الديمقراطية السودانية والعنف بعد حميدتي والإنقاذيين
د. عبد الوهاب الأفندي
25 April, 2023
25 April, 2023
لم تكن ظاهرة مليشيا "قوات الدعم السريع" وقائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي) فردية، بل هي ظاهرة ذات أبعاد مجتمعية وسياسية معقّدة، أوجَدها وفرعنها تآمر المتآمرين، وتواطؤ الانتهازيين، وحسابات المتلاعبين وتغافل الغافلين وغفلتهم. وقد كتبت على هذه الصفحات أكثر من مرّة أتحسّر، بسبب تلك الصورة الذي وقف فيها رئيس الوزراء السابق، عبدالله حمدوك، وعدد من وزرائه و"خبرائه" كالتلاميذ المتأدّبين، خلف "النائب" حميدتي "رئيس اللجنة الاقتصادية"، يستمعون في خشوعٍ لدرر حكم زعيم الجنجويد، وهو يقدّم الفتوى والنصائح عن السياسات الاقتصادية لمن يزعمون أنهم خبراء اقتصاد دوليون، يحمل كثيرون منهم شهادات دكتوراه، وقد عيّنوا أصلاً في مواقعهم باعتبارهم "تكنوقراط".
ولا جدال في أن إنشاء مليشيات الجنجويد ودعمها كان أحد أكبر جرائم نظام الإنقاذ ورئيسه المخلوع عمر البشير، كما نوهنا في حينه وكرّرنا مراراً بعد ذلك، حين نصحنا من تولّوا كبر هذه الكبائر أن يقضوا بقية أعمارهم في التوبة والتكفير عنها، بدلاً من مراكمة كبائر جديدة. كان أول الإثم تخلّي الدولة عن دورها في حماية مواطنيها المدنيين ومؤسّسات الدولة ضد من حمل السلاح متمرّداً، ثم الإثم الأكبر في تسليط بعض المواطنين على بعضهم، وإسناد مهمّة التصدّي للتمرّد لجهاتٍ خارج الدولة مقابل أجر، علماً أن دوافعها تصفية حسابات، ومن دون إلزامها بأخلاقيات الحرب وقواعدها وبسلطة القانون. وثالث الكبائر التغاضي عن الجرائم الكبرى التي ارتكبتها هذه الفئات، والتستّر عليها، وزيادة الدعم لها حتى بعد أن ظهرت هذه الجرائم للعالمين، فقد سجّلت أول جرائم المليشيات التي كان يقودها حميدتي في تقارير الأمم المتحدة في ديسمبر/ كانون الأول 2004، حين وردت تقارير عن هجومها على قرية عدوة في جنوب دارفور، وإحراق كل بيوتها وقتل 126 من الرجال والأطفال، واغتصاب نساء عديدات.
