لم أكن أدري وأنا أحزّم حقائبي مغادرا قاهرة المعز لدين الله الفاطمي في العشرين من يناير الفائت أنّ مصر المحروسة ستشهد بعد خمسة أيام أكبر ثورات تاريخها الحديث. كانت رياح التغيير قد هبّت من تلقاء تونس ولكن ردّ الفعل في مصر كان محدودا حيث قام عدد من المصريين بحرق أنفسهم على غرار ما فعل التونسي محمد بوعزيزي ثم بدا أنّ الأوضاع قد هدأت.
غير أنّ الأوضاع في حقيقتها لم تهدأ فقد كانت هناك صبيّة في الخامسة والعشرين من العمر لها رأي اخر, وكانت على موعد مع التاريخ و القدر وكأنها تؤكد ما قاله ميكافيللي للأمير في احدى نصائحه : اذا قرّر أحد أفراد الرعيّة بينه وبين نفسه القضاء عليك فأنّه سيفعل ولن يوقفه شىء, ثم طمأنه بالقول : ولكن هذا النوع من البشر قليل . قرّرت أسماء محفوظ بنت الطبقة الوسطى العليا وخريجة الجامعة الأميركية والمنتمية لذلك النوع من البشر القضاء على مبارك على طريقتها وليس على طريقة ميكافيللي (القتل) فقد خرجت قبل عدة أيام من أنفجار الثورة وحدها تقف فى ميدان التحرير تهتف ضد النظام وتصرخ فى الشارع "كفاية بقى فوقوا", حاول أمن الدولة أعتقالها واعتدوا عليها بالضرب المبرح, أنقذها المارة من براثنهم و هى تصرخ موعدنا 25 يناير. بثت رسالتها ودعوتها عبر " كتاب الوجوه" ( الفيس بوك) , وتسجيل اليوتيوب الذي ملأ الدنيا وشغل الناس فيما بعد , وفي اليوم الموعود خرجت للشارع مع مجموعة من الشباب وهى تهتف : "لو رجّاّلة أنزلوا كفاية بقى عيشة الذل, لو رجّالة أنزلوا".
تلك كانت الشرارة, ولكن الأسباب كانت أكبر وأعمق. أنها مترتبات الحكم الأستبدادي طويل الأمد, وما ولدّه من أزمة شاملة عناوينها الفساد الكاسح, والفقر المستشري, والعطالة, وكبت الحريات, وأنتهاكات حقوق الانسان, ونهب الثروات, والتفاوت الطبقي الحاد, واذلال المواطن, وتقزيم الوطن. وهى الأزمة التي ساد معها أحساس عام بأنّ الشعب المصري قد استكان مستسلما لقدره, وأنّ لا أمل في التغيير, حتى جاء الانفجار الكبير.
تفوّق نظام الحكم المصري الحالي على أقرانه من نظم الحكم الكاسدة المجاورة بعلامة (جودة) أستبدادية مميّزة وهى تطبيق الأحكام العرفية (الطوارىء) منذ يومه الأول وحتى يوم العالمين هذا, معتمدا في تنفيذها على جهاز قابض متحكم هو جهاز الشرطة و مباحث أمن الدولة التي برعت في أذلال الشعب حتى أصابت كرامته وكبرياءه في مقتل, فصار تجنبها هو هدف المواطن الذي سارت على لسانه عبارات من شاكلة ( أبعد من الشر وغني له) و ( خليك ماشي تحت الحيط) وغيرها من العبارات الدالة على تجنب بطش السلطة ممثلة في هذه الأجهزة القامعة.
وبينما كانت القبضة الأمنيّة هى ذراع السيطرة الأقوى, كان الحزب هو أداة التحكم السياسي المطلق. هو حزب مندمج في جهاز الدولة و متطابق معه بالكامل, وتقوده مافيات (البيزنس), ونخب المصالح وسلاحها الحاسم الطويل المعروف بالبلطجية ( أصل الكلمة في التركية (البلطة) وتعني الالة الحادة القاطعة).
أعتمد النظام على شرعية متاكلة ممتدة منذ يونيو 1952, وعلى شرعية محدودة لقائد الضربة الجوية أبّان حرب أكتوبر, وعلى أنتخابات مزورة متواصلة في أطار أكذوبة ديموقراطية مستمرّة لثلاثة عقود من الزمن.
