الدوبيت
2 February, 2009
shamoug@yahoo.com
الدوبيت .. ضرب شعري غنائي أشتهر به سكان المناطق الرعوية في السودان، وله أسماء أُخر في العالم العربي مثل الزجل والمواليا، أصله كلمة فارسية مكونة من شطرين أولهما (دو) ويعني اثنين، والمعنى واضح وهو الشعر ثنائي الأبيات، حيث يتكون الدوبيت من قصيدة غنائية طويلة مكونة من مقاطع صغيرة تتألف من بيتين من الشعر بذات القافية مع اشتراط انتهاء الشطر الأول لكل منهما بنفس القافية التي ينتهي بها البيت، وهذا ما يجعل المقطع الواحد من الدوبيت مكون من أربعة أجزاء صغيرة موحدة القافية مثاله ..
الناس العلي الساحر بشقّوا الصيّ
أمسوا الليلة فوق راياً نجيض ما نيّ
ناس أب ترمة جاموس النحاس أب ديّ
عقدوا الشورة ميعادهم جبال كربيّ
وهناك حالات يكون فيها المقطع ثلاثياً أو خماسياً وفي حالات نادرة يكون سداسياً، ويشتهر بهذا النوع سكان بوادي السودان الغربية في كردفان ودارفور، وفي بعض المناطق من أواسط السودان الغربية المتاخمة لكردفان، كما أن أغلب شعر (الحكّامات) بغرب السودان ينتمي لهذا الدوبيت الثلاثي، ومثاله من غرب السودان هذا المقطع الجميل الذي يُمدحُ به العرسان ليلة عرسهم وتغنيه لهم بنات الفريق ..
سقتا النَّم علي الجاغوس
الشجرة الظليلة الما نقرها السوس
في راسها النمر وفي ظلها الجاموس
ورغم أن الدوبيت متجذر في وجدان القصيدة السودانية الدارجة، ويشكل الضرب الأوفر حظاً من الانتشار والتداول لسهولة حفظه وجمال معانيه وارتباطه بحياة البداوة الفطرية التي يحن إليها كثير من الناس الذين شغلتهم حياة المدن والحواضر عن الاستمتاع بجمال تلك الحياة، إلا أن شكل قصيدة الدوبيت كما هي في السودان لا تنتمي حقيقة إلى الدوبيت بمعناه في العالم العربي، حيث الدوبيت هو أحد فنون الشعر المعربّة والخارجة عن أوزان الشعر العربي الخمسة عشر، وللدوبيت خمسة أنواع جميعها لا تطابق الدوبيت الذي نعرفه في السودان وأقربها إلى الدوبيت السوداني هو النوع المسمى : (الرباعي الخالص) وإن كان يختلف عنه اختلافاً طفيفاً، ويتفق معه في كثير من النواحي الأخرى، حيث يتفق معه في وحدة القافية في المقاطع الأربعة، ويختلف معه في وجوب أن يكون هناك جِناسٌ بين قافيتي المقطعين الأولين، وجناسٌ بين القافيتين الأخيرتين، وبذا يختلف عن الدوبيت السوداني الذي لا يشترط سوى وحدة القافية في جميع المقاطع. أما بقية أنواع الدوبيت الأربعة فهي بعيدة كلياً عن فكرة الدوبيت المتعارف عليه في السودان وفي منطقة البُطانة على وجه الخصوص.
ينتمي الدوبيت السوداني إلى بحر من بحور الشعر (المستحدثة)، وهو البحر المسمى بحر (المواليا)، الذي هو فنٌ (مستحدث) قيل أنه أستخدم أول مرة لرثاء الوزراء البرامكة حين نكبتهم على يد الخليفة العباسي، وهذا النوع من الشعر مطابق تماماً لما نسميه نحن في السودان (الدوبيت)، حيث لا يشترط هذا الضرب من الشعر سوى اتفاق القافية الأخيرة من كل جزء من الأجزاء الأربعة أو الثلاثة من مقطع الدوبيت، وربما أتى الخلط بين المواليا والدوبيت – في اعتقادي - لعلاقة المواليا بالفرس البرامكة.