تواترت الأنباء بعد ذلك عن فظائع متتالية، حتى بلغ عدد القتلى عشرات الآلاف، والمهجّرين مئات الآلاف. وأذكر أنني سألتُ أحد المسؤولين وقتها، صادفته في لقاء اجتماعي، أن يوضح لي ما يحدُث في دارفور، متوقعاً بالطبع بعضاً من التبرير أو التخفيف من أمر ما يحدُث. إلا أنه فاجأني بإجابةٍ كانت صادمة حتى من أمثاله، حين جزم بصورة قاطعة بعدم وجود أي أزمة مشكلة في دارفور، وأن ما يروج عنها ما هو إلا أكاذيب من الإعلام العالمي. عندها قلت له: هل تعني أن عشرات الآلاف من النازحين الذين تركوا قراهم ولجأوا إلى المعسكرات فعلوا ذلك لأنهم شاهدوا قناة سي أن أن؟
صدر في 2017 قانون جديد يغيّر تبعية قوات الدعم السريع من المخابرات إلى القوات المسلّحة، على أن تكون تابعة مباشرة للقائد العام
لم تكن هذه هي نهاية الجرائم، فبعد أن أثخنت المليشيات في الأرض، أعاد الرئيس السابق البشير تسمية بعضها "قوة حرس الحدود"، وعيّن حميدتي قائداً لها برتبة عميد. وفي وقت لاحق، بعد خلاف النظام مع راعي حميدتي، الزعيم القبلي موسى هلال، أعيدت تسمية وحدته "قوات الدعم السريع"، وعيّن حميدتي قائداً لها في 2013، العام الذي شهد انتفاضة جماهيرية ضد النظام، قتل فيها حوالي مائتي مدني. ويحكي أحد كبار المسؤولين السابقين في النظام الذي أصبح معارضاً وقتها إن قائد مليشيا (لم يسمه) زاره مستغرباً، بعد أن احتج على القمع وقال له: إننا نقتل مثل هذا العدد في دارفور في ساعات. فلماذا كل هذه الضجّة؟
صدر في عام 2017 قانون جديد يغيّر تبعية قوات الدعم السريع من المخابرات إلى القوات المسلّحة، على أن تكون تابعة مباشرة للقائد العام، خارج التراتبية التقليدية للجيش. بمعنى آخر، أنها أصبحت مليشيا حماية تابعة للرئيس شخصياً. وقد جاء هذا بعد زيادة التذمّر في الجيش من سياسات الرئيس والفساد المستشري، واحتجاج بعض كبار الضباط علناً أمام الرئيس، ما أدّى إلى اتهام بعضهم بتدبير انقلاب. وكانت هذه بداية وضع هذه القوات جهة مستقلة عن الجيش ومناوئة له. (يحتجّ بعضهم بأن صدور ذلك القانون يقنّن وضع المليشيا وكونها جزءاً من القوات المسلحة، مع رفضهم كل قوانين البشير الأخرى!). وهذا كله مع معرفة تاريخ هذه القوات وجرائمها، وهي جرائم استمرّت وتواترت في العاصمة، متمثلة في التعرّض العشوائي للمدنيين، وحتى الدبلوماسيين. وقد أغدقت عليها الأموال، خصوصا بعد مشاركة مجموعة منها في حرب اليمن بدءاً من عام 2015.
لم يتغيّر الوضع بعد سقوط البشير، بل تفاقم، فقد سادت العقلية الانتهازية نفسها لدى الأوساط السياسية والمدنية في الفترة الانتقالية، ونُصّب حميدتي نائباً لرئيس مجلس السيادة، ورقّي إلى رتبة فريق أول، وأُعطي أخوه رتبةً مقاربة. وبذلت له أموال الدولة بلا حساب، ليزيد عدد منتسبيه من 40 ألفاً عام 2019 إلى أكثر من مائة ألف حالياً، وسُمح له بالانتشار في كل ولايات السودان، وأعطي عشرات المقرّات والمعسكرات في العاصمة. وهذا كله بدلاً من أن يقدّم الدعم للجيش والشرطة والقوى الأمنية لتقوم بواجبها المنوط بها في حماية المواطنين في دولة القانون. كما زوّدت هذه القوات بأسلحة حديثة ومتطوّرة. واكتسبت عليه دوراً أشبه بمجموعة فاغنر الروسية، أو شركة بلاك ووتر الأميركية للمرتزقة، سوى أن تلك المنظمّات لم تكن تجرؤ على منافسة الشرطة في تلك البلدان، ناهيك عن منافسة الجيش، وتوجيه الأوامر للوزراء، وحتى الرؤساء.
