الخُبراء الذين باعوا واشنطون في جنوب السُّودان

 


 

 

الخُبراء الذين باعوا واشنطون في جنوب السُّودان

من اليسار إلى اليمين : برندرقاست, إريك رييفز, دي سيلفا, تيد داغني, روجر ونتر

بقلم : ربيكا هاميلتون

تحرير : أيدي إيفانز و سايمون روبنسون.

ترجمة : بابكر فيصل بابكر

في منتصف ثمانينيات القرن الماضي, بدأت عُصبة صغيرة من الخبراء في الإلتقاء على مائدة الغداء في الرُّكن الخلفي لأحد الحانات الإيطالية ذات الإضاءة الخافتة في العاصمة الأمريكية واشنطون. بعد أن يقوموا بطلب الجعة (البيرة), ينخرطون في العمل : كيف يُحققون الإستقلال لجنوب السُّودان, المنطقة التي مزقتَّها الحروب ولم يسمع بها أو يعرفها معظم السياسيين الأمريكيين.
أطلقت المجموعة على نفسها إسم "المجلس", و أطلق على كل فردٍ منها لقباً يشى بالولاء للمجموعة : الإمبراطور, نائب الإمبراطور, حامل الرُّمح. عضوية المجموعة تكوَّنت من أشخاص من مشارب مُختلفة  حيث ضمَّت لاجئاً أثيوبياً سابقا, وأستاذاً للأدب الإجليزي, ومسئولاً سابقاً في إدارة الرئيس جيمي كارتر كان في وقت من الأوقات يظهر بتسريحة شعرٍ على طريقة ذيل الحصان.
مجموعة خبراء "المجلس" تكاد تكون غير معروفة في واشنطون, وربما في إفريقيا نفسها, ولكن نشاطها الهادىء لقرابة ثلاثة عقود ساعد جنوب السودان على نيل إستقلاله في العام 2011.
عبر ثلاث إدارات أمريكية متعاقبة قامت مجموعة "المجلس" بتمهيد طريق متمردي جنوب السُّودان في واشنطون, وبالتأثير على التشريعات في الكونغرس, إضافة لإستخدام مواقع عملهم في تشكيل سياسة أمريكا الخارجيّة لمصلحة المتمردين الجنوبيين. فعلوا كل ذلك في أغلب الأحيان دون مراعاة للبروتوكول الذي يحكم الحكومة الأمريكية.
" نحن لم نُسيطر على أية شىء مطلقاً, ولكننا في كل الأحوال عمدنا إلى التأثير على مجريات الأمور بالطريقة التي رأينا أنها تخدم مصلحة جنوب السُّودان بالصورة الأمثل ", عبارة قالها روجر ونتر الذي يعملُ حالياً بصفة مستشار فخري لحكومة جنوب السودان, و هو أحد الأعضاء الأصليين في "المجلس" وكان قد أطلق على نفسه لقب "حامل الرُّمح".
قصَّة "المجلس" لم تروى من قبل, و هذه هى المرَّة الأولى التي يتحدث فيها الأعضاء الرئيسيون في المجموعة لوكالة رويترز - في السلسلة التي تعدِّها حول الأحداث التي شهدها جنوب السُّودان بعد مرور عام على قيام الدولة - حول الكيفية التي إلتقوا بها, وما كانوا ينشدون تحقيقه. لقد تحدَّثوا عن لحظات حاسمة كاد السًّلامُ أنْ ينسربَ فيها من بين الأيادي, بعضهم عبَّر عن خيبة أمله من التنازلات التي قدَّمتها أمريكا في سبيل تحقيق السلام, ولكن فكرةَ واحدة كانت أكثر بروزاً في أحاديثهم : السَّلامُ كان حُلماً بعيد المنال.
" أعتقدُ أنَّها معجزة, تلك التي جعلتنا نحصل على شىء", قالها روجر ونتر.
إنَّ ميلاد الأمة الجنوبية شاركت فيه العديد من القابلات. الصُّناع الحقيقيون لدولة جنوب السُّودان هم شعب الجنوب. إنَّ قيادات جنوب السُّودان هى من قاتل في سبيل تحقيق الإستقلال, وإنَّ مليوني جنوبي هُم من دفعوا أرواحهم مهراً للحُريَّة. كذلك لعب الرئيس جورج بوش الذي عمل على وقف أطول حروب إفريقيا الأهلية دوراً كبيراً, إضافة لأدوار المُنادين بإلغاء الرِّق , والجماعات الدينية, ومنظمات حقوق الإنسان, وأعضاء الكونغرس الأمريكي.
ولكن أكثر قوة خارجيَّة مثابرة ساهمت في ميلاد أحدث دولة في العالم (أي دولة الجنوب) كانت هى هذه الحلقة الصغيرة شديدة الترابط, التي لم تزد عضويتها عن سبعة أشخاص, والذين بدأوا في الإلتقاء - في فترة ما قبل ظهور رسائل البريد الإلكتروني (إيميل) - بصفة دورية بحانة ومطعم "أوتيللو" بالقرب من منطقة "دو بوينت" بواشنطون.
المتمرَّد صاحب الكاريزما
في عام 1978 بدأ  الطالب اليافع "برايان دي سيلفا" دراسته للدكتوراة في الإقتصاد الزراعي بجامعة ولاية ايوا, وقد زامله طالب من جنوب السُّودان صاحب كاريزما شديدة إسمه "جون قرنق" بدأ يحلم بسودان ديموقراطي.
بعد التخرُّج ذهب دي سيلفا مع قرنق للسودان للتدريس في جامعة الخرطوم. كان السودان حينها يعيش في ظل سلام متعثر تمَّ بين الشمال ذو الغالبية العربية الإسلامية, والجنوب الي تقطنهُ أكثرية مسيحية, ويعود التقسيم لحقبة الإستعمار حيث شجعت بريطانيا البعثات التبشيرية المسيحية بتنصير الجنوبيين.