ويعتقد الكتّاب والمؤرخون أن المواليا ضرب من الشعر المستحدث والذي لم يجري على ألسنة العرب في الجاهلية، حيث أن المقياس هو بحور الخليل بن احمد، ولكن ربما أغفل الخليل بن أحمد هذا الضرب من الشعر ولم يرد مطلقاً في بحور شعره الخمسة عشر، أقول أغفله لأن هذا النوع من الشعر ينتمي إلى الشعر الجاهلي وأخص الثلاثي منه بالذكر، وربما أغفله الخليل غير عامد لأن استخدامه لم يكن كثيراً، لذا ومن باب إحقاق الحق ينبغي أن يعترف بالمواليا كأحد بحور الشعر الرسمية المعتمدة. ودليلي على كون المواليا أكثر أصالة من جميع بحور الشعر الأخرى، أن أقدم قصيدة شعر عربي على الإطلاق هي قصيدة العنبر بن تميم والتي كتبت قبل الهجرة النبوية بحوالي مائة وخمسين سنة، وكان قد نظمها لحداء الإبل وهو عائد من منطقة تسمى بهراء في الجزيرة العربية، قال فيها ..
قد رابني من دلوي اضطرابها
والنأي في بهراء واغترابها
إن لم تجيء ملأى يجيء قرابها
ونلاحظ مدى الشبه الشديد بين بناءِ هذه المقطع وبين مقطع قصيدة المواليا وزناً وقافية و(استخداماً)، ورغم أن هذا المقطع لم يعرف إن كان له بقية من قصيدة أم لا، إلا أنه حتى وإن لم يكن مقطعاً معزولاً من ثلاثة مقاطع فقط، فهو على الأقل يحاكي تماماً من ناحية الوزن أوزان المواليا الثلاثية الموجودة في غرب السودان.
ورغم أن المقطع السابق من قصيدة العنبر بن تميم قريب الشبه من البحر السابع من بحور الشعر وهو (بحر الرجز) إلا أن وجود القافية في نهاية كل مقطع ينفي انتماءه لهذا البحر، حيث أن بحر الرجز لا وجود للقافية في نهاية كل شطر من قصائده.
وقد استخدمت المواليا أو كما تسمى في السودان الدوبيت في مختلف المناسبات والأغراض، مدحاً ورثاءً وغزلاً وتشبيباً وفخراً وحماسة، يقول الشاعر العظيم (ود ضحوية) في نقده لظاهرة اجتماعية بدأت في الظهور في وقته، وهي عادة التبطل واللا عمل، وينتقد فيها الولد الشاب الذي لا يسافر (لقطع الطريق) إلى أن ينقضي الشهر ويهل هلال الشهر الجديد ولا يرد البحر يعطن ويبل (شنانه) في مائه، ولكنه رغم خموله وكسله حينما تمر الفتيات أمامه فإنه يراهن كالصقر ويمشي أمامهن مشية الغرور والفخر (القدلة)، ويختمها بوصف هذا الشاب بالخيبة والمذلة ..
ولداً ما سَفَر لمن شهيرُو يهلّ
ما وَرَدَ البَحَر .. عطَّن شنانُو يَبلّ
وكت الشوف .. يشوف متل الصقير يقدل
وا خيبةً علي ولداً يعيش بالذل
وللدوبيت في السودان حظ وافر من القصائد الغزلية الرائعة، وأشهرها تلك القصائد التي كتبها العاشق المتيم قيس البُطانة (المحلق الحمراني) في ابنة عمه وزوجته (تاجوج) الجميلة، يصف عينيها بأنها فص ألماس يزين الذهب المُجمَّر ويشبه شفتيها بالتمر وشعرها بالبستان وخصرها بالضمور وملمس جلدها بملمس القماش الكيدي المخطط، وذلك حينما أصابته اللوثة العقلية نتيجة طلاقه منها ..