من ينحطّ إلى درجة الاستعانة بعصابة إجرامية لتحقيق مآربه السياسية لا يصلُح لأي وظيفة عامة، ناهيك عن أن يصلح لحكم البلاد
وإذا كان هناك حديث عن فساد وسوء استخدام للأموال، فإنه لا يمكن مقارنة أي فسادٍ ببذل أموال الشعب لعصابةٍ مارقة، حتى تقوم بأدوارٍ لا حاجة للبلاد بها، في وقتٍ تعاني فيه المؤسّسات الرسمية التي تخدم الشعب من شرطة ونظام صحي وتعليم من شحّ الموارد. وهو فسادٌ مركّب، لأنه كان يعين هذه المليشيا على ارتكاب جرائم، تمثلت في نهب الأراضي ومناجم الذهب وإجلاء السكان منها في دارفور وغيرها، وتعزّز تواطؤ الدولة وسلطتها "الديمقراطية" في هذا الإجرام.
هذه الديناميات التي أدّت إلى تبنّي هذه المليشيا هي، في نهاية الأمر، ديناميات سياسية، تمثلت في خيارات اللاعبين السياسيين ومخاوفهم ومطامحهم. يحتمل البشير الإثم الأكبر بصنع هذه القوات ودعمها ثم إحضارها إلى الخرطوم رديفاً للجيش. وكذلك الحكومة الانتقالية ومساندوها يتحمّلون وزر زيادة الدعم لها، والتواطؤ في آثامها الكبرى، وفي مقدمة هذه الآثام فض الاعتصام أمام القيادة العامة للقوات المسلحة في يونيو/ حزيران 2019، وما رافقه من جرائم، وكذلك التقاعس عن إكمال التحقيق في تلك الجريمة ومواجهة تبعاتها. وقد كان الدافع لهذا كله التوجّس من الجيش، والأمل في أن تساعد المليشيا في دعم قوى سياسية بعينها. ولا شك في أن من أن ينحطّ إلى درجة الاستعانة بعصابة إجرامية لتحقيق مآربه السياسية لا يصلُح لأي وظيفة عامة، ناهيك عن أن يصلح لحكم البلاد.
ولا تقف إشكالية مثل هذا الموقف على القبول بإجرام المليشيا، بل على التعايش مع تركيبتها، وكونها مؤسّسة خاصة، يهيمن عليها رجل واحد، ويتحكّم فيها كإقطاعية خاصة، ويستخدمها في أعمال إجرامية كثيرة من التعدين غير الشرعي والنهب والإثراء المحرّم إلى القتل والابتزاز. وقد صرّح قائد هذه المليشيا أكثر من مرة إنه عازم على تسوية كل العاصمة بالأرض إذا اعترض إرادَتَه معترض. فهل ثار الشعب ضد دكتاتورية نظامية، حتى يسلّم الدولة إلى عصابة ابتزاز لا هدف لها سوى السلطة والإثراء؟ عن أي ديمقراطيةٍ يتحدّث من يضعون مقدّرات البلاد في يد عصابة إجرامية؟
لا يجب أن يعني إنهاء وجود المليشيا وإخراجها من الساحة العودة إلى أيٍّ من صور النظام القديم، الذي كان مسؤولاً عن وجودها
لحسن الحظ، ارتكبت المليشيا خطأ الانتقال من الابتزاز إلى الفعل. ومشكلة من يمارس الابتزاز أنه يظل قوياً ما دام الناس يخضعون لابتزازه. ولكنه ما أن ينتقل من التهديد إلى التنفيذ لا يترك خياراً لضحاياه سوى التصدّي له. والآن، وقد رأى الشعب السوداني ما يمكن أن تلجأ له هذه المليشيا الإجرامية، لا يجب أن يكون هناك تراجع قيد أنملة عن التصدّي لها، مهما كلف الأمر. لأنه لم يعد ممكناً السماح لها بفرصة أخرى بعد ما بدر منها، شاملاً النهب والترويع والتعدّي على الأبرياء في بيوتهم، وإخراجهم منها لاستخدامها قواعد ومرتكزات (وقتل كثيرين منهم، أعرف بعضهم) وممارسة الخطف والقتل، بل والاغتصاب أيضا، كما أوردت تقارير منظّمات دولية، فلم يعد هناك مجال للتعايش معها. ذلك أنها ستتعلّم الدرس وتحضّر نفسها بصورة أكثر إحكاماً لأي مواجهة مقبلة. ولعله من حسن الحظ أنها اختارت المواجهة في هذه المرحلة، وكشفت عن وجهها قبل أن تصبح غير قابلةٍ للردع.