فكَّر الإنجليز في تقسيم البلد إلى جزئين, ولكنهم في خاتمة المطاف سلموا سوداناً موحداً لنخبةٍ عربية صغيرة في الخرطوم عملت على فرض القوانين الإسلامية في كل أنحاء البلد.
قد أعطى اتفاق عام 1972 الجنوبيين حُكماً شبه ذاتي, ولكن تلك الصفقة الهشة بدأت تتحلل في عام 1979 بعد أن اكتشفت شيفرون النفط في الجنوب، حيث لم يُرد الشمال أن يفقد السيطرة على الثروات المكتشفة حديثاً.
عاد دي سيلفا إلى الولايات المتحدة في عام 1980 للعمل في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية. بعد ثلاث سنوات قاد زميل دراسته القديم قرنق، وهو مجند في الجيش السوداني، تمرداً لجنود من جنوب السودان. وستصبح جماعته فيما بعد هى الحركة الشعبية لتحرير السودان، التي قادت الكفاح من أجل إستقلال الجنوب.
زار روجر وينتر السودان في عام 1981 ضمن فريق منظمة غير حكومية تسمى اللجنة الأمريكية لشؤون اللاجئين. بعد عودته، سعى المسؤول السابق في إدارة كارتر السابق للتعرف على سودانيين مقيمين في واشنطن, كان من أبرزهم الباحث القانوني فرانسيس دينق، الزميل في مركز وودرو ويلسون.
" لقد جاء لزيارتي رجلٌ بتسريحة ذيل حصان", يتذكرُ دينق الذي يشغلُ حالياً منصب مستشار الأمم المتحدة الخاص لمنع جرائم الإبادة الجماعية.
ينحدر دينق من منطقة أبيي، وهي منطقة خصبة تمتد بين شمال وجنوب السودان, وقد ظنَّ للوهلة الأولى أنَّ وينتر من نوع "الأثرياء الهيبيز" الذين يريدون تقديم المال إلى المتمردين, ولكن عندما شرح له وينتر أنَّ أفضل شىء يمكن أن يفعله هو نشر المعلومات عما يدور في جنوب السودان اقترح دينق أن الرأي العام الأميركي يحتاج لرؤية وسماع قصص مباشرة من الأشخاص المتضررين من الحرب, ودعا ابن عم له في حركة التمرد ليساعد وينتر للدخول لما يسمى بالمناطق المحررة - أجزاء من السودان يسيطر عليها المتمردون – في زياراته القادمة حتى يتمكن من جمع شهادات مباشرة عن الآثار التي تخلفها الحرب.
بحلول منتصف ثمانينيات القرن الماضي, كان الأعضاء الثلاثة الذين سيصبحون في المستقبل جزءً من المجلس – دي سيلفا, فرانسيس دينق, روجر ونتر, يعملون كوكلاء لجون قرنق في أمريكا.  كانت لقرنق الذي يبلغ طوله 6 أقدام, ويزنُ 200 رطلاً شخصيَّة لافتة, وضحكة مُجلجلة تملأ أرجاء المكان الذي يتواجد به.
" إذا قابلت جون قرنق, فإنك حتماً ستتغير" قالها ونتر الذي قابل قرنق للمرة الأولى عام 1986.
سرعان ما اكتشف الرِّجال الثلاثة حجم المهمة التي تنتظرهم. في عام 1987, حاول دي سيلفا جلب وفد من الحركة الشعبية للإجتماع بمسئولين في واشنطون, ولكن الموقف الرسمي لوزارة الخارجية الأمريكية حينها كان هو الحفاظ على العلاقات مع الحكومة السُّودانية المعترف بها وتجاهل حركة التمرد. تلقى دي سيلفا مكالمة هاتفية من أحد المسئولين توعز له برفضهم عقد أية إجتماعات في مباني مملوكة أو مستأجرة للحكومة الأمريكية.
أدخل الإمبراطورية
بحسب دينق كان العديد من المسؤولين في واشنطون يربطون بين حركة التمرد, وحكومة الدولة الجارة إثيوبيا المدعومة من قبل الإتحاد السوفيتي, مما يعني وقوف الحركة الشعبية في الجانب الخطأ للحرب الباردة.
"لقد تطلب تغيير هذا الفهم المسبق لقرنق الكثير من العمل المضني" يقول دينق.
كما حاول دي سيلفا, كذلك حاول ونتر ودينق إدخال متمردي الجنوب عبر أبواب واشنطن، ووجدوا ضالتهم في خريج جامعي مشاكس يُسافر عبر القرن الإفريقي بحثاً عن قضيَّة يتبناها. في بداية تسعينيات القرن الماضي كان "جون برندرغاست" قد قرَّر أنَّ مهمته المقدسة ( نداءه) تتمثل في المساعدة على تبني سياسات أمريكية أفضل تجاه أفريقيا.
في ذلك الوقت كانت دائرة الأشخاص المهتمين بالقرن الإفريقي في واشنطون صغيرة. بعد وقت قليل إلتقى برندرقاست بروجر ونتر, وبدأ الثنائي في تنوير الصحفيين و حثهم على تغطية أخبار النزاع, وخلقوا صلة بينهم وبين المتمردين.
كانت حملات الدفاع عن حقوق الإنسان مختلفة كثيراً عنها في وقتنا الراهن. كانت فكرة الجماعات الغربية التي تعمل بالتنسيق مع بعضها البعض لمناصرة قضايا خارجية – كما حدث في الحملات التي قادتها بريطانيا لمكافحة العبودية في الكونغو البلجيكية قبل حوالى قرن – قد بدأت للتو في الإتقاد مرة أخرى على أيدي جماعات مثل منظمة العفو الدولية, و منظمة مراقبة حقوق الإنسان.