ومثل كل الأنظمة صاحبة " الخدمة الطويلة غير الممتازة في الحكم" فأن الاستبداد المصري لم ينجو من أثر الأزمة الشاملة التي أطلق لها العنان حتى أرتدت اليه وأصابته بأنيميا الحس والخيال والفكر, فعجز عن أستشراف المستقبل رغم التنبيه المتواصل من النخب السياسية والفكرية والثقافية, التي دّقت جرس الأنذار مبكرا محذرة من انسداد الأفق, وداعية للاصلاح والتغيير, وفاضحة بؤس الأوضاع السائدة وعوارها.
فهذا هو المخرج النابه "خالد يوسف" يقدّم قبل سنوات فيلمه الناضج " حين ميسرة" وهو الفيلم الذي يطرح رؤية كاشفة لمجتمع العشوائيات وطرحاً إنسانيا وسياسيا جريئا لأهم قضايا وأزمات هذه الفئة من المجتمع المصري التي تملك ثقافة خاصة وتعاني من الإهمال الحكومي الذي يحارب الفقر والجهل والبطالة بعصا الأمن المركزي وقنابله المسيلة للدموع.
وهاهوالمخرج الراحل يوسف شاهين يقدّم اخر أفلامه بالأشتراك مع تلميذه خالد يوسف, وهو فيلم "هى فوضى" الذى جسّد بانورما جامعة لصور الفساد والفوضى التي يعيشها المجتمع المصري في العقد الأول من الألفية الثالثة. وروى الفيلم قصة تدور بشكل أساسي حول شخصية واحدة (شخصية حاتم أمين الشرطة) الذي يستغل منصبه أسوأ استغلال لتحقيق مآربه ومصالحه الشخصية ، كما فضح الفيلم الفساد المتجسد في القمع المباشر والرشوة والمحسوبية وتزوير الانتخابات والسيطرة الغاشمة للسلطة والكبت الجنسي, وتنبأ باندلاع نوع من المقاومة يفضي إلى ثورة جماعية في النهاية. وهى النبوءة التي تحققت على يد الشباب المصري في الخامس والعشرين من يناير الماضي.
وهاهى شخوص الروائي المبدع علاء الأسواني لا تنطق عن الهوى, بل تتكلم بلسان الحال, فرؤية " كمال الفولي" رجل السلطة الفاسد في رواية " عمارة يعقوبيان" للشعب المصري هى ذات رؤية كل أفراد النظام الحاكم الذين يستبطنون أحتقارا شديدا للمواطنين المصريين, ويراهنون على خنوعهم وخضوعهم للحاكم المستبد. أنصت الى كمال الفولي وهو يقول : ( المصريين ربنا خلقهم في ظل حكومة... لا يمكن لأي مصري يخالف حكومته... في شعوب طبعها تثور وتتمرد إنما المصري طول عمره يطاطي لأجل ياكل عيش... الكلام ده مكتوب في التاريخ، الشعب المصري أسهل شعب ينحكم في الدنيا... أول ما تأخذ السلطة المصريين يخضعوا لك ويتذللوا لك وتعمل فيهم على مزاجك... وأي حزب في مصر لما يعمل انتخابات وهو السلطة لازم يكسبها لأن المصري لازم يؤيد الحكومة... ربنا خلقه كده).أنتهى.
وفي مسلسل " الجماعة" يجري حوار في غاية الوضوح بين " حسين" المقبوض عليه في المظاهرات والمتهم بأنتمائه للأخوان المسلمين وبين ضابط الأمن الذي يحقق معه, ويسأله ضابط الأمن عن سبب أطلاق لحيته, فيجيبه أجابة صادمة وهى أنه لا توجد " مياه" في الحي السكني الذي يقطن به حتى يتمكن من حلاقة اللحية ولذلك فضّل الأبقاء عليها. ويستمر حديث الرجلين فيقول حسين : " سعادة الباشا نحن عايشين مع الاهمال والفساد والجشع والاحتقار والخوف", ويرد عليه الضابط : " يا حسين انت حتتحاكم", فتأتيه أجابة حسين الصاعقة : " يا باشا انا لو خدت حكم ودخلت به السجن أكيد التخشيبة أحسن وأفضل وأكرم بكتير من حارتنا".
لم ينتبه الأستبداد المصري لهذه الأشارات وللكثيرغيرها, كي يغيّر من سلوكه, ويعدّل في سياساته, حتى اذا ما فوجىء بهبّة الجماهير العاتية بدأت أدوات سيطرته في السقوط المتتالي , فأنهار أعتى أجهزة القمع الممثل في الشرطة ومباحث الأمن, ثم بدأ تفكك الحزب الحاكم بالأستقالات الجماعية التي شملت كل قيادته التنفيذية عدا الرئيس, وكانت أقبح صورالأنهيار تلك التي جسّدتها مواجهة البلطجية مع ثوّار ميدان التحرير.
