الدروس الظاهرة والمخفيّة في المسألة السوريّة
د. احمد التيجاني سيد احمد
20 December, 2024
20 December, 2024
المقال ادناه نشر في زمانه و لكنه يعود حيا عند ذكري كل دكتاتور و حكم شمولي . اقترحت علي صديقي السفير عوض محمد الحسن اعادةً نشره تحت هذا العنوان الجديد فوافق
الدروس الظاهرة والمخفيّة في المسألة السوريّة. د. أحمد التيجاني سيد أحمد
كتب السفير عوض محمد الحسن Awad Elhassan
"والكلام ليك يا المنطّط عينيك!"
الدرس الأول: "كل أول وليه آخر"، والأوضاع غير الطبيعية قد تستمر لبعض الوقت (أكثر من نصف قرن في سوريا وأكثر من ثلاثين سنة في السودان ومثل ذلك في أماكن عديدة أخرى)، ولكنها قطعا لا تدوم.
الدرس الثاني: السلطة "تلحس" العقل، والضمير، والوجدان؛ وتعمي البصر والبصيرة عن رؤية الحق والحقائق؛ وتصمّ الأذن عن نصح الناصحين وأنّات المظلومين والمكلومين. "السلطة مفسدة، والسلطة المُطلقة مفسدة مُطلقة"، كما أفتى قديما الخواجة لورد آكتون. أنظر، على سبيل المثال لا الحصر، إلى عشرات السيارات الفارهة التي تركها بشار الأسد في قصره المنيف، وأكداس العملات والحلي المهولة التي تركها بن علي وراءه في قصر قرطاج، (والحسابات المصرفية والممتلكات الفاخرة التي دسّها أقطاب نظام الإنقاذ\الجبهة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها – ولا تنسى "يخت" عمر البشير الفاخر المهمل على شاطئ النيل الأزرق الذي شروه بملايين الدولارات لشخص ليس له نصيب في فنون السباحة والإبحار!)
الدرس الثالث: سقوط الطغاة والأنظمة لا يعني بالضرورة تحسن الأحوال بعد سقوطهم. وفي غالب الأحيان، تظل الشعوب تدفع ثمن أخطاء وخطايا الطغاة والأنظمة لسنوات طويلة بعد زوالهم (أربعة عقود من خمج القذافي، وثلاثة عقود من فساد البشير، وعقود طويلة من “سيطرة" موبوتو ، وعبث وجنون بوكاسا وغيرهم)؛ يُسددونها من دمائهم وعرقهم وبؤسهم، ودمار مقدراتهم ومستقبلهم ومستقبل أجيالهم المُقبلة، (كما حدث في العراق، وليبيا، واليمن، والسودان، على سبيل المثال). والشعوب المحظوظة هي التي تخرج بأقل الخسائر (رواندا، سيراليون، وليبيريا، وكمبوديا – مثلا). (أنظر مقالي القديم المرفق أدناه بعنوان "فيزياء السياسة").