حتى بالنسبة للعدد القليل من الأمريكيين الذي سمعوا بالسودان مجرَّد سماع كان "الجنوب عبارة عن ثقب أسود", يقول ونتر, الذي كان يعمل في الدفاع عن حقوق اللاجئين.
في هذا الوقت بدأ الإمبراطور المُستقبلي للمجلس في الظهورعلى المشهد. كان "تيد داغني" الإثيوبي يبلغ من العمر 14 عاما في 1974 عندما استولت طغمة عسكرية مدعومة من السوفييت على السلطة في إثيوبيا. وكان شقيقته الكبرى, وهى زعيمة طلابية، من بين أول من تم إعدامهم من قبل الحكومة الجديدة.
" بعد ذلك ( أى بعد مقتل شقيقتي) أضحى لأسرتنا هدفاً تعملُ من أجله", يقول داغني وهو يصلي على روحها.
عندما بلغ داغني 16 عاماً من العمر تم سجنهُ وتعذيبه مع شقيقه الأكبر. بعد ذلك تم إطلاق سراحه ولكن شقيقه أعدم, وكانت فرص داغني في الحياة تبدو ضئيلة. ذات صباح إرتدى فانلة شقيقته, وبنطال أخيه الجينز وحذاءه كتذكار في رحلته للمستقبل المجهول, وأبلغ والديه أنه ذاهبٌ للبقالة, و كانت تلك آخر مرة يراهما فيها.
إستطاع داغني عبور الحدود للصومال بمساعدة رجل صومالي إدَّعى أنه والده , ووصل في خاتمة المطاف لجيبوتي, ومن بعد ذلك إنضم لجيل كامل من الأشخاص الفارين من الأرض الشيوعية ومنحوا حق اللجوء السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية.
نجح داغني في إكمال دراسته الجامعية وكان يعمل في وظيفتين مساءً حتى الصُبح, وبعد الظهر. بحلول عام 1989 كان قد نال درجة الماجستير, وحصل على الجنسيَّة الأمريكية, وبات يعملُ بالقسم الخاص بالشئون الإفريقية بمركز أبحاث الكونغرس الذي يُمثل الذراع غير الحزبيَّة المُختصة بتحليل السياسات في الجهاز التشريعي الأمريكي.
زيارة لافتة للإنتباه 
في تلك السنة إصطحب ونتر إثنين من أعضاء الكونغرس للقاء قرنق في أحدى المناطق التي يُسيطر عليها المتمردون في السُّودان. كان للزيارة أثراً كبيراً. قال أحد الزائرين, وهو النائب الجمهوري عن ولاية فرجينيا "فرانك وولف" أنهُ مازال يتذكر سؤالاً ألقتهُ عليه إمرأة من الدينكا إسمها ربيكا.
"قالت لي : لماذا تهتمون يا أهل الغرب بالحيتان الكبيرة, ولا تُعيروننا أدنى إعتبار ؟" يتذكر وولف. " لقد شكل سؤالها مفاجاة لي, ومنذ ذلك الحين أصبحتُ متعاطفاً بشدَّة مع الجنوبيين".
بعد ذلك نجح دي سيلفا, ودينق, وونتر في ترتيب زيارة رسمية لوفد من حركة التمرد بقيادة قرنق لواشنطون.
رغبة منهُ في ضمان أن تترك زيارة الوفد الذي يمثل موطنه أثراً طيباً, قام "مانوت بول" البالغ من الطول 7 أقدام و7 بوصة لاعب فريق "قولدن ستيت واريورز"  لكرة السلة بإيجار سيارة ليموزين لنقل وفد قرنق لمبنى "الكابيتول هل" مقر الكونغرس. ولكن ونتر قال لهم هذه فكرة غير صائبة.
" لقد أوضحت لهم أنهم لا يمكنوا أن يصلوا الكونغرس على متن سيارة فاخرة للحديث عن أناس يتضوَّرون من الجوع", يتذكر ونتر.
قام أعضاء الوفد على أثر ملاحظة ونتر بركوب بص متهالك ينفث دخاناً أسوداً وهو يتحرك نحو الكونغرس.
تلك هى الزيارة التي إلتقى فيها داغني بقرنق للمرَّة الأولى. على خلاف بقية أعضاء المجلس, نشأت بين داغني وقرنق على الفور علاقة قوية للغاية, وفي مقبل السنوات مرّت على الرجلين أوقاتاً  كانا يتهاتفان فيها بشكل يومي, كما يقول داغني.
في بداية التسعينيات, بدأ عمل المجموعة يؤتي أكله. تم نقل داغني من مركز أبحاث الكونغرس, للعمل في اللجنة الفرعية الخاصة بإفريقيا في مجلس النوَّاب الأمريكي, حيث بدأ في تجنيد حلفاء لقضية الجنوبيين.
من المفترض أن يكون الموظفون بالكونغرس محايدين, ولكنه كان سراً ذائعاً أنَّ ولاء داغني كان للجنوبيين. "تيد كان شديد التشكك في الحكومة السودانية, وبالتالي أصبحت انا متشككاً كذلك", قالها العضو الديموقراطي السابق بمجلس الشيوخ "هاري جونستون", الذي أصبح عضواً في لجنة إفريقيا الفرعيَّة.
"لقد تجاوزت الحدود في كثير من الأحيان" يعترف داغني.