ولكن، لا يجب أن يعني، في أي حال، إنهاء وجود هذه المليشيا وإخراجها من الساحة السياسية العسكرية العودة إلى أيٍّ من صور النظام القديم، الذي كان مسؤولاً عن وجودها في الأساس. لقد علت أصواتٌ انتهازيةٌ من أنصار للنظام السابق، ممن رأوا في هذه الأزمة مدخلاً للعودة من الباب الخلفي. ولا مانع، بالطبع، من أن يكفّر بعضٌ عن آثامه بالمشاركة في هزيمة المليشيا التي صنعوها ويتحمّلون معها وزر آثامها الكثيرة، وما جلبوه من بلاء على البلاد والعباد. ولكن أي وهم بأن هذا سيجعل من الشعب يقبل مشاركةً نشطةً لمن يتحمّلون أوزار المرحلة السابقة، ولم يعلنوا عن أي توبة عما تسبّبوا فيه من خراب، أو يراجعوا أنفسهم فيما كسبت أيديهم، دليلٌ آخر على أنهم لا يصلحون لدور. كذلك فإن العقلية التي سادت الفترة الانتقالية من التواطؤ مع المليشيا ومع دول استبدادية أجنبية لا تؤهل من أظهروها لأي دور.
لسنا من أنصار الإقصاء، ويحقّ لهؤلاء وغيرهم أن يتقدّموا للانتخابات إذا كان الشعب أو قطاعات منه ترى أنهم يمثلونها. ولكن هذه مرحلة يجب أن تكون لأهل التجرّد من أنصار الديمقراطية الحقيقيين، وأهل الكفاءة الحقيقية، وليس المزعومة، وأهل الاستقامة والنزاهة. والاقتراح العملي تعيين حكومة مدنية غير حزبية، ولا أقول "حكومة تكنوقراط"، لأن الحُكم في جوهره مهمة سياسية، تتطلب اتخاذ قراراتٍ حاسمة تمسّ حياة قطاعات واسعة من الشعب، ولهذا لا يصلح لها من خبرته "فنية" فقط. فيتم اختيار الحكومة من سياسيين ورجال دولة خبراء عُرفوا بالاستقامة والتجرّد، ولا تكون لهم أي ارتباطات حزبية (أو يتخلوا عنها علناً)، ولا يسمح لهم بأي عملٍ سياسيٍّ في العقد المقبل. تتولى هذه الحكومة المدنية السلطة ثلاث سنوات بصلاحيات واسعة، تعمل خلالها على بناء ما هدمته الحرب، وإصلاح الاقتصاد، وإعادة بناء مؤسّسات الدولة من قضاء وخدمة ومدنية، وإتاحة الحريات الكاملة لكل القوى السياسية والمهنية والمدنية، وللإعلام والجامعات. مع قوانين صارمة تمنع الإضراب وعرقلة الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها بأي ذريعة في الفترة المعنية، ومنع إغلاق الطرقات وعرقلة الحركة تحت طائلة القانون. وتستعين هذه الحكومة بلجانٍ من الخبراء من مختلف المشارب لدعم جهودها، خصوصا في سنّ قوانين الانتخابات وتعيين مفوضية انتخابات، وتنظيم العمل النقابي والإعلامي، وضمان الحريات السياسية. تستعين الحكومة كذلك بالدعم الدولي لحل مشكلات النازحين واللاجئين، وإعادة المهجّرين إلى ديارهم، وبناء ما دمّرته الحرب، وتطبيق العدالة للضحايا. وتُتاح الفرصة كذلك لكل القوى السياسية التي تحترم القانون لتنظيم نفسها والتحضير للانتخابات، وتحصل على الدعم اللازم من الدولة في مجال التدريب المدني والقانوني. وتنتهي مهمّة هذه الحكومة بتهيئة البلاد لانتخابات حرّة ونزيهة، على أساس دستور توافقي تعدّه لجنة خبراء، ويستوحي مبادئ دستور 2005 التي توافق عليها كل السودانيين، على أن يُعرض بعد الانتخابات على البرلمان المنتخب لإجازته نهائياً أو تعديله.