فص الماز مركَّب فوق مجمَّر
فص عينيكِ يا أم خشماً متمَّر
فوق بستان .. تِحِت سالك مَضمَّر
جليدك .. طاقة الكيدي المنمَّر
ويقول أحدهم وأظنه أيضاً (ود ضحوية) مادحاً الكرم والبذل، ورغم ان ود ضحوية كان قاطع طريق إلا أن قطاع الطريق في ذلك الوقت كانوا أشبه بروبن هود (لصوصٌ نبلاء)، فهم يقطعون طريق الإبل فقط لاغير، أما النعاج والبقر فإنهم يعفّون عن نهبها، كذلك لا ينهبون أملاك النساء ولا الأطفال، يقول الشاعر أن هذه الإبل إن (حرَّن) أي كن لدى غيره فهن بُكار (والبكرة هي الناقة) ولسن صفائح زيت، أي أن ما سيبذله من تعب هو من أجل شيء له قيمة مادية ومعنوية في ذات الوقت، وإن (بردَن) أي حينما ينتهي حرّ المعركة وتصير هذه الإبل ملكه وتتحول لنقود فإنه ليس بخيلاً بها للغير ..
ان حرَّن بُكار .. ما هن صفائح زيت
وإن بردن نقود .. ماني البخيل صريت
وللأبيات بقية لا أذكرها.
نجد في شعر (الهمباته) الذي هو نوع من الدوبيت الخاص بقطاع الطريق في العهود الغابرة، جميع معاني الشعر، وأكثر ما كتبوه كان عن رحلاتهم الشاقة لنهب الإبل من بقاع السودان المختلفة، وفي ظني أن هؤلاء الهمباتة كانوا من العوامل التي ساعدت (جزئياً) في توحيد السودان بعض الشيء في زمان كان السودان فيه قارة لا وطن، وقد وحدتهم (ظروف عملهم) قبل أن تتوحد البلاد، فنجدهم إخوة تجمعهم الصداقة و(الخوة) رغم تباين مناطقهم الجغرافية، وفي ذلك يقول قائلهم ..
الخبر البيجي الصدِّيق مقفَّل جُوَّة
حالف ما بقيف دونو ان بقيت في هوَّة
عِنْ طرش الدرق ما بنسى شرط الخوَّة
كبّاس للدهم .. عند البقول : يا مروَّة
وأشعارهم للمتمعن فيها دروس في تاريخ وجغرافيا هذا الوطن، يقول شاعرهم يصف حياته بالتقلب وأنه لا يدوم على حال، فيوماً هو في منتهى السعادة، وفي اليوم الآخر يتحمل المشاق لسوق الإبل من جنرة إلى كاجة وهي مدن في غرب السودان، ثم يعود ليصف محبوبته بأنها ظبية منطقة الباجة في شمال السودان، سياحة في ربوع الوطن لا تتجاوز الثلاثة أسطر ..
يوماً في بَسِطْ .. عند المزنَّد عاجا
ويوم غربتَبِن من جنرة شايل كاجة
بيش نرضيها غير البِلّ جدية الباجة ؟
كما نجد أن للدوبيت استخداماً آخر وهو الرثاء، حيث أن للدوبيت مقدرة عجيبة على إيصال المعاني الإنسانية بسهولة، وأن يجعل المتلقي يعيش حالة الشاعر ذاته، وتحضرني قصيدة للشاعر السوداني ود البنا (الفرجوني) أطال الله عمره في رثاء صديقه المرحوم شيخ قبيلة الشكرية (حسان أبوعاقلة أبوسن)، ورغم طول القصيدة وجمالها إلا أن هذا البيت كان بليغاً جداً، حيث يتساءل الشاعر فيه عن فارس الصف وطاهر الكف (صديقه حسَّان) ما خبره الليلة، لماذا لم يلاقيه بابتسامته التي عهدها عليه، ويدعو البروق أن تبكي عليه وأن تنهمر سيلاً لأن الذي يعدل (الحال المائل) قد رقد في قبره ..
فارس الصف، وطاهر الكف، خبارو الليلة ؟
ما لاقانا بيتبسم لَزومَ الشيلة
أبكَنْ يالبروق .. كُبَّنْ دموعكن سيلة
رقَدَ البِسند الهاكعة وبعدل الميلة
ومن أجمل المرثيات أيضاً ما قاله الشاعر الراحل صلاح أحمد إبراهيم يرثي صديقه الشفيع أحمد الشيخ بعد إعدامه من قبل النظام المايوي عقب الانقلاب العسكري الذي مُني بالفشل وراح ضحيته الشفيع ورفاقه في الحزب الشيوعي، حيث وصفه بجبل الذهب واضع الساس الذي لم يهتز ولم يتزحزح حين التف حبل المشنقة ودُرِعَ حول عنقه ..