في عام 1993 على سبيل المثال, قام داغني بإعداد مسودة قرار للكونغرس تقول بأنَّ للجنوبيين السودانيين الحق في تقرير المصير, وقام بتمرير مسودة القرار لجونستون الذي قام بمراجعته ومن ثم عرضه على زملائه في الكونغرس. لم يكن القرار ملزماً, ولكن تمَّت إجازتهُ بالإجماع. لقد كانت هذه هى المرَّة الأولى التي يعترف بها احد أذرع الحكومة الأمريكية بحق الجنوبيين في تحديد طبيعة علاقتهم بالحكومة السودانيَّة.
بحلول منتصف التسعينيات, كان خمسة رجال : داغني, دينق, دي سيلفا, برندرقاست, ونتر, يجتمعون بصفة دورية بمطعم أوتيللو. أطلق على برندرقاست لقب "عضو في الإنتظار" لأنه كان يُحب تحدي "الإمبراطور". أمَّا دينق فقد كانوا ينادونه "بالدبلوماسي" مما يشى بأنه الشخص الأقل تشدداً في المجموعة. دي سيلفا الذي كان اكثرهم جديَّة لم يُطلق عليه أية لقب.
كان جميع أفراد المجموعة يشتركون في إحترام جون قرنق. وعلى الرغم من إعترافهم بأنَّ مقاتلي الجيش الشعبي لتحرير السودان قد إرتكبوا جرائم فظيعة خلال الحرب, وانهم (أي افراد المجموعة) قد إنتقدوا ذلك السلوك في مناقشات كثيرة مع قرنق, لكنهم يقولون أنهم لم يشكوا للحظة واحدة انهم يساندون الجانب الصحيح في النزاع.
" أنت ترى هؤلاء  القتلة الذين لا يحفظون عهداً في الخرطوم" يقول ونتر " كيف يمكن أن تعامل الطرفين بالتساوي؟".
المُطالبون بإلغاء الرِّق
كان الإهتمام الأمريكي بإفريقيا مُنصبَّاً بصورة شبه كاملة على الأزمات في الصومال ورواندا, ولكن الإهتمام بقضيَّة جنوب السودان وجد دفعة كبيرة من جهة لم تكن في الحسبان.
في عام 1995, قامت منظمة التضامن المسيحي الدولية بطرح برنامج مثير للجدل تحت مسمى "فداء الرقيق". قامت المنظمة التي تدافع عن حقوق الإنسان و مقرها في زيورخ, بدفع أموال لتجار الرقيق من أجل عتق الجنوبيين الذين يتم القبض عليهم في الحملات التي تقوم بها المليشيات المدعومة من الحكومة في الشمال. قامت المنظمة بإصطحاب صحفيين, وقساوسة إفانجيليين سود في رحلاتها لتحرير العبيد, ومن ثم بدأت قصص العبودية الحديثة في التسرب لتجمعات الكنائس والإعلام الأمريكي.
الطريقة التي إتبعتها في شراء الرقيق أشعلت الأسعار في سوق العبيد, ولكن في نفس الوقت كان لها اثراً كبيراً في أمريكا. بدأ أطفال المدارس الأمريكيين في جمع التبرعات لتحرير العبيد, وبدأ أعضاء الكونغرس يتلقون رسائلاً من دوائرهم الإنتخابية. " الأمريكان منقسمون حول أية قضيَّة يمكن تخيلها, ولكننا أمَّة إلغاء الرِّق", يقول شارلس جاكوبس مؤسس المجموعة الأمريكية لمناهضة الرِّق التي قادت الحملة الأمريكية لمحاربة العبودية في السودان.
بدأت شبكة داغني من حلفاء الجنوب داخل الكونغرس في توطيد إقدامها. قام بتنظيم رحلات للمناطق التي تسيطر عليها الحركة الشعبية لوفود من الحزبين شملت عضو مجلس الشيوخ الجمهوري عن ولاية تينيسي بيل فريست, و عضو مجلس النوَّاب الديموقراطي الراحل دونالد باين.
عند رؤيتهم لآثار الحرب مباشرة, بدأ هؤلاء المشرِّعون في التشكك في سلوك الخرطوم مثلما تشكك فيه أعضاء المجلس من قبل. بالنسبة لفريست, الطبيب الجراح, كانت اللحظة الحاسمة هى رؤية طاقم المستشفى الميداني في جنوب السودان يهربون من القصف الجوي الذي تقوم به الخرطوم للإختباء في الكهوف بينما كانوا يقومون بإجراء عملية جراحيَّة.
"لماذا ؟ , سألت نفسي", يتذكر فريست, " لا إجابة سوى أنَّ هدف الحكومة في الخرطوم هو خلق حالة من الرُّعب".
حتى يكون هناك تغيير ذو مغزى, فقد كان ضرورياً كسب الجهاز التنفيذي "الإدارة الامريكية" لصالح القضية, وقد كان هذا عملاً شاقاً, خصوصاً وأنَّ وزارة الخارجية كانت تعمل على الحفاظ على نوع من العلاقة مع الخرطوم.
في عام 1993 ربطت الولايات المتحدة عملية تفجير سيارة في مبنى التجارة الدولي بنيويورك بأسامة بن لادن, وهو أصولي إسلامي سعودي يعيش في السودان. تم وضع إسم السودان ضمن قائمة وزارة الخارجية الأمريكية للدول الراعية للإرهاب.
و قد منح لقاء مصادفة في مؤتمر حول الصومال بجامعة برنستون المجلس فرصة إحداث إختراقه التالي.
كان من ضمن المتحدثين في المؤتمر "سوزان رايس", خبيرة يافعة صاحبة نفوذ متزايد كمدير للشئون الإقريقية بوزارة الخارجية. ركبت رايس بصحبة داغني القطار في طريق العودة لواشنطون بعد المؤتمر, وفي اعقاب حديثهما لمدة أربعة ساعات – هى مدة الرحلة - حول السياسة الأمريكية تجاه إفريقيا أصبحت رايس عضواً غير رسمي في المجلس, حيث بدأت تشارك في جلسات الغداء بمطعم اوتيللو بصفة غير دورية. لقد رفضت رايس التي تعملُ حالياً كسفير لأمريكا بمجلس الأمن التعليق حول الموضوع لكاتبة هذا التقرير.