هذا ما يستحقّه السودانيون بعد كل هذه التضحيات، وبعد كل تجارب الفشل والانحراف التي عاشتها بلادهم خلال الفترة الماضية.
نقلا عن العربي الجديد
////////////////////////
ولا جدال في أن إنشاء مليشيات الجنجويد ودعمها كان أحد أكبر جرائم نظام الإنقاذ ورئيسه المخلوع عمر البشير، كما نوهنا في حينه وكرّرنا مراراً بعد ذلك، حين نصحنا من تولّوا كبر هذه الكبائر أن يقضوا بقية أعمارهم في التوبة والتكفير عنها، بدلاً من مراكمة كبائر جديدة. كان أول الإثم تخلّي الدولة عن دورها في حماية مواطنيها المدنيين ومؤسّسات الدولة ضد من حمل السلاح متمرّداً، ثم الإثم الأكبر في تسليط بعض المواطنين على بعضهم، وإسناد مهمّة التصدّي للتمرّد لجهاتٍ خارج الدولة مقابل أجر، علماً أن دوافعها تصفية حسابات، ومن دون إلزامها بأخلاقيات الحرب وقواعدها وبسلطة القانون. وثالث الكبائر التغاضي عن الجرائم الكبرى التي ارتكبتها هذه الفئات، والتستّر عليها، وزيادة الدعم لها حتى بعد أن ظهرت هذه الجرائم للعالمين، فقد سجّلت أول جرائم المليشيات التي كان يقودها حميدتي في تقارير الأمم المتحدة في ديسمبر/ كانون الأول 2004، حين وردت تقارير عن هجومها على قرية عدوة في جنوب دارفور، وإحراق كل بيوتها وقتل 126 من الرجال والأطفال، واغتصاب نساء عديدات.
تواترت الأنباء بعد ذلك عن فظائع متتالية، حتى بلغ عدد القتلى عشرات الآلاف، والمهجّرين مئات الآلاف. وأذكر أنني سألتُ أحد المسؤولين وقتها، صادفته في لقاء اجتماعي، أن يوضح لي ما يحدُث في دارفور، متوقعاً بالطبع بعضاً من التبرير أو التخفيف من أمر ما يحدُث. إلا أنه فاجأني بإجابةٍ كانت صادمة حتى من أمثاله، حين جزم بصورة قاطعة بعدم وجود أي أزمة مشكلة في دارفور، وأن ما يروج عنها ما هو إلا أكاذيب من الإعلام العالمي. عندها قلت له: هل تعني أن عشرات الآلاف من النازحين الذين تركوا قراهم ولجأوا إلى المعسكرات فعلوا ذلك لأنهم شاهدوا قناة سي أن أن؟
صدر في 2017 قانون جديد يغيّر تبعية قوات الدعم السريع من المخابرات إلى القوات المسلّحة، على أن تكون تابعة مباشرة للقائد العام
لم تكن هذه هي نهاية الجرائم، فبعد أن أثخنت المليشيات في الأرض، أعاد الرئيس السابق البشير تسمية بعضها "قوة حرس الحدود"، وعيّن حميدتي قائداً لها برتبة عميد. وفي وقت لاحق، بعد خلاف النظام مع راعي حميدتي، الزعيم القبلي موسى هلال، أعيدت تسمية وحدته "قوات الدعم السريع"، وعيّن حميدتي قائداً لها في 2013، العام الذي شهد انتفاضة جماهيرية ضد النظام، قتل فيها حوالي مائتي مدني. ويحكي أحد كبار المسؤولين السابقين في النظام الذي أصبح معارضاً وقتها إن قائد مليشيا (لم يسمه) زاره مستغرباً، بعد أن احتج على القمع وقال له: إننا نقتل مثل هذا العدد في دارفور في ساعات. فلماذا كل هذه الضجّة؟