الدرس الرابع: العالم\المجتمع الدولي لا يهمه كثيرا مصير الشعوب المقهورة بأنظمتها أو المحتلة بدولة أخرى مهما بلغ القهر والبشاعة والوحشية والظلم، حتى حين يصل الحال لدرجة التطهير العرقي، أو الإبادة الجماعية، أو محو البلاد بأهلها (كما يحدث الآن في غزة وفي السودان). ترى الدول الكبرى وتعلم علم اليقين أن الطغاة والأنظمة الباطشة تخنق شعوبها، وتستبيح مقدراتها، وتفقر مجتمعاتها، وتُعذب وتقتل المعارضين والمدنيين دون رحمة، ولا تحرك ساكنا، بل تواصل التعاون مع هذه الأنظمة، وتتبادل الزيارات مع قادتها، وتجالسهم في المؤتمرات والمناسبات، وقد ترفع معهم الأنخاب. وحين تبلغ مآسي الشعوب المقهورة ذروتها، وتصبح في صدارة نشرات الأخبار في كل ركن من أركان العالم، "يُمصمص" المجتمع الدولي وكبار دوله الشفاه، وتصدر بيانات التعبير عن القلق، والمناشدة بضبط النفس، والتهدئة، والمطالبات بوقف العدائيات، وحماية المدنيين، واحترام القانون الإنساني الدولي، والتوسط عبر ممثلين للأمين العام للأمم المتحدة والتجمعات الإقليمية والدول الكبرى. وقد يصل ذلك إلى مرحلة الشجب والإدانة، وجلسات مجلس الأمن، وربما فرض العقوبات الانتقائية، مع تسيير قوافل الإغاثة. بعدها يُدير المجتمع الدولي ظهره لتلك الشعوب، ويغمض عينيه راضيا عما قام به من جهود لا تُوقف النزيف والفوضى والدمار. أنظر إلى موقف الولايات المتحدة من جريمة العصر في غزّة التي تحدث تحت بصر وسمع العالم. تواصل إسرائيل تدمير غزة بأكملها على رؤوس أطفالها ونسائها وشيوخها، وتمنع عنهم الماء والغذاء والوقود ووسائل الاتصال، وتهدم المشافي والمدارس والجامعات والبنيات التحتية، ولا يتجاوز رد فعل الولايات المتحدة على الزيارات المكوكية لوزير خارجيته، والمطالبة (الخجولة) بوقف إطلاق النار، وتسهيل انسياب المساعدات الإنسانية، و"تحنيس" إسرائيل بالترفق بالمدنيين (وهي تمدها بالقنابل زنة ألف رطل)! وكأنها تقول: "والنبي بالملسا"، كما تضرع الجندي المصري في حملة هكس باشا في معركة شيكان حين سقط على الأرض وهجم عليه محارب من أتباع المهدي، يحمل مجموعة من الرماح من مختلف الأشكال، بينها "الكوكاب" المخيف الذي يخترق الجسد بسهوله، ولكنه لا يخرج إلا إذا انتزع الأحشاء.
حين أنظر الآن (من منظور سوداني وإنساني) إلى سوريا وهي في مهب الريح، مقطعة الأوصال، مثخنة بالجراح، ومستباحة من الجميع، تنتابني أحاسيس شتى: الفرح لخلاص الشعب السوري من كابوس نظام الأسد الدموي المجنون؛ والإشفاق والجزع مما قد يصيبه في مقبل الأيام، والتعاطف (لأن المصائب يجمعن المصابين)، والكثير من الحزن على الهدر العبثي المتوحش لأكثر من نصف قرن للأرواح والموارد والزمن في بلد له عمق واسهامات حضارية منذ فجر التاريخ.
نسأل الله أن يلطف بالشعب السوري (وبنا)، وأن يهدي أشتات طوائفها، وفصائلها، وإثنياتها، وأقاليمها سواء السبيل، وأن يجعل الجميع يعملون على إعمار بلادهم، ويتعظون بما حدث لهم ولغيرهم وهم يفرغون سجونهم، وينبشون مقابرهم الجماعية، ويهيئون بلادهم لعودة ملايين النازحين واللاجئين الذين طال شتاتهم داخل وخارج سوريا.
فيزياء السياسة
أحد القوانين الصارمة للطبيعة هو أن الطاقة لا تتبدد ولا تتلاشى إنما تتحول من شكل لآخر. فطاقة المياه الجارية تتحول إلى حركة دائرية في التوربينات، فتتحول إلى طاقة كهرائية يمُكن أن تتحول إلى طاقة حرارية أو إلى ضوء أو إلى حركة. الطاقة لا تتلاشى.