تقدَّم برندرقاست, الذي إلتقى رايس كذلك في نفس المؤتمر, بطلب عمل معها. وفي معاينته للوظيفة قال أنه أبلغ رايس بأنَّ "الخرطوم خربة بصورة يستحيل إصلاحها" وهى وجهة نظر ظلَّ يستصحبها المتمردون الجنوبيون على الداوم. وقد قامت رايسَ بتعيين برندرقاست في الوظيفة.
المُجادل البليغ
نجحت رايس في حث إدارة الرئيس كلينتون على فرض عقوبات شاملة على السودان, يتم بموجبها منع الأفراد والمؤسسات من القيام بأية أعمال في ذلك البلد. هذه النقلة جعلت الموقف الأمريكي الرسمي أكثر قرباً من موقف المجلس.
بنهاية تسعينيات القرن الماضي لم تكن واشنطون فقط تقدِّم مساعدات إنسانية للسودانيين الجنوبيين, بل كانت أيضاً تقوم بتدريب القيادات, إضافة لتقديم ما قيمتهُ 20 مليون دولار من فائض المعدَّات العسكرية ليوغندا, وإثيوبيا, وإرتريا, الذين كانوا جميعاً يُساعدون المتمردين الجنوبيين. قال برندرقاست أنَّ الفكرة كانت اساساً دعم دول المنطقة من أجل تغيير نظام الخرطوم. " هذا الأمر متروك لهم, وليس لنا", قال برندرقاست في أحد اللقاءات.
ولكن نظام الخرطوم كان عصيَّاً على التغيير, بفضل خط الأنابيب الذي شيدتهُ الصين ليربط حقول نفط الجنوب بالبحر الأحمر, بدأ السُّودان في تصدير البترول في عام 1999, وبذا أضحى لدى الخرطوم مصدراً جديداً لتمويل حربها.
نائب إمبراطور المجلس "إريك رييفز" إلتحق بالمجلس في عام 2001. كان رييفز أستاذاً للأدب الإنجليزي بكلية صغيرة إسمها سميث بغرب ماساشوسيتس. لم تكن لديه خلفيَّة عن السودان, ولكن بعد قراءته عن الأوضاع الإنسانيَّة في الجنوب, وحضوره لمحاضرة ألقاها ونتر في كلية سميث, أصبح رييفز هو كاتب المجلس ولسانه الذرب. لقد نشر رييفز مئات المقالات, والمدونات التي ضمنّها تقارير مفصلة تطفح بالغضب الأخلاقي على الخرطوم.
عندما أصبح جورج بوش رئيساً, غادرت رايس وبرندرقاست وزراة الخارجية وإنضما لمراكز الأبحاث, وبهذا أضحى مستشار السياسات بالوكالة الأمريكية للتنمية الدولية دي سيلفا, والباحث بالكونغرس داغني هما الوحيدان داخل الجسم الحكومي, ولكن فجأة أصبحت قضيَّة المجلس هى كذلك قضية البيت الأبيض.
في اليوم الثاني لدخوله البيت الأبيض وجَّه بوش كبار الموظفين بالتركيز على إنهاء الحرب في السودان, ورفض بوش التعليق على السبب الذي دفعهُ للإقدام على هذه الخطوة. ولكن قطباً بارزاً من أقطاب المسيحيين الإفنجليين الذين يساندونه ظل يناشده على ضرورة الإهتمام بالقضية, فقد كانوا دوماً قلقين من الإضطهاد الذي يقع على المسيحيين في جنوب السودان.
أحد الإفنجيليين المؤثرين, وهو القس فرانكبين جراهام, يتذكر كيف أنهُ – في أثناء إفطار جمعهُ مع بوش في فلوريدا قبل يومين من الإنتخابات الرئاسية - ظلَّ يحرِّض بوش الذي سيصبحُ في المستقبل رئيساً على التركيز في موضوع السودان.
تحت ضغوط المجموعات الدينية, قام بوش كذلك بتعيين السيناتور السابق والأسقف الكنسي جون دانفورث مبعوثاً خاصاً له في السودان, وكلفه بحل عقدة المفاوضات الجارية بين الشمال والجنوب.
فجأة وجدت جماعات الإفنجيلية الصحفيين يقفون على أعتاب أبوابهم " أراد الناس سماع ما سنقولهُ" قالتها ديبورا فايكس المتحدثة الرسمية بإسم تحالف ميدلاند الكنسي الذي مقرهُ مسقط رأس بوش في مدينة ميدلاند بولاية تكساس.
بدأت فايكس التعاون مع السفارة السودانية, وسافرت للخرطوم لمقابلة أطراف في الحكومة ظنت أنهم من المعتدلين, وهذا الأمر لم يعجب مجموعة المجلس التي إتهمتها بالسذاجة "  بحق الجحيم ,لم تكن تعرف ما تفعلهُ" قالها رييفز.
ولكن فايكس لم تهتم بالإنتقاد, " لم تكن هذه مهنتي, ولم تكن لدىَّ أغراض خاصة "أجندة". حتى المسيح نفسهُ أسىء فهمهُ", قالت فايكس.
مغضوبٌ علينا مهما فعلنا
بعد إنتهاء فترة عمله في إدارة كارتر, أخذ ونتر عهداً على نفسه بالا يعمل في الحكومة مرَّة أخرى, مفضلاً القطاع غير الحكومي الأقل بيروقراطية. ولكن مدير الوكالة الامريكية للتنمية الدولية أندرو ناتسيوس أقنعهُ بأنَّ بوش سيجعل من موضوع السلام في السودان أولوية لإدارتهِ. وافق ونتر على العودة للعمل الحكومي, وبإستلامه لمهام عمله الجديد كمستشار لدانفورث, عادت مجموعة المجلس مرة اخرى لمركز رسم السياسة الخاصة بالسودان.
