الذكاء الاصطناعي بين الدين وماركس واختيارات المستهلك.. إشكالات الجسد الافتراضي

كتب الأستاذ الجامعي د.محمد عبد الحميد
wadrajab222@gmail.com

لقد أثار انتباهي التحقيق الصادم الذي نشرته مجلة The Economist الصادرة بتاريخ 27 نوفمبر 2025 حول الطفرة المتسارعة في المحتوى الجنسي المُنتَج عبر الذكاء الاصطناعي، (AI is Upending the porn industry)، حيث يبدو أن المجتمع البشري يمر بمنعطف لم يستعد له بعد من حيث البُنى الأخلاقية والدينية، ولا الفلسفات الوضعية التي صاغت مفهوم الاستغلال المادي عبر قرون. وتتركز المشكلة الأساسية في هذا الجانب أن (الجسد) قد تم نفيه وإثباته في نفس الوقت. لم يعد الإنسان المخلوق من لحم ودم موضوعاً للاستغلال الجنسي كما عرفه كارل ماركس، ولا موضوعاً للحرمة كما صاغته الأديان، لقد ظهر كيان آخر مختلف هو (الجسد الافتراضي)، الذي هو محاكاة مثالية للجسد البشري لكنه مُنتَج بالكامل عبر الكود Code، غير المولود من لحم ودم، لكنه قادر على إثارة الشهوة وتلبيتها، وإعادة تشكيل المنظومة الأخلاقية من جذورها.
ما كشفه التحقيق أن الذكاء الاصطناعي لا «يعيد إنتاج» الجسد بقدر ما «ينفيه» تماماً، ويُنتج بدلاً عنه جسداً مُصطنعاً لا تتعلق به حرمة، ولا يمتلك كرامة، ولا يخضع لعلاقات العمل أو رأس المال كما عرّفها ماركس. وهذا التحول يفتح الباب أمام أسئلةٍ أخلاقيةٍ كبرى تفرض تحديات أمام الدين وأمام الماركسيين على حد سواء، بل وكل المشتغلين بموضوعة الأخلاق. فإذا كان الدين قد صان الجسد بوصفه وعاءً للكرامة الإنسانية، وإذا كان ماركس قد دافع عنه بصفته أداة العمل التي تُنهب، فكيف نُعيد التعريف الأخلاقي في حالة لم يعد فيها الجسد موجوداً أصلاً؟
هنا تتغير فكرة النقاش من حماية «المُستغَل» إلى مساءلة «المُستهلك» واختياراته. يمكن ملاحظة أنه وعلى مدار تطور مسار الرأسمالية كان المستهلك دائماً ما يقع في خانة الضحية التي يجب حمايتها.
غير أن اختفاء الجسد البشري في صناعة ضخمة تقدر سنوياً بمليارات الدولارات هي صناعة المحتوى الإباحي وتغيير سلسلة الإنتاج، يحوّل الاستغلال من استغلال مادي إلى ما يمكن تسميته “فائض الرغبة” حيث لا يُستغل جسد العامل أو الممثل، بل تُستغل بيانات الرغبات والتوجهات النفسية لدى المشاهد (المستهلك). ليصبح الذكاء الاصطناعي قادراً على قراءة نزعات الفرد وتقديم محتوى مصمَّماً لإدمانه، فيتحول رأس المال من سلطة على الجسد إلى سلطة على العقل والوعي. وهذا يخلق شكلاً جديداً من الاغتراب: ليس فقط اغتراب العامل عن نتاج عمله، بل اغتراب المشاهد عن ذاته، عن علاقاته الواقعية، وعن جسده الحقيقي الذي يبدو أقل إغراءً من المحاكاة المثالية المصنوعة آلياً، مما قد يزرع بذور اضطرابات في الصورة الذاتية والرضا الجسدي.
هذا ما يجعل الذكاء الاصطناعي يطرح تحدياً مزدوجاً على الأخلاق الدينية والأخلاق الوضعية. فالدين الذي ركّز على حرمة الجسد يجد نفسه أمام فعلٍ لا جسد فيه أصلًا، لكنه يفسد الوعي والنية والخيال. وهو ما يستدعي تطوير ما يمكن تسميته ب «فقه المحاكاة» بحيث يوازي فقه الأفعال، حيث يُعامَل فعل النية والخيال المُستثار آلياً على أنه لا يقل تأثيراً على النفس حتى لو لم تتورط في إيذاء جسد حقيقي.
أما الأخلاق الوضعية، وخاصة عند كارل ماركس، فهي مضطرة لإعادة النظر في تعريف الاستغلال. إذ لم يعد فائض القيمة ناتجاً عن انتزاع جهدٍ بشري، بل عن انتزاع بيانات حساسة تُستخدم في بناء نماذج استهلاك تُعيد تسليع الرغبة نفسها. وهنا لا يعود المستهلك ضحية علاقات الإنتاج التقليدية، بل يصبح شريكاً في إعادة إنتاج استغلال نفسه عبر اختياراته، مما يجعل الأخلاق الماركسية تواجه فراغاً مفاهيمياً غير مسبوق.