فارس الساحة جيَّاب الحقوق للناس
سنَّاد الضعيف وكت الضيف ينداس
يا جبل الدهب .. إنتَ الوضعتَ الساس
وما اتزحزحتا يوم درعوا الحبل في الراس
وللجبل مكانة مميزة في الوجدان السوداني، فالشخص القوي والثابت الذي لا يهتز يوصف بأنه جبل، وقد انعكس هذا الوصف على كثير من قصائد المدح في الدارجية السودانية عموماً والدوبيت خصوصاً، وقد وصف الزبير ود رحمة بذات الوصف (جبل الدهب)، ولا يعني هذا بأي حال أن هناك انتهاكاً أدبياً لحقوق قائلة الأبيات التالية (بت مسيمس)، التي سبقت صلاحاً بأزمان طويلة، حيث تضمن صيرورة الإبداع بقاء النسل الإبداعي حياً على مر العصور، تقول الحكَّامة بت مسيمس واصفةً الزبير باشا ود رحمة بعدما نفاه الانجليز إلى جبل طارق ..
في السودان قبيل .. ما بشبهوك بالناس
يا جبل الدهب ... الصافي ماكَ نحاس
بارود انتصارك .. في غمرة الكبَّاس
خليت المجوس ألين من القرطاس
وفي ذات السياق، وصف الفرسان الذين لا تهزهم الخطوب بالجبال، ذلك الوصف البديع والمدح الذي أسبغه أحد شعراء الشكرية (ود حَسوب) حينما سأله أحدهم عن أبو علي (وهو جدٌ بعيدٌ لحسان الذي رثاه الفرجوني أعلاه) فقال له رأيته تواً (هسع شُفتو) على ظهر حصانه (يتلتت) وبقع الدم على لحيته، ووصفه بأنه جبل الموسم الذي تقصده القبائل ولولاه لما كان النصر حليفهم على أعدائهم ..
هسع شفتو .. فوق ظهر الحصان بتلتت
ولصفي الدم .. علي دقنو المليحة اتشتت
جبل الموسم الفوقو القبايل ختت
أكان ما حضر .. قوم ناس خميس ما انسكت
هذه الروعة والوصف البليغ؛ لم يطلب أحدٌ من الشاعر أن يمدح أبو علي، كل ما طلب منه أن يجيب بالنفي أو الإيجاب على سؤال جوابه كلمه : نعم رأيته ولا لم أره، ولكنها الشاعرية المتدفقة التي تبحث عن مسارب للنفاذ إلى الوجود. وبين ود حَسوب والفرجوني مسافات زمنية ليست بالقليلة، ولكنهم اجمعوا على فروسية أبو علي، فنجد الفرجوني بعد مئات السنين يمدح أبو علي، الممدوح قبله، ويصفه بمن صد الهمج، وذلك في نفس مرثيته التي اقتبسنا منها ما سبق، يقول وهو يرثي حسَّان ..
يبكنك سيوف أجدادك القُطّاع
ويبكيك أب علي الصدَّا الهمج ما طاع
جِنسك مُو مُلَملَم .. بُرقة مُو لُطَّاع
نور في نور كواكبك .. كُلهن سطَّاع
وللنساء باعٌ طويل في شعر الرثاء وأغلبه لأبناء وآباء وأزواج ماتوا أو قتلوا في ساحات الشرف؛ قالت بنونة، ترثي أخاها الذي أصابه الجدري فأقعده عن القتال وأماته ميتةً لا تليق بالأبطال، لا أتمنى لك الميتة التي يذر فيها الرماد عليك (فميت الجدري لا يغسل ولكنه يذرى بالرماد عن بعدٍ خوف العدوى) أريدك يوم لقاء العدو أن يكون دمك وشاحاً تتوشحه، وأن يكون الموتى تحت يديك مسلوبين خاضعين لك وغبار المعركة (العجاج) يكتح وجوههم، ثم تأتي لذكرى سيفه فتحن إلى سيف أخيها الذي كان يجز به الرقاب ..