مثلهُ مثل داغني, كان إنحياز ونتر سراً مكشوفاً, قال دانفورث أنه طلب مساعدة ونتر لمعرفته الدقيقة بالموضوع. ونتر نفسه شعر بالتوتر من العمل مع العديد من الدبلوماسيين الذين بات يعملُ معهم. " إعتادت وزارة الخارجيَّة العمل مع الخرطوم" يقول ونتر.
لقد حدث تقدم في الموضوع في ذلك الصيف الذي قام فيه القائم بأعمال السفارة السودانية في واشنطون أحمد خضر بالسفر لمنزل دانفورث في مدينة سانت لويس بولاية ميسوري. كان لدى خضر سؤالاً واحداً فقط " هل نحنُ مغضوبٌ علينا في كل الأحوال ؟", بمعنى آخر, هل إذا وافقت الخرطوم على السلام ستظلُّ مع ذلك منبوذة من قبل الحكومة الأمريكية ؟
كان للإجابة على السؤال أهمية قصوى.
منذ أن إستولى حكام الخرطوم على السُّلطة بإنقلاب عسكري في 1989, إعتمدوا على شبكات مناصرة عديدة للإحتفاظ بالسلطة, ولأنَّ امريكا وضعت السودان في القائمة السوداء, فقد كان على الخرطوم الإعتماد على القروض من دول غير غربية, وعلى عائدات نفط حقول الجنوب من أجل تمويل تلك الشبكات.
ولذلك فقد تحتم على قادة الشمال إذا قرروا التوقيع على إتفاق سلام قد يفقدهم الجنوب الغني بالنفط, أن يجدوا مصدراً بديلاً للدخل. تطبيع العلاقات مع أمريكا سيكون طريقاً للعودة للنظام المالي الدولي.
بعد التشاور مع بوش, أبلغ دانفورث خضر أنَّ أمريكا تتطلع لتطبيع العلاقات. " كانت تلك رسالة مهمة" قال دانفورث في أحد الحوارات, ولم نتمكن من الإتصال بخضر للتعليق على الموضوع.
و مع ذلك فإنَّ الإختراق الأكبر في قضية السلام لم يحدث نتيجة للدبلوماسية أو عمل المناصرة, ولكن جاء بسبب هجمات القاعدة على أمريكا في 11 سبتمبر 2001.
عندما قال بوش للعالم أنَّ واشنطون "ستلاحق الدول التي تقدِّم العون والملاذ الآمن للإرهاب", تغيرت علاقة الخرطوم مع واشنطون بين عشيَّة وضحاها.
كان السودان قد طرد زعيم القاعدة أسامة بن لادن من اراضيه في عام 1996, ولكنه – السودان - مع ذلك خشى أن يصبح هدفاً لأمريكا, وبذلك وجدت واشنطون نفسها فجأة تمتلك كروتاً للضغط على الخرطوم, وهذا ما إستفاد منهُ بوش للدفع من أجل تحقيق إتفاق سلام.
معظم القضايا الرئيسية التي إنتهى إليها إتفاق السلام التاريخي الموقع في عام 2005  بين حكومة السودان والحركة الشعبية تمَّ الإتفاق حولها في الشهور الخمسة الأولى من عام 2002. وكان أكثرها إثارة للدهشة هو موافقة الخرطوم على إقامة إستفتاء للجنوبيين يحددون فيه مصيرهم إمَّا بالبقاء جزءً من السودان أو الإنفصال عنهُ.
المجلس, جورج كلوني, والكونغرس
بحلول عام 2003,تعثرت المفاوضات, لقد قللت أنباء التمدُّد الأمريكي في العراق وأفغانستان والمتاعب التي تعاني منها هناك من مخاوف الخرطوم من أن تصبح هدفاً عسكرياً قادماً, وبدا أن النهج الأمريكي في التعاطي مع الخرطوم قد بدأ في التصدع.
لقد أصدرت وكالة المخابرات الأمريكية تقريراً برَّاقاً عن تعاون السودان في "الحرب على الإرهاب", ودعمت وعد الرئيس بوش بتطبيع العلاقات, ومن ناحية أخرى إتخذت الأحداث في السودان منحاها الخاص.
بعد أن بدا واضحاً أنَّ الجنوبيين سيحصلون على صفقة جديدة, أراد المواطنون في دارفور بغرب السودان, صفقتهم الخاصة كذلك. لقد تمَّ تأطير الحرب بوصفها حرباً بين الشمال والجنوب, أو المسلمين والمسيحيين.
الحقيقة أن الجنوبيين لم يكونوا الفئة الوحيدة التي تعاني من الخرطوم. لقد ضمَّت المجموعات المهمشة الأخرى سكان جبال النوبة أصحاب الديانات المتنوعة, والسكان الخليط من شمال وجنوب السودان في النيل الأزرق, ومنطقة أبيى.
وعنما تصاعد التمرُّد في دارفور, تحركت الخرطوم للإجهاز عليه. على الفور لاحظت مجموعة المجلس أوجه الشبه بين رد فعل الحكومة, والفظائع التي تم إرتكابها في الجنوب في الماضي. ولكن الإلتفات الأمريكي لقضية دارفور قد يجعلها تفقد التركيز على إتفاق سلام الجنوب مما يهدده بالخطر.