مهما يكن من أمر، فإن هذا الواقع يفرض مستويات مختلفة من الهشاشة، والأمر لا يتعلق فقط بصناعة الجنس، وإنما بأخلاق ما بعد الذكاء الاصطناعي، حيث يستوجب ذلك استجابة على عدة مسارات محتملة أمام المؤسسات الأخلاقية والدينية والفكرية يمكن تبينها كما يلي:
المسار الأول: المحافظون
وهم من يتمسكون بالتحريم والتحذير، الذين يعتبرون أن غياب الجسد لا يلغي الإثم، وأن المشكلة في إفساد الوعي لا في طبيعة الأداة. لكنهم، في مواجهة تكنولوجيا بهذا العمق، وهذا الانتشار الكوني، يقدمون حلولاً غير كافية. ويمكن وصف رؤيتهم بأنها انعزالية وعقابية، لا تتعدى حدود (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) على مستوى الوعظ والإرشاد، وهو ما يضعف فعاليتها في معالجة معضلة المحتوى المُفرَز آلياً التي تتطلب فهماً مختلفاً للبنية الأخلاقية الجديدة.
المسار الثاني: الإصلاحيون
وهؤلاء يسعون إلى إعادة صياغة الأخلاق الرقمية، بالتركيز على “إثم النية” و”أخلاق الخيال”، وعلى حماية الوعي من التشويه. هذا التيار يحاول تطوير أدوات تربوية جديدة، لا تعاقب الفعل بل تُهذب الإدراك. غير أن تصوراتهم لم ترقَ بعد إلى بدائل عملية وواقعية قابلة للتطبيق على نطاق واسع لمواجهة تدفق المحتوى اللامحدود.
المسار الثالث: التكنولوجيون
الذين يرون أن الأخلاق يمكن هندستها عبر التنظيم القانوني والتقني، مثل خلق حواجز برمجية، وعلامات مائية إلزامية، وتشريعات تمنع التزييف العميق غير الرضائي. وهي رؤية تعيد الأخلاق إلى الدولة والقانون بدلاً من الضمير الفردي. غير أن هذا المسار يواجه تحديات جسيمة في التطبيق، تتعلق بسيادة الدول واختلاف تشريعاتها، وصعوبة المراقبة في الفضاء الافتراضي اللامحدود، والتوازن الدقيق بين الحماية وحرية الابتكار.
المسار الرابع: الأخلاق الوضعية الماركسية المطورة
وهذه بدورها تسعى إلى توسيع مفهوم الاستغلال ليشمل استغلال البيانات والرغبات، وتدافع عن سيادة الفرد على بياناته، وعن منع الشركات من تحويل انتباه الإنسان إلى سلعة. وهو اتجاه يدرك أن الاستغلال اليوم ليس جسدياً بل رمزياً ونفسياً. مع ذلك، يواجه هذا المسار تحدياً في التحرر التام من أسر التصورات الكلاسيكية لماركسية القرن التاسع عشر التي صاغت مفاهيمها الأساسية على أساس مادي بحت (الجسد والعمل).
في خلاصة الأمر، يبدو أن الذكاء الاصطناعي لم يلغِ الاستغلال، بل نقل مركز الثقل من الجسد إلى الوعي، ومن العامل إلى المستهلك نفسه (في ذات الحين الذي يحول فيه المستهلك من ضحية الي جاني). لقد ألغى الجسد ولكنه – بمفارقة عجيبة – أعاد تأكيد قيمته، فالجسد الحي يبقى الكيان الوحيد الذي لا يمكن توليده أو نسخه أو التحكم في رغباته برمجيّاً. وهو ما يجعل حماية الوعي اليوم جزءاً من حماية الجسد ذاته.
إن المستقبل لن يستقر على منعٍ أو تحذيرٍ فقط، بل على منظومة مزدوجة: تجمع بين رؤية الإصلاحيين (تحصين داخلي يبني وعياً نقديّاً يميز بين الرغبة والغواية) ورؤية التكنولوجيين والماركسية الجديدة (تحصين خارجي عبر تشريعات تجرّم التزييف العميق وتضمن سيادة الفرد على بياناته)، وتشريعات تحمي العاملين البشريين في القطاع من الإحلال المفاجئ والتام، وتضمن أن لا تتحول اختيارات المستهلك إلى قناة لاستغلال رغباته. فالذكاء الاصطناعي لم يلغِ الأخلاق، لكنه يجبر المجتمعات على إعادة بنائها من جديد على أرضية تغيّر شكلها بالكامل.
د. محمد عبد الحميد

عن محمد عبد الحميد

محمد عبد الحميد

شاهد أيضاً

ابن سلمان وإدارة المخاطر: درس مجاني للسودان في السياسة الدولية

كتب د. محمد عبد الحميد استاذ مادة الحد من مخاطر الكوارث بالجامعات السودانيةwadrajab222@gmail.comبما أن الكاتب …