ينطبق نفس القانون على السياسة، فسجل الحكام والأنظمة والحكومات وشططهم لا يتلاشى بنهاية الحكام والأنظمة؛ لا تتبدد السياسات الخرقاء المتخبطة، ولا الظلم، ولا الفساد والإفساد، ولا القهر، ولا الإذلال، ولا خراب المؤسسات والاقتصاد والذمم، ولا إهدار المقدرات، ولا وأد مستقبل الأجيال القادمة. لا يتلاشى كل ذلك بتغيير الحكام والأنظمة، بل يستحيل أولا إلى غُبن، ثم إلى غضب كظيم، ثم إلى احتقان، فاحتجاج، فمقاومة، ثم إلى عنف، وحرب أهلية وربما فوضى لا تبقي ولا تذر.
في الصومال، بعد سنوات من التخبط و"التجارب" الأيديولوجية وإثارة النعرات الجهوية، وصل الحال بالرئيس سياد بري (الذي قدِم للحكم عبر انقلاب أبيض في عام 1969 مُبشرا بتطبيق الاشتراكية العلمية علي هدي المبادئ الإسلامية!) إلى طريق مسدود (وعقل مسدود)، رفض فيه كل الدعوات السلمية من المعارضة لتغيير سلمي يُشارك هو فيه بعد أن شارفت البلاد على الانهيار، ثم انقلب على أهل الشمال، فقصف هرقيسا بسلاح الجو، مُطلقا بذلك مارد الحرب الأهلية من قمقمه، مُنهيا حكمه وحياته، وناسفا استقرار الصومال - إلى الأبد فيما يبدو.
وفي كمبوديا، حين عجزت ادارة نيكسون الأولى (1968-72) في كسر شوكة ثوارالفيت كونج في فيتنام الجنوبية، وفي تركيع فيتنام الشمالية رغم القصف الوحشي لأراضيها، وحين احتدمت المعارضة للحرب في داخل أمريكا وخارجها، قرر نيكسون قصف كمبوديا المُسالمة المُحايدة للقضاء على خطوط أمداد الفيت كونج، مُدخلا كمبوديا في حرب أهلية ومسلسل دموي بدأ بانقلاب لون نول وعزل الأمير سيهانوك، ثم استيلاء الخمير الحُمر على السلطة في 1975، وغزو فيتنام للبلاد وتنصيب حكومة موالية لهم في 1979 وما تبع ذلك من هزّات. وقد كانت فترة حكم الخمير الحمر كابوسا لن يُنسى، أحالوا فيه كمبوديا المسالمة، "سلة غذاء" الهند الصينية، إلى "حقول" للموت والمجاعات، وأتوا، بقيادة بول بوت، فرنسي التعليم واللسان، بأصولية جديدة أرادوا عبرها "إعادة صياغة" شعب كمبوديا، قتلت نحو ثلاثة ملايين، وأفرغت المدن من ساكنيها "لإعادة تعليمهم" وإشراكهم في الزراعة لتحقيق الاكتفاء الذاتي الكامل، وقتلت كل من يتحدث لغة أجنبية، أو على قدر من التعليم - أو حتي من يلبس نظارات طبية لصلة ذلك بالقراءة! ورغم مضي ما يقارب الأربعة عقود على فترة الخمير الحمر القصيرة، ما زالت كمبوديا تجاهد للتعافي من تركتهم المثقلة.