تشاور داغني مع قرنق الذي شجعه على تقديم قضيَّة دارفور لأعضاء الكونغرس الذي يدعمون الجنوبيين. هكذا وجدت مجموعة المجلس موطىء قدم لها في موضوع دارفور. وفي السنوات التالية سيصبحون من أهم اللاعبين الذين سيرسخون إقليم دارفور – الذي لم يكن معروفا في أمريكا - في مُخيِّلة الشعب الأمريكي.
أصبح برندرقاست الذي كان حينها يعمل في منظمة أبحاث مستقلة لاعباً رئيسياً في تأسيس حركة "أنقذوا دارفور". لقد أمضى في بعض الأحيان أسابيع متتالية يتحدث عن دارفور في الكليات الجامعيَّة, وفي العمل مع نجم هوليوود جورج كلوني الذي أصبح مناصراً لقضية دارفور.
قام رييفز ورايس التي كانت حينها زميلة بمعهد برووكنز بكتابة مقالات عديدة حول دارفور. في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية قام ونتر ودي سيلفا بتنظيم زيارات لمسؤولي الخارجية الأمريكية لدارفور حتى يشاهدوا العنف بأعينهم. وبعد إجراء حوارات مع اللاجئن الدارفوريين, عمل داغني مع عضو مجلس النواب الراحل باين على تمرير قرار يُسمي الجرائم المرتكبة من قبل الحكومة في الإقليم " بالإبادة الجماعيَّة".
في هذا الوقت أصبح داغني خبيراً في جعل حلفاءه بالكونغرس يدخلون مواداً تخدم مصلحة الجنوبيين ضمن القرارات المضمونة الإجازة بالكونغؤس حتى  في القضايا غير مرتبطة بالجنوب. وبإستخدام هذا الأسلوب نجح في إعفاء المناطق التي يسيطر عليها المتمردون الجنوبيون من تطبيق العقوبات الأمريكية.
قرار داغني الخاص بالإبادة الجماعيَّة في دارفور لم يكن في حاجة لمناوراتٍ
منهُ, فقد تكفل الغضب الشعبي المتنامي في أمريكا بإجازته بالإجماع داخل مجلس النواب ومجلس الشيوخ.
السلام المُهدَّد
في يناير 2005 وفي أثناء تواصل القتال في دارفور, أكملت الخرطوم إتفاقاً للسلام الشامل مع الجنوب. دعا قرنق داغني وونتر لغذاء بمنزله بنيروبي في كينيا للإحتفال.
بعد مرور سبعة أشهر من ذلك الغداء, توفي القائد الجنوبي في حادث تحطم طائرة مروحيَّة. شكلت وفاة قرنق ضربة كبيرة للمشروع الجنوبي, ولكن مجموعة المجلس إلتفَّت حول خليفته.
سيلفا كير, قضى كل حياته المهنية في ميدان المعركة, وبقدر ما كان قرنق يحب الثرثرة فإنَّ كير رجلٌ قليل الكلام. قبل لقاء كير الأول مع بوش, إلتقت به مجموعة المجلس في جناحه بالفندق الذي حلَّ به بواشنطون في تنوير غير رسمي, بذات الطريقة التي ظلوا ينوِّرون بها قرنق منذ زيارته الأولى للكونغرس.
بعد توقيع إتفاق السلام تقاعد ونتر من الخدمة بالحكومة, وظل دي سيلفا بموقعه في الوكالة الأمريكة للتنمية الدولية, وداغني بمركز الأبحاث بالكونغرس, بينما أسس برندرقاست منظمة مناصرة خاصة به. وبعد فوز أوباما أصبحت رايس سفيرة لأمريكا بمجلس الأمن.
ولكن الزخم قلَّ بعد أن بدأت تظهر بعض التصدعات في جدار الإدارة الامريكية الجديدة.
أراد الجنرال المتقاعد ومبعوث أوباما الجديد للسودان سكوت قرايشن الإرتباط والعمل عن قرب مع الخرطوم. رفض قرايشن الرد على طلبنا منهُ بالتعليق.
ولكن في مقابلة أجريت عام 2009 قال قرايشن أنهُ دون إعادة تشكيل العلاقة فإنَّ ليس لدى الخرطوم ما يحفزها لجعل الجنوبيين يصوتون على الإستقلال. وكان يعتقد أن العمل على ضمان قيام الإستفتاء في موعده يجب أن يكون الهدف الاكثر إلحاحاً.
ولكن رايس أبدت  شكوكها علانية قائلة أنَّ الطريقة التي تتعامل بها الخرطوم مع المشاكل في المناطق الاخرى [غير الجنوب] , مثل دارفور, تستحق الإدانة.
لقد جرت مراجعة طويلة وقاسية للسياسة تجاه السودان في أواخر 2009, وفي النهاية أوصت المراجعة بأنَّ قضية دارفور, والسلام بين الشمال والجنوب, و التعاون في مجال محاربة الإرهاب, يجب أن تأخذ أولوية متساوية. ولكن الخلافات حول التفاصيل جعلت من الصعب الإتفاق حول كيفية إنفاذ الأهداف الثلاثة. وبذا ضاعت ال 18 شهراً الأولى من فترة حكم أوباما في مأزق الإجراءات البيروقراطية.
أخيراً, في صيف عام 2010, إستدعى أوباما فريقه العامل في موضوع السودان إلى إجتماع في المكتب البيضاوي. قال الرئيس - بحسب دينيس ماكدونو رئيس موظفي مجلس الأمن القومي في ذلك الوقت- أنهُ لن يسمح بعودة نزيف الدماء بين الشمال والجنوب.
مواجهة مع بايدن
عاد الزخم مرة أخرى, فقد تم تكليف نائب الرئيس جوزيف بايدن الذي كان مقرراً ذهابه لحضور كأس العالم بجنوب إفريقيا بحث الزعماء الأفارقة على ضرورة أن يمضى إستفتاء إستقلال الجنوب كما هو مقررٌ له. لقد تخوفت بعض الدول الإفريقية من أن يُمثل إستقلال الجنوب سابقة لحركات إنفصالية في دولها.
