرطوم الان فقد حدثت سيولة أمنية جديدة تشجع عليها الدولة العميقة و "نفس الزول" وما قتل طالب الجامعة الاسلامية عبدالعزيز الصادق اليوم ، وهجوم مجموعة متفلتة على المصلين بمسجد الميناء البري فجر أمس وسرقتهم، وكذلك اعتداء مجموعة من الدعم السريع على شباب الديم بمحطة باشدار بالديم ؟؟؟ ويبقى السؤال اذا لم يكن وجود هذه القوات للحركات المسلحة بالخرطوم للمساعدة في حفظ الامن، فلافائدة إذن من وجودها بالخرطوم، ويمكنها الذهاب للانتظار في كل اراضي السودان الشاسعة خارج المدن في انتظار الآلية العملية لدمجها في القوات المسلحة النظامية كما جاء في اتفاق جوبا.
يبقى أن عملية دمج كل قوات الحركات المسلحة في القوات المسلحة النظامية امر ليس بهذه السهولة التي وقع عليها زعماء الحركات المسلحة في اتفاقية سلام جوبا، ولكن هؤلاء السياسيون وزعماء الحركات لم يفكروا في الأمر كثيرا، فهم يريدون إعتلاء كرسي السلطة فقط، اما هؤلاء الالاف المؤلفة من الجنود والضباط بالحركات المسلحة فلا يهمونهم في شيء سوى ايصالهم للقصر الجمهوري.
إذن لعل تحويل كل قوات الحركات المسلحة لجهات انتاج حقيقي هو أفضل الحلول فاذا كانت القوات المسلحة النظامية عبر شركتها الاتجاهات "الشنو ما عارف ديك" تعمل في كل مجالات الاقتصاد بما فيها تصدير الماشية واللحوم، فمن باب أولى أن تساهم في توظيف هؤلاء الالاف المؤلفة من الجنود والضباط في أفرع لشركاتها بكل مناطق الانتاج بالاقاليم ليكونوا منتجين حقيقين. كمثال، اذا غرس كل جندي ضابط عشرة شتلات في المساحة ما بين وادي حلفا شمالا وكادوقلي جنوبا والجنينة غربا سيصبح السودان جنة خضراء في العام المقبل.
مثال أخر للاندماج والإنضباط لقوات الحركات المسلحة الان، بعد أن الخرطوم اصبحت عاصمة توصف بالوسخ، لماذا لا ينزل كل هؤلاء الذين يصيحون "الخرطوم دي حقت منو" مع كل سكان الخرطوم لينظفوها ويعتبروا ذلك جزء من اقتسام السلطة؟؟ حينها تأتي الاجابة بأن الخرطوم والسودان ككل لكل السودانيين الذين يساهمون في تعميره وزيادة خيره وليس اؤليك الساعين لتفتيته واقتسام الفتات!!!!
أنشد الشاعر يوسف الدوش
" انا ما جبان
لا بترهبني العساكر
لا بخاف من طلقه.. بنبان..
لا السجون بتقيد حروفي
لا الدبابير الهوان..
ما احتميت بي بدلة
او بي كُرسي
اوبي سُلطة
او ضميري في لحظة خان..
والاهم في الدنيا كلو..
ماني (وسخان) ..
..
واللبس توب الفضيلة
وجوة غاطس في الرزيلة
نحن ياخ شايفنوا (عريان)..
والمغطى.. على _الله_ كاشف!
والبعادي الشعب خسران".!
wadrawda@hotmail.fr