وفي ليبيريا، أفضت سيطرة الليبيريين العائدين بعد تحريرهم من العبودية في أمريكا، والتي امتدت نحو قرنين من الزمان، واستئثارهم بالسلطة والثروة على حساب الليبيريين "الأفارقة"، إلى تحويل الغُبن المتراكم إلى عنف، تمثل أولا في انقلاب الشاويش صامويل دو (أول رئيس من سكان البلاد الأصليين)، والذي مثّل بجثث آل توبمان وتولبرت علي رمال شواطئ منروفيا، وانتهى بحرب أهلية مدمرة (1989 – 2003) امتدت نيرانها إلى دول الجوار وخاصة سيراليون، وشهدت ألوانا من العنف لا تزال تؤرق ذاكرة البلاد، واضطرابا في الأحوال استمر لسنوات طويلة. -2003
الأمثلة لا تُحصى. رغم انهيار الإتحاد السوفيتي في بداية التسعينيات، ما زالت روسيا تدفع فاتورة شطط الحزب الشيوعي: تلقت روسيا (وهي بلاد تذخر بالثروات) العون الغذائي من الغرب في الفوضى التي أعقبت الانهيار، وبعد أن هدأت الأحوال، تلفت الروس فوجدوا اقتصادا شائها في ظل التحرير، وفسادا شاملا، واستشراء للجريمة المنظمة. وفي مصر وتونس وليبيا، على اختلاف التجربة، اسقطت هذه الشعوب حكوماتها، ولكنها ستُسدد بعرقها ومعاناتها وعنتها، وبدمائها لا شك، ثمن شطط الأنظمة السابقة وفسادها وظلمها للضعيف واحتقارها للإنسان العادي الذي يمثل الأغلبية الساحقة. وفي سوريا واليمن والسودان، وغيرها، ستواصل شعوب هذه البلدان معاناتها حتى بعد سقوط الأنظمة.
الأنظمة الباطشة ذات النظر القصير والألسنة الطويلة لا تأبه كثيرا لمستقبل شعوبها ولا لحاضرها، ولا تتنكر ماضيها، أو لا تقرأه قراءة حصيفة، ولا تتعظ بعبر غيرها؛ تطلق الرصاص على قدمها (كما يقول الفرنجة)، وعلى شعوبها أيضا، وتحفر في همة عجيبة قبورها بيدها (وقبور شعبها في أغلب الأحيان). وحين تسقط وتذهب غير مأسوف عليها، تترك وراءها قنابل موقوتة تتفجر لسنوات وسنوات. والشعوب المحظوظة هي التي تخرج من المحنة بأقل الخسائر نسبيا (مثل موزمبيق، مثلا)، وأتعسها حظا هي التي تخرج من اتون الأنظمة الباطشة لتقع في مرجل الحرب الأهلية ثم في مستنقع الفوضى اللانهائية (كالصومال، مثلا).
نسأل الله التخفيف!
2012
ahmedsidahmed.contacts@gmail.com
الدروس الظاهرة والمخفيّة في المسألة السوريّة. د. أحمد التيجاني سيد أحمد
كتب السفير عوض محمد الحسن Awad Elhassan
"والكلام ليك يا المنطّط عينيك!"
الدرس الأول: "كل أول وليه آخر"، والأوضاع غير الطبيعية قد تستمر لبعض الوقت (أكثر من نصف قرن في سوريا وأكثر من ثلاثين سنة في السودان ومثل ذلك في أماكن عديدة أخرى)، ولكنها قطعا لا تدوم.
الدرس الثاني: السلطة "تلحس" العقل، والضمير، والوجدان؛ وتعمي البصر والبصيرة عن رؤية الحق والحقائق؛ وتصمّ الأذن عن نصح الناصحين وأنّات المظلومين والمكلومين. "السلطة مفسدة، والسلطة المُطلقة مفسدة مُطلقة"، كما أفتى قديما الخواجة لورد آكتون. أنظر، على سبيل المثال لا الحصر، إلى عشرات السيارات الفارهة التي تركها بشار الأسد في قصره المنيف، وأكداس العملات والحلي المهولة التي تركها بن علي وراءه في قصر قرطاج، (والحسابات المصرفية والممتلكات الفاخرة التي دسّها أقطاب نظام الإنقاذ\الجبهة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها – ولا تنسى "يخت" عمر البشير الفاخر المهمل على شاطئ النيل الأزرق الذي شروه بملايين الدولارات لشخص ليس له نصيب في فنون السباحة والإبحار!)