في تلك الأثناء توقفت إستعدادات السودانيين للإستفتاء. لم تتمكن الخرطوم وجوبا من الإتفاق حول تكوين فريق لتحديد الإجراءات اللوجستية للتصويت, وكانت الخرطوم تماطل في دفع إلتزامتها المالية للإستفتاء. ظل الجنوب يحث واشنطون للضغط على الخرطوم للوفاء بوعودها.
في إجتماع بنيروبي, أبلغ بايدن سلفا كير أن الجنوبيين أنفسهم يجب أن يسعوا من أجل قيام الإستفتاء. " لا يعنيني ما تفعله الخرطوم أو ما لا تفعلهً" قال بايدن – بحسب كاميرون هدسون الذي حضر الإجتماع بوصفه عضواً في مجلس الأمن القومي – " لا يمكن ان نكون راغبين في قيام الإستفتاء أكثر منكم أنتم أصحاب الشأن". لقد رفض مكتب كير التعليق على هذه الحادثة.
طوال خريف العام 2010 ترأس عضو مجلس الأمن القومي ماكدونو إجتماعات مع صانعي السياسة الخاصة بالسودان كل مساء, وفي بعض الأحيان حتى منتصف الليل, كانوا يتناقشون حول أية نوع من الحوافز يُمكن تقديمها للخرطوم كي تترك الجنوب يذهب في حال سبيله.
كان هناك سؤالاً مهمَّاً حول طبيعة ما يجب على الخرطوم تقديمه حتى تنال المحفزات : هل كان قيام الإستفتاء وحدهُ كافياً؟ أم يجب ربط المكافآت بإكمال قضايا أخرى عالقة, مثل ترسيم الحدود وتدفق النفط ؟
في خاتمة المطاف, توصلت المجموعة إلى أنه لن يكون بإستطاعتها إجبار الأطراف [ الحكومة والحركة الشعبية] على أية شىء أكثر من إجراء الإستفتاء. بعدها قرَّرت أمريكا الدفع بإتجاه قيام الإستفتاء في موعده المضروب. وقد بدأ في 9 يناير 2011. وأظهرت النتائج النهائية أنَّ 98.8 إختاروا إستقلال جنوب السودان.
في حديثها أمام مجلس الأمن الدولي بعد ستة أشهر, في يوم إنضمام جنوب السودان للمجتمع الدولي, وعدت رايس بأن تظل أمريكا "صديقاً وفياً". تعهدت واشنطون بمساعدات تبلغ 370.8 مليون دولار للدولة الوليدة في الستة أشهر الأولى فقط بعد الإستقلال.
مسافر جوبا
القضايا الدبلوماسية العالقة عادت مَّرة أخرى لتؤرق المنطقة.
في يناير 2012, قام كير بإغلاق نفط الجنوب متهماً الخرطوم بسرقة 1.7 مليون برميل من بترول جنوب السودان الذي يمر عبر انابيب الشمال. وقالت الخرطوم انها فقط صادرت كميات توازي مديونيات الجنوب من رسوم النفط.
قضايا أخرى لم يتم حسمها – الحدود, ومصير منطقة أبيى, وجبال النوبة – أدَّت لإندلاع العنف من جديد.
ما زال المبعوث الامريكي الخاص للسودان برينستون ليمان يقول, حتى بعد فوات الأوان, أنَّ الدفع الأمريكي بإتجاه قيام الإستفتاء في موعده كان موقفاً صائباُ.
أعضاء مجموعة المجلس لديهم وجهات نظر متضاربة حول إرث إتفاق السلام.
برندرقاست و دينق وريفز – اللذين لم يكونا يعملان بالحكومة عندما ولدت الإتفاقية – من المتشائمين, ويعتقدان أنَّ المناطق الأخرى المنكوبة في السودان كان يجب التعامل معها بجدية كذلك.
دي سيلفا يتساءل هل كان يمكن أن يطبق الإتفاق بصورة أفضل إذا كان جون قرنق حياً ؟
ونتر وداغني – اللذين كانا الأقرب لصناعة الإتفاق النهائي – أكثر تفاؤلاً, ويقولان أنَّ إستقلال الجنوب وحدهُ يكفي لأن يشفع للإتفاق. في الماضي كان صراع الشمال والجنوب شأناً داخلياً يمكن للعالم تجاهله, أمَّا الآن فهو نزاع بين دولتين, والجنوب لديه جيشه الخاص الذي يستطيع الدفاع عن نفسه.
"كل القضايا الأخرى تصبح أموراً بسيطة طالما كانت لديك سيادتك", يقول داغني.
في أحد مساءات يناير 2012, توّجه داغني لمطار دالاس الدولي بواشنطون ليلحق بالطائرة المتجهة لجوبا. لقد ترك عمله بالكونغرس, ويستعدُّ لشغل موقعه الجديد كمستشار خاص للرئيس سلفا كير, تاركاً وراءه أسرته, ووظيفته المضمونة, لقد عاد للقارة التي غادرها قبل 31 عاماً.
على جهاز هاتفه "الآى فون" يحملُ داغني تسجيلاً لرسالة كان قد تركها له جون قرنق قبل أقل من 24 ساعة من موته. تبدأ الرسالة هكذا " مرحباً إبن أختى, هذا عمَّك".
إستمع داغني كذلك لرسالات الوداع التي تركها له أعضاء مجموعة المجلس.
" ما كان لجنوب السودان أن يكون أكثر حظاً وتوفيقاً " كتب رييفز, " أنا أتقدم لك بالتهنئة, أنت حقاً .. الإمبراطور".

 

آراء