صدر في عام 2017 قانون جديد يغيّر تبعية قوات الدعم السريع من المخابرات إلى القوات المسلّحة، على أن تكون تابعة مباشرة للقائد العام، خارج التراتبية التقليدية للجيش. بمعنى آخر، أنها أصبحت مليشيا حماية تابعة للرئيس شخصياً. وقد جاء هذا بعد زيادة التذمّر في الجيش من سياسات الرئيس والفساد المستشري، واحتجاج بعض كبار الضباط علناً أمام الرئيس، ما أدّى إلى اتهام بعضهم بتدبير انقلاب. وكانت هذه بداية وضع هذه القوات جهة مستقلة عن الجيش ومناوئة له. (يحتجّ بعضهم بأن صدور ذلك القانون يقنّن وضع المليشيا وكونها جزءاً من القوات المسلحة، مع رفضهم كل قوانين البشير الأخرى!). وهذا كله مع معرفة تاريخ هذه القوات وجرائمها، وهي جرائم استمرّت وتواترت في العاصمة، متمثلة في التعرّض العشوائي للمدنيين، وحتى الدبلوماسيين. وقد أغدقت عليها الأموال، خصوصا بعد مشاركة مجموعة منها في حرب اليمن بدءاً من عام 2015.
لم يتغيّر الوضع بعد سقوط البشير، بل تفاقم، فقد سادت العقلية الانتهازية نفسها لدى الأوساط السياسية والمدنية في الفترة الانتقالية، ونُصّب حميدتي نائباً لرئيس مجلس السيادة، ورقّي إلى رتبة فريق أول، وأُعطي أخوه رتبةً مقاربة. وبذلت له أموال الدولة بلا حساب، ليزيد عدد منتسبيه من 40 ألفاً عام 2019 إلى أكثر من مائة ألف حالياً، وسُمح له بالانتشار في كل ولايات السودان، وأعطي عشرات المقرّات والمعسكرات في العاصمة. وهذا كله بدلاً من أن يقدّم الدعم للجيش والشرطة والقوى الأمنية لتقوم بواجبها المنوط بها في حماية المواطنين في دولة القانون. كما زوّدت هذه القوات بأسلحة حديثة ومتطوّرة. واكتسبت عليه دوراً أشبه بمجموعة فاغنر الروسية، أو شركة بلاك ووتر الأميركية للمرتزقة، سوى أن تلك المنظمّات لم تكن تجرؤ على منافسة الشرطة في تلك البلدان، ناهيك عن منافسة الجيش، وتوجيه الأوامر للوزراء، وحتى الرؤساء.
من ينحطّ إلى درجة الاستعانة بعصابة إجرامية لتحقيق مآربه السياسية لا يصلُح لأي وظيفة عامة، ناهيك عن أن يصلح لحكم البلاد
وإذا كان هناك حديث عن فساد وسوء استخدام للأموال، فإنه لا يمكن مقارنة أي فسادٍ ببذل أموال الشعب لعصابةٍ مارقة، حتى تقوم بأدوارٍ لا حاجة للبلاد بها، في وقتٍ تعاني فيه المؤسّسات الرسمية التي تخدم الشعب من شرطة ونظام صحي وتعليم من شحّ الموارد. وهو فسادٌ مركّب، لأنه كان يعين هذه المليشيا على ارتكاب جرائم، تمثلت في نهب الأراضي ومناجم الذهب وإجلاء السكان منها في دارفور وغيرها، وتعزّز تواطؤ الدولة وسلطتها "الديمقراطية" في هذا الإجرام.
