الدكتور غازي صلاح الدين وقضايا ما بعد الإنفصال
بابكر فيصل بابكر
29 December, 2011
29 December, 2011
boulkea@yahoo.com
قدَّم الدكتور غازي صلاح الدين في السابع عشر من الشهر الجاري ورقة في مدرسة الدراسات الشرقية بجامعة لندن تحت عنوان " سودان ما بعد الإنفصال: التحديات والفرص" تناول فيها قضايا لآثار المترتبة على إنفصال الجنوب, والدستور الدائم, والوحدة الوطنية, ومأسسة الدولة, والبُعد الخارجي, وكيفية السير للأمام من اجل الخروج من المأزق الراهن.
وعلى الرغم من انَّ الورقة إتسمت بقدر عال من الموضوعية في تناول تلك القضايا الا إنها في تصوري الخاص إفتقدت للعمق المطلوب في تناول "أسباب" العديد من المشاكل التي تطرقت لها, كما انها غضَّت الطرف عن موضوعات في غاية الأهمية ولا يمكن تصوُّر مستقبل السودان دون إيجاد حلول لها . وربما كان السبب في ذلك نابع من وضع كاتب الورقة وما يمثله من توجه فكري وسياسي لا يخلو من تحيزات في طرح القضايا الخلافية وهو امرٌ طبيعي ومفهوم.
يقول الدكتور غازي في موضوع الدستور أنَّ هناك " بعض القضايا المكررة مثل الهوية والدين ستهيمن بلا شك على النقاش ولكن حلها سيكون أقل صعوبة مما كان عليه الوضع عندما كان الجنوب جزءاً لا يتجزأ من التركيبة السياسية ".
لا أدري ما الذي يجعل الدكتور غازي يقطع بأنَّ حل هذه المشاكل سيكون أقلَّ صعوبة, الأنَّ الجنوب لم يكن عربياً أو مسلماً ؟ هذا الوضع ينطبق كذلك على سكان جبال النوبة, و النيل الأزرق الذين وإن كان فيهم المسلمون الا أنهم ليسوا عرباً وليسوا جميعاً مسلمين. و من ناحية أخرى فإنَّ الخلاف حول فهم موضوع "الدين" بين المسلمين أنفسِهم خلافٌ كبير يصل إلى درجة التكفير والقتل والإتهام بالخروج من الملَّة.
إنني أزعم – بعكس الفهم العام - أنَّ وجود الجنوب كان عاملاً إيجابياً في التخفيف من غلو بعض التيارات الإسلامية التي ما أنْ ذهب الجنوب إلى حال سبيله إلا وبدأت تكشف عن طبيعة تصورِّها المتزمِّت والذي بلا جدال سيزيد من صعوبة النقاش حول موضوع الدين وليس العكس.
إشتراك سكان البلد الواحد في إعتناق دين من الأديان – يا دكتور غازي - لا يُمثل ضماناً للتوافق والإستقرار والتعايش السلمي والعكس بالعكس. والمثال الأكثر وضوحاً في هذا الإطارهو "الصومال" الذي يعتنق جميع سكانه الإسلام ومع ذلك فهم يتقاتلون منذ أكثر من عقدين من الزمن في حرب عبثية ترفع فيها رايات الدين من كل الأطراف, في حين أنَّ بلداً مثل الهند يعتنق سكانه عشرات الأديان ومع ذلك فهم يتعايشون بقدر عال من التسامح والتوافق.
ويواصل الدكتور غازي الحديث في ذات الإطار قائلاً " ومما يبعثُ على الإطمئنان عدم وجود حجج تستند إلي الآيدولوجيا في خيارات مختلف الأطراف حول معظم هذه القضايا. إنَّ المصلحة وليس الآيدولوجيا هى ما ستحدد مخرجات هذه النقاشات".