ما دايرا لك المِيتة أم رماداً شحّ
دايراك يوم لُقاء .. بدميك تتوشّح
الميت مسولب .. والعجاج يَكتحّ
أحيَّا علي .. سيفو البسوّي التحّ
ثم تواصل وصفها له في قصيدة طويلة غاية في الروعة، يغنيها الفنان الكبير عبد الكريم الكابلي بصوته العذبِ المنساب الذي لا يشيخ يصاحبه لحنٌ عدنيّ جميل، في شريطٍ ضمَّ باقةً من زهور الأغنيات هذه أحداها.
والدوبيت يستخدم أحياناً لوصف رحلة ما أو منطقة من المناطق أو ظاهرة طبيعية، ومن أكثر الشعراء الذين وصفوا الطبيعة في شعرهم شاعر البُطانة الشهير (الحاردلو)، وهو من الشعراء الذين وصفوا فأجادوا الوصف، والكلام عن الحاردلو ذو شجون ولا ينتهي أبداً، ولكن نكتفي بهذه الصورة التي نقلها لنا عن رحلة عودته من أحدى مناطق السودان إلى أهله في منطقة البُطانة، حيث يقول أن هناك خبراً أكيداً وصله وهو أن البُطانة قد رشها مطر الخريف، وأن السحاب ينزف فوقها حتى مطلع الفجر لا يتوقف، وأن حشرة (أم صريصر) قد هاجت فُحولها استعداداً لموسم التكاثر وبدأت في غنائها الشبيه بالنواح، ويصف ناقته (بت ام سايق) بأنها أسرعت حين أحست بهذا الفرح الجميل في أرض البُطانة، فلم تتناول عشاءها إلا بالقرب من فريقهم في البُطانة ..
الخبر الأكيد .. قالوا البُطانة اترشَّت
ساريةً تبقبق للصباح ما انفشَّت
هاج فحل أم صريصر والمنايح بشَّت
وبت أم سايق علي طرف الفريق اتعشت
والدوبيت لا يقتصر على أبناء البادية، فهذه بنونة سليلة الملوك، ولا تنتمي للبادية بأي صورة من الصور، وإن كانت قبيلة الجعليين التي تنتمي إليها بنونة تراوح بين البداوة والحضارة وذلك لموقعها الجغرافي ما بين بادية البُطانة بمراعيها الخصبة النادرة في الجنوب، وبين حوض النيل العظيم في الشمال، الذي تقطن أغلب القبيلة على ضفتيه. ولكن الدوبيت في السودان لا يرتبط مطلقاً ببادية أو بحاضرة، بل هو فن نابع من القلوب. وللشايقية في أقصى شمال السودان حيث تنعدم المراعي تماماً وتختفي معها حياة البداوة، إلا في أضيق الحدود، ولا تشابه بحال من الأحوال حياة الرعي والبداوة المؤسسة في سهل البُطانة ومراعي الغرب الرحيبة، ورغم ذلك كان للدوبيت نصيب، وإن كان قليلاً، منه ما غنته مهيرة بنت عبود لفرسان الشايقية تستحثهم على النهوض ومقاومة الأتراك قبل غزوهم لديار الشايقية، ورغم ان القافية في أبيات مهيرة غير موحدة، إلا أن ما قالته هو دوبيت بشكلٍ أو بآخر ..
غنيت بالعديلة .. لي عيال شايق
البَرَشو الضعيفة ويلحقوا الضايق
الليلة استعدوا .. وركبوا خيل الكرّ
وقدامهم عقيدهم بالأغر دفَّر
جنياتنا الأسود .. الليلة تتنتر
ويالباشا الغشيم .. قول لي جدادك : كرّ
ولم أكن أريد الاستشهاد ببيت شعر للرائع حميّد لأنه ليس ملكاً للشايقية وحدهم، ولكن بيت شعره التالي يُرغمُ المستشهدَ على الإتيان به، يصف حميّد أصحاب المظاهر الكاذبة الفارغين المفرغين، الذين يتباهون بحديثهم المنمق وملابسهم الجميلة، في حين أن رؤوسهم خاوية، فقال ووصف فأجاد الوصف، وبهذا الوصف البليغ أختتم ويكون الحديث قد انتهى ..
الناس في العروض .. لا تقيسها بي تبيانا
لا يغرك لباسهم والعروض عريانة
ديل حراس رِزِق .. مِتلَ التكنِّي أمانة
زي إبل الرحيل .. شايلة السُقى وعطشانة