الدرس الثالث: سقوط الطغاة والأنظمة لا يعني بالضرورة تحسن الأحوال بعد سقوطهم. وفي غالب الأحيان، تظل الشعوب تدفع ثمن أخطاء وخطايا الطغاة والأنظمة لسنوات طويلة بعد زوالهم (أربعة عقود من خمج القذافي، وثلاثة عقود من فساد البشير، وعقود طويلة من “سيطرة" موبوتو ، وعبث وجنون بوكاسا وغيرهم)؛ يُسددونها من دمائهم وعرقهم وبؤسهم، ودمار مقدراتهم ومستقبلهم ومستقبل أجيالهم المُقبلة، (كما حدث في العراق، وليبيا، واليمن، والسودان، على سبيل المثال). والشعوب المحظوظة هي التي تخرج بأقل الخسائر (رواندا، سيراليون، وليبيريا، وكمبوديا – مثلا). (أنظر مقالي القديم المرفق أدناه بعنوان "فيزياء السياسة").
الدرس الرابع: العالم\المجتمع الدولي لا يهمه كثيرا مصير الشعوب المقهورة بأنظمتها أو المحتلة بدولة أخرى مهما بلغ القهر والبشاعة والوحشية والظلم، حتى حين يصل الحال لدرجة التطهير العرقي، أو الإبادة الجماعية، أو محو البلاد بأهلها (كما يحدث الآن في غزة وفي السودان). ترى الدول الكبرى وتعلم علم اليقين أن الطغاة والأنظمة الباطشة تخنق شعوبها، وتستبيح مقدراتها، وتفقر مجتمعاتها، وتُعذب وتقتل المعارضين والمدنيين دون رحمة، ولا تحرك ساكنا، بل تواصل التعاون مع هذه الأنظمة، وتتبادل الزيارات مع قادتها، وتجالسهم في المؤتمرات والمناسبات، وقد ترفع معهم الأنخاب. وحين تبلغ مآسي الشعوب المقهورة ذروتها، وتصبح في صدارة نشرات الأخبار في كل ركن من أركان العالم، "يُمصمص" المجتمع الدولي وكبار دوله الشفاه، وتصدر بيانات التعبير عن القلق، والمناشدة بضبط النفس، والتهدئة، والمطالبات بوقف العدائيات، وحماية المدنيين، واحترام القانون الإنساني الدولي، والتوسط عبر ممثلين للأمين العام للأمم المتحدة والتجمعات الإقليمية والدول الكبرى. وقد يصل ذلك إلى مرحلة الشجب والإدانة، وجلسات مجلس الأمن، وربما فرض العقوبات الانتقائية، مع تسيير قوافل الإغاثة. بعدها يُدير المجتمع الدولي ظهره لتلك الشعوب، ويغمض عينيه راضيا عما قام به من جهود لا تُوقف النزيف والفوضى والدمار. أنظر إلى موقف الولايات المتحدة من جريمة العصر في غزّة التي تحدث تحت بصر وسمع العالم. تواصل إسرائيل تدمير غزة بأكملها على رؤوس أطفالها ونسائها وشيوخها، وتمنع عنهم الماء والغذاء والوقود ووسائل الاتصال، وتهدم المشافي والمدارس والجامعات والبنيات التحتية، ولا يتجاوز رد فعل الولايات المتحدة على الزيارات المكوكية لوزير خارجيته، والمطالبة (الخجولة) بوقف إطلاق النار، وتسهيل انسياب المساعدات الإنسانية، و"تحنيس" إسرائيل بالترفق بالمدنيين (وهي تمدها بالقنابل زنة ألف رطل)! وكأنها تقول: "والنبي بالملسا"، كما تضرع الجندي المصري في حملة هكس باشا في معركة شيكان حين سقط على الأرض وهجم عليه محارب من أتباع المهدي، يحمل مجموعة من الرماح من مختلف الأشكال، بينها "الكوكاب" المخيف الذي يخترق الجسد بسهوله، ولكنه لا يخرج إلا إذا انتزع الأحشاء.