إنْ كان الدكتور غازي يُعبِّر بهذا القول عن توجهٍ لحزب المؤتمر الوطني فإنهُ يكون قد نسف المشروع الفكري الذي قامت عليه الإنقاذ من الأساس. وهو في جوهره مشروع " رسالي" لا يأبهُ بالمصلحة ولا يضع لها إعتباراً شأنه شأن كل المشاريع الآيديولوجية. وتكمن المفارقة في أنَّ تجليات المشروع التي ظهرت منذ ستينات القرن الفائت تمحورت أساساً حول ما سُمى ب " الدستور الإسلامي", وكان المحور الخاص بنظام الحكم هو مدار الخلاف والمزايدة منذ ذلك الحين.
هل تمَّت مراعاة المصلحة التي يتحدث عنها الدكتور غازي في إطار العلاقات الخارجية عندما أعلنت الإنقاذ الحرب على أمريكا والغرب ؟ هل تمَّت مراعاة المصلحة في العلاقات الإقليمية عندما إحتضنت الإنقاذ كل القيادات الإسلامية المتطرفة ؟ أين كانت المصلحة الوطنيِّة عندما تمَّت " شيطنة " الجنوب ورفعت في وجهه رايات الجهاد والإستشهاد ؟
إنَّ الخطاب الآيديولوجي بخصائصه المتمثلة في الوعي الزائف, والتمويه, والإقصاء, وإمتلاك الحق المطلق ما زال حاضراً في الفكر الذي يوجه الحزب الحاكم. أمَّا زيف الوعي فيمكن أن نتلمسه في حديث نائب الرئيس الأخير في الفاشر, حيث يقول بإطمئنانٍ شديد : " إنَّ الحكومة بصدد إنشاء نظام عالمي جديد يبدأ من السودان " . والتمويه نجدهُ في تصريحات رئيس المجلس الوطني التي قال فيها : " البرلمان لا يخاف الشعب، لكنه يخاف الله . إذا كان وجودنا هُنا خوفاً من الشعب – أحسن نمشي". أما الإقصاء وإمتلاك الحق المطلق فلا أدلَّ عليه من دعوة نائب الرئيس لمناصري الحكومة : " إلى ركوب الخيل لنُصرة الرحمن وتدمير الشيطان". هذه الأمثلة وكثيرٌ غيرها لا تعكس تحولاً في طبيعة خطاب الحزب الحاكم.
إضافة إلى ذلك فقد ساهمت الإنقاذ بسبب توجهها الآيديولوجي الرسالي بسهم وافر في خلق تياراتٍ دينية متشدِّدة لا تعرف حُجَجْ المصلحة التي يتحدث عنها الدكتور غازي , ولا تدرك معنى " مدنيِّة " الدولة, ولا تفقه كنه مفهوم " المواطنة ", ولا تستهويها ولاية " المرأة ", وهى تيارات تبحثُ عن الأصل " القرشي " للخليفة الذي سيتولى أمر المسلمين في " بلاد السودان", وتحدِّد علاقتها مع العالم عبر " الولاء والبراء " وهذه هى القضايا التي تقع في صلب مناقشات الدستور, فكيف إذاً يكون نقاش موضوع الدستور سهلاً مع هؤلاء ؟
وفي إطار نقاشه لموضوع الوحدة الوطنيِّة يقول الدكتور غازي : " نتيجة لضعف الأحزاب إزدهرت أنواع أخرى من الروابط . أضحت القبلية, والطائفية, والجهوية هى الروابط المفضلة التي يمكن أن تتحقق بواسطتها ليس فقط المكاسب السياسية ولكن أيضاً الحماية ".
يبدو أنَّ الدكتور غازي لا يرغب في الغوص في أسباب ضعف الأحزاب وبروز القبلية والجهوية, وذلك لأنَّ الأسباب مرتبطة إرتباطاً مباشراً بطبيعة نظام الحكم وسياساته. إنَّ من الطبيعي في ظل تطاول فترات الشمولية و غياب النظام الديموقراطي في مجتمع تقليدي, غير حديث , وتقوى فيه الروابط الأولية أن تضعف الأحزاب التي تختنق ويتوقف نموها الطبيعي بسبب غياب مناخ الحُرية والإنفتاح.
