الدستور الدائم بين إقدام الكسندر هاملتون وتردد المعارضة السودانية؟
morizig@hotmail.com
ولد الكسندر هاملتون فى يناير من عام 1755 وهو مفكر دستوري وسياسي قلّ نظيره، وقد كان أول من تقلد منصب وزير الخزانة (المالية) في الولايات المتحدة بعد استقلالها ، وهو الذى تزعم الدعوة إلى انعقاد مؤتمر دستوري فى مدينة فيلادلفيا في عام 1787لوضع دستور دائم للبلاد . وبالفعل كان للرجل ما تمني أن خرج المؤتمر بدستور دائم للولايات المتحدة عدل 27 مرة ليواكب تطور المجتمع والأحداث والزمان.
اشتهر الكسندر هاملتون بغزارة علمه فى القانون وعلوم السياسة فكان من الذين قاموا بصياغة نصوص الدستور الأمريكي وبالتالي أصبح من الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية،وهو أول من نادى بفصل السلطات الثلاثة عندما كتب مدافعا عن دور القضاء في التنظيم الدستوري قائلا : "لن تعم الحرية في البلاد إلا بفصل السلطة القضائية عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية ... فليس هناك خطراً على الحرية من السلطة القضائية وحدها، وإنّما هناك خطر كبير سوف يهددها من جراء اتحاد هذه السلطة مع أي من السلطتين الأخيرتين ." . توفي هذا العبقري وعمره 49 عاما في يوم 12 يوليو من سنة 1804 في مدينة نيويورك.
وفى دعوته لكتابة دستور دائم للبلاد واجه معارضة شديدة من كثير من السياسيين آنذاك ، وكانت حجتهم أن ظروف البلاد لا تسمح بكتابة دستور دائم وهي التي قد أبتليت بالحروب والفقر والجهل، كما أبدوا تخوفهم من صعوبة التراجع بعد إجازة الدستور إذا أخطأوا التقدير السياسي. ورد عليهم أصحاب مشروع الدستور الدائم بأن مشروعهم هذا لبنة أولى وخطوة صحيحة فى مسار الإستقرار والتنمية والعدل والمساواة، وسوف تصحح وتكمل الأيام والتجارب ما نقص من المشروع لا محالة فلا داعي للخوف أصلا. ولكن المعارضون لقيام المؤتمر اعتبروا هذا التبرير ضعفا وغير مطمئن من أصحاب المشروع ، وأنه يدل على أن أفكارهم فطيرة لم تستوي وقد يكون تكتيكا أيضا ، فردّ عليهم الكسندر هاميلتون قائلا:
" إن التنازلات التي جاءت من جانب أصحاب مشروع الدستور والقائلة إنه لا يدعي الكمال المطلق، وفرت مجالا لنصر لا يستهان به لأعداء المشروع أذ أنهم يقولون : "لماذا نتبنى شيئا ناقصا"؟ لماذا لا نصبر ونعد له ونجعله كاملا قبل أن يجاز بصورة لا يمكن التراجع عنها؟ وفى الحقيقة ، لا يمكن العثور على شخص مؤيد لمشروع الدستور لا يجاهر بميوله القائلة إن المشروع قد لا يكون كاملا فى كل وجوهه إلا أنّه على العموم مشروع جيّد ، وإنه أفضل ما تسمح به وجهات النظر الحالية وظروف البلاد ، وأنّه (أي مشروع الدستور) من النوع الذي يمنّي بكل ضروب الأمن التي يمكن أن يرغب فيها أناس عقلاء.
وأجيب من ناحية أخرى بأنني أعتقد أنّه فى منتهى الحماقة تطويل أمد ظروفنا الوطنية الحالية بوضعها المتقلقل وتعريض الاتحاد (اتحاد الولايات) إلى خطر التجارب المتتالية فى السعي وراء مشروع وهمي لن يتحقق. إنني لا أتوقع أبدا أن أري عملا كاملا من إنسان غير كامل." وأضاف "إذ لو كان الناس ملائكة لما دعت الضرورة لوجود حكومات. وإذا قيّض للملائكة أن يحكموا البشر فلن يكون ثمة داع لضوابط على حكمهم لأنّهم فى مقام الكمال! ولكن المشكلة تكمن فى إقامة حكومة يديرها البشر فتلك هى العقبة الكبرى، لأنّ الحكومة تحتاج لتحكم السيطرة على شعبها ، وفى المقابل شعبها يحتاج لشيء يحميه منها و يرغمها على لجام نفسها والوقوف فى حدودها."
لعل وجه الشبه واضح بين الظروف الأمنية والسياسية والإجتماعية التي مرت بها الولايات المتحدة فى بداية تكوينها والظروف التي يمر بها السودان حاليا فى كل شئ. وفى هذه الأيام نشهد حراكا سياسيا لجمع المعارضة السودانية مع الحكومة السودانية على طاولة المصالحة الوطنية ، {والصلح خير} كما قال المولى عزّ وجل. ورسالتي من وراء هذا المقال للمعارضة السودانية وللإخوة والأخوات الذين سيجلسون للحوار والمصالحة أن لا يستخفوا بمسألة كتابة دستور دائم للبلاد بحجة أن الظروف غير ملائمة.فالدستور الدائم هو الذى يحدد إطار المصالحة، ويحفظها ، ويكسبها سند شعبي.والدستور الدائم هو الذي سينهى دوامة الدساتير المؤقتة التى ابتلينا بها منذ إعلان الإستقلال وحتى هذه اللحظة، وهذه الدساتير المؤقتة فى حقيقة الأمر هدية من المعارضة للحكومة لتلبسها متى شاءت وتخلعها متى شاءت،وتغير وتمدد فيها كيف شاءت!! لماذا؟ لأنها لا تحترمها من الأساس بسبب أنها مؤقتة ولم يصوت عليها الشعب.
وأخشى ما أخشى أن تتم المصالحة على غير هدى دستور دائم، فما يلبث المعارضون قليلا حتى ينقلبوا على بعضهم بعضا كما رأينا فى الماضي، ويبدأ الفلم الهندي من جديد ونرى المشاكسات السياسية تنسيهم هدفهم فيتأخر الدستور الدائم عشرون سنة أخرى، وحينها سيضحك أبو حنيفة ويمد رجليه ويخلد إلى النوم!!
روى ابن بطوطة أنه سمع الكسندر هاملتون يفتتح ذلك المؤتمر الدستوري بقصيدة الشاعر محمود أبوبكر النسر التي يقول فيها:
صه يا كنار وضع يمينك فى يدي**** ودع المزاح لذى الطلاقة والدد (اللهو)
وعندما وصل لقوله
وإذا ادخرت إلى الصباح بسالة **** فاعلم بأنّ اليوم أنسب من غد
قام الكسندر هاميلتون من كرسيّه وقال بأعلى صوته "بلى، إنّ اليوم أنسب من غد " ثم طرق الطاولة بمطرق من حديد معلنا بداية المؤتمر بكل عزيمة واصرار وتوكل وثقة ، وعلّق ابن بطوطة قائلا : " ما رأيت مؤتمرا دستوريا فى تاريخ الإنسانية أنجح من ذلك المؤتمر قط". فعلق أحد ظرفاء السودان قائلا "الله كريم نلقا زي دا"