الدكتور موسى عبد الله حامد.. وخواطر تسر الخاطر

 


 

 

مدرسة أمدرمان الأميرية.. ذكريات حبيبة

وقـــــائع غزوةٍ خـــــاسرة على فتـــوات المــــــوردة!!

 

عرض وتقديم: الفاضل حسن عوض الله

       

        (نحن أمة ذكريات، لأن الذكريات حبيبة إلى أنفسنا أثيرة عندنا. نحن أمة البكاء على الماضي، نوّاحون على ما فات ولن يعود، نحسن الآسى ونستعذب من الزاد الحنين، ولهذا حُببت إلى نفوسنا الذكريات لأنها بعض أحلام غوال فيها كثير من السلوان)... هذا بعض ما جاد به قلم الأديب الدكتور/ موسى عبد الله حامد وهو يقدم لكتابه الثاني في سلسلة (صدى السنين) بعنوان (ذكريات حبيبة.. أمدرمان الأميرية.. سراديب الصدى). سبق لي أن كتبت عن مؤلفات الدكتور موسى فقلت أن الرجل أديب ضليع جزل العبارة، تحلق مفردات نثره البديع على الورق كما الفراشات الملونة. وقائع هذا الكتاب وذكرياته الآسرة تعود إلى بدايات 1946م، تاريخ إلتحاق المؤلف ورفاق دربه بمدرسة أمدرمان الأميرية الوسطى. تلك الوقائع والذكريات يقول د. موسى أنها ترسم ملامح جيل بأسره في غضون أزمان كانت تتوهج على إمتدادها قيم رفيعة وأوقات مِلاح ومعان وضيئة.. وآمال وأحلام ما تحقق منها إلا اليسير.

        من طرائف هذا الكتاب المبهج التي إنتخبتها كيما أستعرضها في هذا الحيز واقعة الغزوة الخاسرة التي تورط فيها المؤلف مع رهط من زملائه الصبية من تلاميذ المدرسة، والتي إستهدفت صبية (المورداب) الذين عُرفوا بضراوة بأسهم وصعوبة مراسهم... فكان الخسران المبين والإنكسار الفضيحة وإبرام معاهدة إستسلام ورفع مُذِل للراية البيضاء!

        رحت – يا سيدي الدكتور- أضحك كمن مسه الجنون والدمع يتساقط من أعيني (وتلك ظاهرة فسيولوجية تنتابني كلما أفرطت في الضحك، علك تفتينا في أسبابها بعلمك الوافر في مجال الطب)، ومن خلال ضحكي الدامع هذا رحت أجتر ذكرياتي في ذات المدرسة التي دخلناها من بعدك بما يقارب عقدين من الزمان فوجدت فيها بعض (أفلامكم) ولكن بطبعة منتصف الستينات. لله درك فما أندر وما أصعب الضحك في أيامنا هذه يا سيدي الدكتور:-

        (في ذات مرة إلتقت ثلة من أولاد فصلنا في خيمة الأنصار في المولد. وكان صلف المورداب وإستهانتهم بنا قد بلغ من أنفسنا مبلغاً عظيماً أثار فيها قدراً كبيراً من عدم الرضا وإحساساً بالضعف والهوان كبر على إبائنا ضيماً أن يتقبله ويذعن لما يمكن أن يترتب عليه من (ملطشة) وصَغار. فخلصنا نجياً نتفاكر في هذا الأمر ونتدبر مخرجاً يحفظ علينا كرامتنا بين الناس. وكان بين ظهرانينا الصديق الحاج محمد عثمان إبراهيم (الكبتل)، وهو ألفة الفصل، وكان طويلاً تليعاً يكبر زملاءه ببضعة سنوات دون ريب، ولذلك إنعقد له لواء الزعامة، وبايعه حتى الصقور على القيادة والريادة. قال لي الكبتل في ذلك المساء بصوت مرعد واثق وروح مقدامة غير مبالية: إلى متى نحن نداهن هؤلاء القوم وهم يمعنون في الصلف والكبريا؟ وإلى متى نسكت لهم على هذه الحقارة وهذا الإستخفاف بنا؟ ألسنا رجالاً مثلهم؟ قلت له: وما العمل وواحدهم يستطيع أن يصرع ثلاثة أو أربعة منا دون عناء يذكر؟ قال لي: فلنذهب إليهم ذات أمسية في عقر دارهم ونتحرش بهم لننزل بهم هزيمة لن ينسوها أبداً تكون لنا عيداً ومفخرة، وتضعنا في مكاننا اللائق. فلما رأيت حماسته وصادق إستعداده للنزال وافقت على الخطة، ووافق الآخرون. وحددنا الموعد فأجتمع ستة نفر منا كلهم عتاة ما عدا شخصي فقد كنت اقلهم شأناً في هذا المضمار الذي تؤهل له بسطة الجسم دون غيرها. وفي المساء المحدد حملنا بعض العصي الخفيفة وذهبنا إلى الموردة. فإذا بجمهرة من غرمائنا منبطحين على الخور غير بعيد من نادي الموردة الذي كان قريباً من حي الهاشماب في تلك العهود. ولما بلغناهم بدأناهم بالتحية فلم يحفلوا برد السلام وكأنهم علموا بامرنا وما بيتنا عليه النية. وبعد قليل صاح أحدهم بنا وهو منبطح على حافة الخور مثل الورل قائلاً: ماذا تريدون هنا؟ فرد عليه الكبتل في ثبات أضفى علينا روحاً من الجرأة والإستبشار بالنصر: نريد رقابكم وأنفاسكم. وكانت كل خلجات نفسه تنشد في إرادة وتصميم:

الا ليست الحاجات إلا نفوسكم           وليس لنا إلا السيوف وسائل

        ثم هجم عليه بعصاه الصغيرة، وفعل ذلك بقيتنا على من كانوا معه. ودارت بيننا معركة حامية، وثار النقع وأرتفعت العجائر بالسباب. وبان لنا بعد قليل أننا نجالد عمالقة وعتاة لا قبل لنا بهم، فسرعان ما طارت هراواتنا من أيدينا، وضيق علينا القوم الخناق، حتى صاح الكبتل قائلاً: الهرب والنجاة! وبدأ سباق (الماراثون) إذ أطلقنا سيقاننا للريح وفي مقدمتنا الكبتل قائد الحملة وصاحب فكرة الهجوم المباغت، ومن ورائنا أولئك العتاة الضخام المتمرسون، يشيعوننا حصباً بالحجارة ورشقاً بالشتائم وتعييراً بسبة الفرار. يكادون يمسكون بتلابيبنا من فرط قربهم منا، ونحن نعدو عدواً ننتهب الخطى إنتهاباً ونطوي الأرض طياً. وما هي إلا لحظات حتى بلغنا جامع الخليفة، وهم من ورائنا حذو النعل بالنعل توشك أيديهم أن تمسك برقابنا فتفصل الرؤوس عن الأجساد. وما أن بلغنا ساحة المولد التي كانت تعج بالناس حتى إنخنس بعضنا وإنزوى في حلقات الطار وصفوف الذاكرين، بلغت أنا خيمة الأنصار بعد جهد جهيد لأجد صديقي الكبتل هناك وأنفاسه كأنها مرجل يغلي. وفي ذلك الجناب الآمن تراجع عنا من بلغ منهم في مطاردتنا تلك التخوم، فقد علموا يقيناً أن من بلغ تلك العرصات وأحتمى بها فهو آمن، وأنبأهم إحساسهم الصادق أنهم إن أوغلوا أكثر من ذلك فستكون عاقبتهم خسراناً مبيناً. أما الكبتل فقد كان في حالة من الهلع لم يشعر معها أنه أصيب بفككٍ في قدمه اليمنى جعلت خاله عم محمدين يحمله إلى ود بتي في اليوم التالي وظلت خطاه تتعثر من ذلك الفكك- رغم تطبيب ود بتي- أياماً وأسابيع، حتى شفاه من ذلك الشافي.

        وبلغ أمرنا زميلنا محمد العوض مصطفى (عليه رحمه الله) كما بلغ غيره. ورغم أن محمد العوض- صاحب الخيال الخصب والروح المرحة- قد نسج حول هذا الحدث الأقاصيص التي بهدلت سمعتنا في نظر التلاميذ، إلا أنه في نهاية الأمر، وبعد تدخل بعض الصقور في فصلنا لصالحنا قاد مجهوداً جباراً إنتهى بمصالحة بيننا وبين المورداب ما وسعنا إلا أن نتقبل شروطها المجحفة مذعنين وأهمها أن نعلن تعهدنا بالإمتناع عن الذهاب إلى حي الموردة لأي سبب من الأسباب، وإن فعلنا ذلك حنثاً بالعهد فلا نلومن إلا أنفسنا. قبلنا هذا الشرط على مضض منا، وسلمنا لهم بالنصر ونحن نلعق جراح الهزيمة. ولكي أعبر عن حنقي قلت للكبتل أمام الجميع رغم أنه كان عزيزاً علي أن أؤذيه:

ويعجبك الطرير فتبتليه         فيخلف ظنك الرجل الطرير

        ولست أدري إن كان قد فهم مقصدي أم لم يفهمه، لأنه لم يزد على أن ضحك ضحكة قصيرة، ثم إعتدل (النقرابي) الذي كان على خده، فصارت تعابير وجهه لا تثير في نفسك أو توحي لك بأي معنى من المعاني! ولقد أسر لي محمد العوض فيما بعد أن الكبتل قد فهم مقصدي ولكنه تصنع العيّ (والتلامة) حتى لا تتوالى عليه العبارات مذكرة بمرارة الإنهزام).

 

       في الأسبوع المقبل.. رسائل الإمتاع والمؤانسة ما بين مصطفى عابدين عبد الرؤوف وموسى عبد الله حامد.

 

 

آراء