ومن جانب آخر فقد تعرَّضت الأحزاب طوال العقدين الماضيين لسياسة تفتيت وتقسيم وإضعاف مرسومة ومنظمة من قبل الحكومة أدواتها إغراء المال والسلطة والنفوذ, وكانت النتيجة المنطقية لكل ذلك هى إنبعاث غول القبلية والجهوية الذي كانت الأحزاب قد خففت من غلوائه بإحتضانها للطوائف الدينية التي تلاشت روابط القبيلة والجهوية داخلها, وكان التطوَّر التاريخي الطبيعي يسير في إتجاه إضعاف الروابط الطائفية لمصلحة الأحزاب وهو التطوَّر الذي أجهضتهُ الشمولية عن عمد ومع سبق الإصرار والترصُّد.
ويقول الدكتور غازي في نقاشه لمأسسة الدولة, أى إضفاء طابع المؤسسية عليها : " أرست السلطات الإستعمارية دعائم ثلاث مؤسسات تحديثية : النظام التعليمي, الخدمة المدنية, والقوات المسلحة. وقد تركت هذه المؤسسات أثرها على السياسة مثلما تأثرت بها. و مع ذلك هناك إجماع, على الأقل من الناحية النظرية, أنَّ المؤسسات الثلاث يجب أن تقف بمنأى عن السياسة ".
هذا هو في ظني كعب أخيل الذي ستنسف منه كل جهود إرساء نظام حكم مؤسسي و ديموقراطي حقيقي يساعد في إستقرارالأوضاع بالبلد وينهض بها. لقد مارست الإنقاذ عملية أدلجة و تسييس على جهاز الدولة غير مسبوقة في تاريخ السودان الحديث. بحيث أصبح الولاء للحكومة وتوجهها هو معيار الإستيعاب والترقي في الخدمة المدنيِّة, والقوَّات النظاميِّة, والأمنيِّة, والإعلام, ومختلف أجهزة ومؤسسات الدولة مما أدى – بعد مرور أكثر من عشرين عام – إلى حدوث تطابق كامل بين الدولة والحزب الحاكم, وهو الأمر الذي يُناقضُ أساس العملية الديموقراطية التي تنبني على حياد جهاز الدولة, وعلى إنطلاق الأحزاب المتنافسة من أرضية متساوية.
وفي ذات الإطار (مأسسة الدولة) يقول الدكتور غازي عن سلطة القضاء : " لقد إحتل إستقلال السلطة القضائية على الدوام مركز الصدارة في النقاش السياسي. السودان لديه قضاء مستقل ولكن ماتزال بعض القضايا المتعلقة به تحتاج إلى حلول ".
كيف يكون القضاء مستقلاً – يا دكتور غازي – وهو شأنه شأن مختلف مؤسسات الدولة الأخرى لم ينج من تأثير السلطة التنفيذية, وتعرَّض لذات الهجمة التي مارستها الإنقاذ, حيث تم فصل العشرات من القضاة, وإحلال آخرين ينتمون للإنقاذ وتوجهاتها مكانهم. و يمكن في هذا الخصوص, على سبيل المثال, الرجوع إلى خطاب القاضي الجزئي بمحكمة الخرطوم المدنيِّة عبد القادر محمَّد أحمد الذي وجهه للرئيس معترضاً على قيام مجلس قيادة "الثورة" بفصل عدد من القضاة.