هذه الديناميات التي أدّت إلى تبنّي هذه المليشيا هي، في نهاية الأمر، ديناميات سياسية، تمثلت في خيارات اللاعبين السياسيين ومخاوفهم ومطامحهم. يحتمل البشير الإثم الأكبر بصنع هذه القوات ودعمها ثم إحضارها إلى الخرطوم رديفاً للجيش. وكذلك الحكومة الانتقالية ومساندوها يتحمّلون وزر زيادة الدعم لها، والتواطؤ في آثامها الكبرى، وفي مقدمة هذه الآثام فض الاعتصام أمام القيادة العامة للقوات المسلحة في يونيو/ حزيران 2019، وما رافقه من جرائم، وكذلك التقاعس عن إكمال التحقيق في تلك الجريمة ومواجهة تبعاتها. وقد كان الدافع لهذا كله التوجّس من الجيش، والأمل في أن تساعد المليشيا في دعم قوى سياسية بعينها. ولا شك في أن من أن ينحطّ إلى درجة الاستعانة بعصابة إجرامية لتحقيق مآربه السياسية لا يصلُح لأي وظيفة عامة، ناهيك عن أن يصلح لحكم البلاد.
ولا تقف إشكالية مثل هذا الموقف على القبول بإجرام المليشيا، بل على التعايش مع تركيبتها، وكونها مؤسّسة خاصة، يهيمن عليها رجل واحد، ويتحكّم فيها كإقطاعية خاصة، ويستخدمها في أعمال إجرامية كثيرة من التعدين غير الشرعي والنهب والإثراء المحرّم إلى القتل والابتزاز. وقد صرّح قائد هذه المليشيا أكثر من مرة إنه عازم على تسوية كل العاصمة بالأرض إذا اعترض إرادَتَه معترض. فهل ثار الشعب ضد دكتاتورية نظامية، حتى يسلّم الدولة إلى عصابة ابتزاز لا هدف لها سوى السلطة والإثراء؟ عن أي ديمقراطيةٍ يتحدّث من يضعون مقدّرات البلاد في يد عصابة إجرامية؟
لا يجب أن يعني إنهاء وجود المليشيا وإخراجها من الساحة العودة إلى أيٍّ من صور النظام القديم، الذي كان مسؤولاً عن وجودها
لحسن الحظ، ارتكبت المليشيا خطأ الانتقال من الابتزاز إلى الفعل. ومشكلة من يمارس الابتزاز أنه يظل قوياً ما دام الناس يخضعون لابتزازه. ولكنه ما أن ينتقل من التهديد إلى التنفيذ لا يترك خياراً لضحاياه سوى التصدّي له. والآن، وقد رأى الشعب السوداني ما يمكن أن تلجأ له هذه المليشيا الإجرامية، لا يجب أن يكون هناك تراجع قيد أنملة عن التصدّي لها، مهما كلف الأمر. لأنه لم يعد ممكناً السماح لها بفرصة أخرى بعد ما بدر منها، شاملاً النهب والترويع والتعدّي على الأبرياء في بيوتهم، وإخراجهم منها لاستخدامها قواعد ومرتكزات (وقتل كثيرين منهم، أعرف بعضهم) وممارسة الخطف والقتل، بل والاغتصاب أيضا، كما أوردت تقارير منظّمات دولية، فلم يعد هناك مجال للتعايش معها. ذلك أنها ستتعلّم الدرس وتحضّر نفسها بصورة أكثر إحكاماً لأي مواجهة مقبلة. ولعله من حسن الحظ أنها اختارت المواجهة في هذه المرحلة، وكشفت عن وجهها قبل أن تصبح غير قابلةٍ للردع.
