الدعم السريع بندقية أجيرة: لا تحاكموا أجنبية أفرادها ببينة اللغة

 


 

 

IbrahimA@missouri.edu

3 يونيو 2019
عدنا في فيديو دائر اليوم لمحاكمة الدعم السريع بأنها عصبة أجنبية خالصة بدليل لسان أحد منها. فكان تحدث واحد منه لثواني بلغة لم نعرفها بعد ليستنتج منها بعض الناس أن قوام الدعم السريع أجانب. وهذه محاكمة نخرق بها مبدأ التنوع الثقافي واللغوي الذي يعترف بتباين ألسنتنا وكفالة حق التعبير بها. وكان هذا المبدأ ما طلبت التقيد به بعد حادثة "المرتزقة" (1976) التي خلص فيها كثير من الناس إلى أنهم جحفل من أجانب. وعدت لوجوب التقيد بنفس المبدأ بعد تكاثر الجنجويد الدعامة على الثورة في يونيو 2019 فكتبت هذه الكلمة:
قرأت منذ أمس خبراً عن قبض جماعة من الثوار لفردين من الدعم السريع وصفا بأنهما أجنبيان. وتوقفت عند الاستدلال على أجنبيتهما بعجزهما الحديث باللغة العربية. ومؤكد أن الدعم السريع لقاط ارتزق عضويته لا تعرف وطناً ولا جواز سفر. ومهامها كذلك للبيع في السوق المحلي لمثل البشير والسوق العالمي من حلف السعودية-الأمارات في اليمن إلى الاتحاد الأوربي. بل وسمعت لفرد منهم تحدث الفرنسية بطلاقة ليعترف بأنه كاد ينساها مذ جاء إلى السودان من تشاد. وحضن العلم السوداني الذي يحارب تحته مرتزقاً من الدرك الأسفل. وواضح أنه كان يسخر منه لأن رزق الهبل على المجانين.
ولكن ما أزعجني هو استدلالنا باللغة على "أجنبية" الفرد منهم. فشعوب السودان تتحدث 114 لغة وكثير منا في أطراف البلد لم يكتسبوا أي قدر من العربية حتى نقيس مواطنته بها. وصادف أن نقدت هذا الحكم الجائر على سودانية الفرد على بينة اللسان العربي مرتين. مرة في 1976 خلال هجوم جبهة المعارضة المسلح على حكومة نميري الذي عرف ب"المرتزقة". وكان الأسير من المهاجمين يُعلن "مرتزقاً" لعدم معرفته باللغة العربية. وتكرر ذلك مع أسرى عملية الذراع الطويل لحركة العدل والمساواة في 10 مايو 2008 التي سماها د. البوني "كعة أم درمان".
وكنت نشرت في كتابي "الماركسية ومسألة اللغة في السودان" (دار عزة 2005، أول نشره في 1967) ملحقاً على وجوب الامتناع عن تعريف السوداني بلغته بحجة أن اللغة العربية لغة السودان الرسمية. وهي فعلاً كذلك ولكنها ليست اللغة الوحيدة. ولا ينبغي أن تكون رسميتها سبباً لتجفيف شفاه السودانيين من لغات أمهم. وكنت دعوت في الكتاب بأن لا حاجة لنا بإعلان لغة رسمية أصلاً في الدستور. وأن نترك توظيف سائر لغات السودان لسياقات الحكم والإدارة والتعليم في ديمقراطية منسجمة. وأنقل لكم نص ما كتبته عن اللغة والارتزاق في كتابي.
موقع اللغة ومؤشراتها خلال احداث 2 يوليو 1976م:
بين كتابة مخطوطة هذا الكتاب وطبعه خرجت مسألة اللغة من حالة الكمون لاتصالها بأحداث 2 يوليو 1976م، التي صارعت فيها قوى للمعارضة السودانية حكومة نميري . . . فقد استُخدمت اللغة خلال تعقب عناصر الحملة المهزومة للتفريق بين المواطن وبين الاجنبي المرتزق. كانت السطور الدالة تحت الصور في الصحف تقرأ: ادعى هذا المرتزق انه لا يفهم كلامنا (الصحافة - 8/7/1976) وكان مذيع التلفزيون يؤشر على معتقل أو آخر قائلاً: هذا لا يتكلم العربية.
بينما كانت مسألة اللغة تقسم بلادنا إلى عرب فصاح وعجم رطانة لم ينس مثقفو الردة (هذا اسمنا لنظام نميري بعد هزيمتنا بانقلاب 1971) امتيازاً واحداً من امتيازاتهم. فقد مارسوا مثلاً عجمتهم بلا تعقب. خرج بعضهم من تبطله ليحيط بالأحداث وملابساتها بحماسة مضللة. واضطروا -كالعادة -للاستعانة بالإنجليزية في ذلك المسعى بغير حاجة واضحة. فما العجز في ترجمة «زا أنبرديكتبل مان»، التي قال محمد التوم التيجاني إن الصحافة الغربية تصف بها القذافي؟ ومن الصدف الدالة ان يورد عبد الله رجب ايضاً كلمة «المافريك» التي تصف بها نفس الصحف القذافي. أليس «من واقعنا» اسماً مناسباً للعدو الذي اقتحم صحن الدار؟ كما وصف عبد الله رجب عناصر الجبهة الوطنية بأنها «ديسبليسد بيرسونز». العجمة التي تورد أبناء الشعب البسطاء موارد الهلاك، هي نفسها التي تعطي بعض مثقفيهم احساسهم بذاتهم وامتيازاتهم.
على ضوء احداث 2 يوليو اتصلت مسألة اعتبار التباين اللغوي في السودان مباشرة بحقائق العدالة البسيطة. فعن طريق ذلك الاعتبار نوفر للمواطن أمنه وانسجامه في وطنه فلا يتعرض للملاحقة ولا تحد حريته اجمالا لأنه يعثر في العربية أو لا يتحدث بها اطلاقاً مثل اشخاص تتهمهم الدولة في شأن أو آخر.
والكلام كثير في الكتاب. وعلينا التشديد على تمتع السوداني بالأمن في لغاته المئة وأربع عشر لأن هذا من أخلاق النجوم في ثورة ديسمبر 2019.

 

آراء