ووجدتُ في هذا الإطار كلاماً ذكياً للكاتب سيف الدولة حمدنا الله يقول فيه : ( أزمة استقلال القضاء في بلادنا واشباهها ، لا تقتصر على التدخل المباشر للجهاز التنفيذي في أعمال القضاء وتعيين القائمين عليه ، ولكنها تتعدى ذلك الى ما يمكن ان يطلق عليه ب "الضمور القضائي" وهو حالة تقاعس السلطة القضائية عن القيام – من نفسها – عن ممارسة واجبها الدستوري في تطبيق أحكام القانون ، لخشيتها من مصادمة – وهو من صميم واجباتها – اقوياء الجهاز التنفيذي ، فالملياردير المصري أحمد عز ، امين التنظيم في الحزب الوطني ، الذي أرسلته محكمة جنوب القاهرة الى ليمان طرة ليقضي حكماً بالسجن عشر سنوات ، لحصوله على عقود حكومية بالمخالفة للاجراءات القانونية المتبعة لترسية المناقصات ، لم تتم محاكمته بواسطة قضاة من بين الذين اعتصموا بميدان التحرير ، فهيئة المحكمة من القضاة الذين اصدروا هذا الحكم ظلوا يعملون بالقضاء وقت ارتكاب هذه الجرائم وغيرها ، ولم يكن في مقدورهم محاسبة مسئول حكومي رفيع بالمحروسة مصر على كسر إشارة مرور ، قبل سقوط مبارك ، رغم نصوص الدستور المصري حول استقلال القضاء والتغني الدائم بحريته ونزاهته ). إنتهى
وفي إطار بحثه عن تعريف أوسع للعدالة يقول الدكتور غازي : " وقد تم في بعض الأحيان خلط قضية العدالة مع القضايا العرقية والجهوية. المثال الأكثر شهرة في هذا الإطار هو مشروع السودان الجديد الذي اطلقه جون قرنق في 1983. والذي تشكل في البداية بإعتباره نظرية في التقدمية والمساواة ولكنه سرعان ماإنتهى إلى آيديولوجية إنفصالية".
من المهم أن نذكِّر الدكتور غازي بأنَّ مثال الإنقاذ الآيديولوجي أشهر من مثال نظرية "السودان الجديد" في خلط قضية العدالة بقضايا أخرى , ففي الوقت الذي خلطت فيه الحركة الشعبية قضية العدالة بالعرق والقبيلة والجهة, فإنَّ الإنقاذ خلطت القضية بما هو أخطر : الدين . كلا المثالين يُجسِّد الوهم الزائف الذي لا يستند إلى أساس في الواقع, وإن كانت الحركة الشعبية حققَّت مكاسب سياسية أكبر , فهى في سبيل سعيها لتحقيق العدالة وفق رؤيتها إستطاعت في خاتمة المطاف أن تخلق لقاعدتها الجماهيرية دولة مُستقلة عن الكيان الذي طالما إتهمته تلك القاعدة بممارسة الإستعلاء و الإضطهاد والظلم.
على عكس زميله الآخر في الحزب الذي إدَّعى أنَّ الربيع العربي وقع في السودان منذ يونيو 1989, أعتقد أنَّ الدكتور غازي يعلمُ جيَّداً أنَّه لا توجد فروق جوهريَّة بين نظام الإنقاذ, ومختلف الأنظمة التي إجتاحها الربيع العربي, فهى جميعاً تشترك في خصائص أربعة أساسية : فقدان الشرعية الدستورية والقانونية , والإعتماد على الإقتصاد الريعي ,والقمع والإبتزاز, والفساد. وبالتالي فإنَّه لا يوجد ما يمنع من أن يكون النظام هدفاً تالياً لذلك الربيع.
أتفق مع الدكتور غازى في عدم الإحتفاء بمصطلح " الجمهورية الثانية" ليس بسبب عدم تغيير الوجوه القيادية في السلطة التنفيذية فحسب, لكن بسب عدم حدوث تغييرات أساسية في طبيعة النظام تعطي المصطلح قيمة ومعنى حقيقي يخالف ما كان قبله في المحتوى والممارسة.
لن تجد دعاوى الإصلاح الحقيقي – يا دكتور غازي - أذناً صاغية لدى قيادة المؤتمر الوطني التي تفهم أنَّ الإصلاح يعني فقط إلحاق الأحزاب بالمناصب الحكومية. أمَّا الإصلاح الذي يهدف لإحداث تغيير جوهري في طبيعة نظام الحكم يطال الدستور والقوانين, ويفك إرتباط الحزب بالدولة ومؤسساتها, ويحد من إحتكار أهل السُلطة للإقتصاد والمال, ويجعل ملعب التنافس مفتوحاً للجميع على قدم المساواة, فليس له مكان في اجندة حزبكم الذي يُصرُّ على إستمرار الأوضاع كما هى حتى لو أدى ذلك للمزيد من الحروب والتفكيك والبتر لأجزاء أخرى من البلد.