حين أنظر الآن (من منظور سوداني وإنساني) إلى سوريا وهي في مهب الريح، مقطعة الأوصال، مثخنة بالجراح، ومستباحة من الجميع، تنتابني أحاسيس شتى: الفرح لخلاص الشعب السوري من كابوس نظام الأسد الدموي المجنون؛ والإشفاق والجزع مما قد يصيبه في مقبل الأيام، والتعاطف (لأن المصائب يجمعن المصابين)، والكثير من الحزن على الهدر العبثي المتوحش لأكثر من نصف قرن للأرواح والموارد والزمن في بلد له عمق واسهامات حضارية منذ فجر التاريخ.
نسأل الله أن يلطف بالشعب السوري (وبنا)، وأن يهدي أشتات طوائفها، وفصائلها، وإثنياتها، وأقاليمها سواء السبيل، وأن يجعل الجميع يعملون على إعمار بلادهم، ويتعظون بما حدث لهم ولغيرهم وهم يفرغون سجونهم، وينبشون مقابرهم الجماعية، ويهيئون بلادهم لعودة ملايين النازحين واللاجئين الذين طال شتاتهم داخل وخارج سوريا.
فيزياء السياسة
أحد القوانين الصارمة للطبيعة هو أن الطاقة لا تتبدد ولا تتلاشى إنما تتحول من شكل لآخر. فطاقة المياه الجارية تتحول إلى حركة دائرية في التوربينات، فتتحول إلى طاقة كهرائية يمُكن أن تتحول إلى طاقة حرارية أو إلى ضوء أو إلى حركة. الطاقة لا تتلاشى.
ينطبق نفس القانون على السياسة، فسجل الحكام والأنظمة والحكومات وشططهم لا يتلاشى بنهاية الحكام والأنظمة؛ لا تتبدد السياسات الخرقاء المتخبطة، ولا الظلم، ولا الفساد والإفساد، ولا القهر، ولا الإذلال، ولا خراب المؤسسات والاقتصاد والذمم، ولا إهدار المقدرات، ولا وأد مستقبل الأجيال القادمة. لا يتلاشى كل ذلك بتغيير الحكام والأنظمة، بل يستحيل أولا إلى غُبن، ثم إلى غضب كظيم، ثم إلى احتقان، فاحتجاج، فمقاومة، ثم إلى عنف، وحرب أهلية وربما فوضى لا تبقي ولا تذر.
في الصومال، بعد سنوات من التخبط و"التجارب" الأيديولوجية وإثارة النعرات الجهوية، وصل الحال بالرئيس سياد بري (الذي قدِم للحكم عبر انقلاب أبيض في عام 1969 مُبشرا بتطبيق الاشتراكية العلمية علي هدي المبادئ الإسلامية!) إلى طريق مسدود (وعقل مسدود)، رفض فيه كل الدعوات السلمية من المعارضة لتغيير سلمي يُشارك هو فيه بعد أن شارفت البلاد على الانهيار، ثم انقلب على أهل الشمال، فقصف هرقيسا بسلاح الجو، مُطلقا بذلك مارد الحرب الأهلية من قمقمه، مُنهيا حكمه وحياته، وناسفا استقرار الصومال - إلى الأبد فيما يبدو.