ولكن، لا يجب أن يعني، في أي حال، إنهاء وجود هذه المليشيا وإخراجها من الساحة السياسية العسكرية العودة إلى أيٍّ من صور النظام القديم، الذي كان مسؤولاً عن وجودها في الأساس. لقد علت أصواتٌ انتهازيةٌ من أنصار للنظام السابق، ممن رأوا في هذه الأزمة مدخلاً للعودة من الباب الخلفي. ولا مانع، بالطبع، من أن يكفّر بعضٌ عن آثامه بالمشاركة في هزيمة المليشيا التي صنعوها ويتحمّلون معها وزر آثامها الكثيرة، وما جلبوه من بلاء على البلاد والعباد. ولكن أي وهم بأن هذا سيجعل من الشعب يقبل مشاركةً نشطةً لمن يتحمّلون أوزار المرحلة السابقة، ولم يعلنوا عن أي توبة عما تسبّبوا فيه من خراب، أو يراجعوا أنفسهم فيما كسبت أيديهم، دليلٌ آخر على أنهم لا يصلحون لدور. كذلك فإن العقلية التي سادت الفترة الانتقالية من التواطؤ مع المليشيا ومع دول استبدادية أجنبية لا تؤهل من أظهروها لأي دور.
لسنا من أنصار الإقصاء، ويحقّ لهؤلاء وغيرهم أن يتقدّموا للانتخابات إذا كان الشعب أو قطاعات منه ترى أنهم يمثلونها. ولكن هذه مرحلة يجب أن تكون لأهل التجرّد من أنصار الديمقراطية الحقيقيين، وأهل الكفاءة الحقيقية، وليس المزعومة، وأهل الاستقامة والنزاهة. والاقتراح العملي تعيين حكومة مدنية غير حزبية، ولا أقول "حكومة تكنوقراط"، لأن الحُكم في جوهره مهمة سياسية، تتطلب اتخاذ قراراتٍ حاسمة تمسّ حياة قطاعات واسعة من الشعب، ولهذا لا يصلح لها من خبرته "فنية" فقط. فيتم اختيار الحكومة من سياسيين ورجال دولة خبراء عُرفوا بالاستقامة والتجرّد، ولا تكون لهم أي ارتباطات حزبية (أو يتخلوا عنها علناً)، ولا يسمح لهم بأي عملٍ سياسيٍّ في العقد المقبل. تتولى هذه الحكومة المدنية السلطة ثلاث سنوات بصلاحيات واسعة، تعمل خلالها على بناء ما هدمته الحرب، وإصلاح الاقتصاد، وإعادة بناء مؤسّسات الدولة من قضاء وخدمة ومدنية، وإتاحة الحريات الكاملة لكل القوى السياسية والمهنية والمدنية، وللإعلام والجامعات. مع قوانين صارمة تمنع الإضراب وعرقلة الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها بأي ذريعة في الفترة المعنية، ومنع إغلاق الطرقات وعرقلة الحركة تحت طائلة القانون. وتستعين هذه الحكومة بلجانٍ من الخبراء من مختلف المشارب لدعم جهودها، خصوصا في سنّ قوانين الانتخابات وتعيين مفوضية انتخابات، وتنظيم العمل النقابي والإعلامي، وضمان الحريات السياسية. تستعين الحكومة كذلك بالدعم الدولي لحل مشكلات النازحين واللاجئين، وإعادة المهجّرين إلى ديارهم، وبناء ما دمّرته الحرب، وتطبيق العدالة للضحايا. وتُتاح الفرصة كذلك لكل القوى السياسية التي تحترم القانون لتنظيم نفسها والتحضير للانتخابات، وتحصل على الدعم اللازم من الدولة في مجال التدريب المدني والقانوني. وتنتهي مهمّة هذه الحكومة بتهيئة البلاد لانتخابات حرّة ونزيهة، على أساس دستور توافقي تعدّه لجنة خبراء، ويستوحي مبادئ دستور 2005 التي توافق عليها كل السودانيين، على أن يُعرض بعد الانتخابات على البرلمان المنتخب لإجازته نهائياً أو تعديله.
هذا ما يستحقّه السودانيون بعد كل هذه التضحيات، وبعد كل تجارب الفشل والانحراف التي عاشتها بلادهم خلال الفترة الماضية.
نقلا عن العربي الجديد
////////////////////////