ما كانت تلك المواجهة مفاجئة للعارفين بسلوك الأستبداد المصري, وقد تنبأ بها من قبل السيناريست وحيد حامد بحسه الفني العالي وبثقافته العميقة في فيلم " عمارة يعقوبيان". أنظر له وهو يقول على لسان المحامي " فكري عبد الشهيد" وكيل " زكي الدسوقي" عن الكيفية التي يمكن أن يسترد بها الأخير شقته التي أستولت عليها شقيقته : " هات شويّة بلطجية وأدخل الشقة, البلد دي بتاعتنا وأحنا عارفينها ".
وبذات نهج " فكري عبد الشهيد" أدار الحزب الحاكم معركته مع الجموع الثائرة في محاولة يائسة لحسمها حيث فوجىء الثوّار ومعهم كل العالم بجموع البلطجيّة على صهوات الجياد والجمال, مسلحين بالسكاكين والعصي والسيوف والسنج يهجمون على الحشود في مشهد تراجيدي موحي يرتد بالرائي الي أيام حروب الفجّار و بسوس " تغلب" و "بكر", ويعكس الفارق الزمني الهائل في الفكر والرؤية مع معسكر الثوّار الذي يقوده الشباب المسلحين بلغات التواصل العصري, الواقفين في الجانب الصحيح من التاريخ, والمنحازين للحرية والديموقراطية وحقوق الانسان . وباءت "غزوة" البلطجيّة بالفشل مثل كل المحاولات التي سبقتها لأجهاض حلم المصريين.
واصل الثوّار هبّتهم المباركة, مجسّدين أسمى معاني الوحدة الوطنيّة ( مسلمين ومسيحيين), والوحدة الأجتماعية ( مختلف الطبقات), وكذلك كل الأنتماءات السياسية, وهم غير مبالين بالعسف والقتل والرصاص, ينامون ويصحون على أنغام الثورة, والأبنودي, وبيوت السويس :
يابيوت السويس يابيوت مدينتي أستشهد تحتك وتعيشي انتي يابيوت السويس هيلا هيلا هيلا يالله يابلديا شمّر درعاتك الدنيا أهيه وإن باعوا العمر في سوق المنية رفاقة هانروح السوق نجيبه ونعود ونغني ع السمسية ليكي يامدينتي ياللي صمدتي يابيوت السويس أستشهد والله ويجى التانى فداكي وفدا أهلي وبنياني أموت وياصاحبي قوم خد مكاني دا بلدنا حالفة ماتعيش غير حّرة
ومثلما كان عصيّا التنبؤ بميقات الثورة, فأنّه ليس ثمة قراءة نهائية لمالاتها, ولكن الشىء الوحيد المؤكد هو أنّ مصر قبل الخامس والعشرين من يناير لن تكون هى مصر بعده, وأنّ جيل الشباب الذي أصبح ملء السمع والبصر, ويتنافس الأعلام العالمي في الوصول اليه ( جيل اسراء عبد الفتاح وكارم محمود ونوّارة نجم ووائل غنيم), سيكون صاحب الصوت الأعلى في تشكيل الصورة المستقبلية لأرض الكنانة. وستصبح مشاهد الملايين في ميدان التحرير وهم بسلوكهم الحضاري يصنعون التاريخ مصدر الهام للكثير من الشعوب التي تتطلع لفجر الخلاص من نير الأستبداد.
أنّ رياح التغيير التي هبّت على المحروسة ومن قبلها تونس لن تتوقف, والرسالة الموجهة لكل حكام المنطقة هى رسالة واضحة وبسيطة : أنصاعوا لرغبة الجماهير, وحققوا مطالب الشعوب, ومن يتعنت ويختار غير ذلك فعليه أن يتذكر قول النابغة الشابي :
رويدك لا يخدعنّك الربيع وصحو الحياة وضوء الصباح ففي الأفق الرّحب هول الظلام وقص الرعود وعصف الرياح حذار فتحت الرماد اللهيب ومن يبذر الشوك يجني الجراح.
التحيّة والتجلة والأنحناءة لكل شهداء الثورة المصرية, ولجرحاها, وللصامدين الصابرين.