وفي كمبوديا، حين عجزت ادارة نيكسون الأولى (1968-72) في كسر شوكة ثوارالفيت كونج في فيتنام الجنوبية، وفي تركيع فيتنام الشمالية رغم القصف الوحشي لأراضيها، وحين احتدمت المعارضة للحرب في داخل أمريكا وخارجها، قرر نيكسون قصف كمبوديا المُسالمة المُحايدة للقضاء على خطوط أمداد الفيت كونج، مُدخلا كمبوديا في حرب أهلية ومسلسل دموي بدأ بانقلاب لون نول وعزل الأمير سيهانوك، ثم استيلاء الخمير الحُمر على السلطة في 1975، وغزو فيتنام للبلاد وتنصيب حكومة موالية لهم في 1979 وما تبع ذلك من هزّات. وقد كانت فترة حكم الخمير الحمر كابوسا لن يُنسى، أحالوا فيه كمبوديا المسالمة، "سلة غذاء" الهند الصينية، إلى "حقول" للموت والمجاعات، وأتوا، بقيادة بول بوت، فرنسي التعليم واللسان، بأصولية جديدة أرادوا عبرها "إعادة صياغة" شعب كمبوديا، قتلت نحو ثلاثة ملايين، وأفرغت المدن من ساكنيها "لإعادة تعليمهم" وإشراكهم في الزراعة لتحقيق الاكتفاء الذاتي الكامل، وقتلت كل من يتحدث لغة أجنبية، أو على قدر من التعليم - أو حتي من يلبس نظارات طبية لصلة ذلك بالقراءة! ورغم مضي ما يقارب الأربعة عقود على فترة الخمير الحمر القصيرة، ما زالت كمبوديا تجاهد للتعافي من تركتهم المثقلة.
وفي ليبيريا، أفضت سيطرة الليبيريين العائدين بعد تحريرهم من العبودية في أمريكا، والتي امتدت نحو قرنين من الزمان، واستئثارهم بالسلطة والثروة على حساب الليبيريين "الأفارقة"، إلى تحويل الغُبن المتراكم إلى عنف، تمثل أولا في انقلاب الشاويش صامويل دو (أول رئيس من سكان البلاد الأصليين)، والذي مثّل بجثث آل توبمان وتولبرت علي رمال شواطئ منروفيا، وانتهى بحرب أهلية مدمرة (1989 – 2003) امتدت نيرانها إلى دول الجوار وخاصة سيراليون، وشهدت ألوانا من العنف لا تزال تؤرق ذاكرة البلاد، واضطرابا في الأحوال استمر لسنوات طويلة. -2003
الأمثلة لا تُحصى. رغم انهيار الإتحاد السوفيتي في بداية التسعينيات، ما زالت روسيا تدفع فاتورة شطط الحزب الشيوعي: تلقت روسيا (وهي بلاد تذخر بالثروات) العون الغذائي من الغرب في الفوضى التي أعقبت الانهيار، وبعد أن هدأت الأحوال، تلفت الروس فوجدوا اقتصادا شائها في ظل التحرير، وفسادا شاملا، واستشراء للجريمة المنظمة. وفي مصر وتونس وليبيا، على اختلاف التجربة، اسقطت هذه الشعوب حكوماتها، ولكنها ستُسدد بعرقها ومعاناتها وعنتها، وبدمائها لا شك، ثمن شطط الأنظمة السابقة وفسادها وظلمها للضعيف واحتقارها للإنسان العادي الذي يمثل الأغلبية الساحقة. وفي سوريا واليمن والسودان، وغيرها، ستواصل شعوب هذه البلدان معاناتها حتى بعد سقوط الأنظمة.
الأنظمة الباطشة ذات النظر القصير والألسنة الطويلة لا تأبه كثيرا لمستقبل شعوبها ولا لحاضرها، ولا تتنكر ماضيها، أو لا تقرأه قراءة حصيفة، ولا تتعظ بعبر غيرها؛ تطلق الرصاص على قدمها (كما يقول الفرنجة)، وعلى شعوبها أيضا، وتحفر في همة عجيبة قبورها بيدها (وقبور شعبها في أغلب الأحيان). وحين تسقط وتذهب غير مأسوف عليها، تترك وراءها قنابل موقوتة تتفجر لسنوات وسنوات. والشعوب المحظوظة هي التي تخرج من المحنة بأقل الخسائر نسبيا (مثل موزمبيق، مثلا)، وأتعسها حظا هي التي تخرج من اتون الأنظمة الباطشة لتقع في مرجل الحرب الأهلية ثم في مستنقع الفوضى اللانهائية (كالصومال، مثلا).
نسأل الله التخفيف!
2012
ahmedsidahmed.contacts@gmail.com