الذكرى السابعة والستين لمذبحة عنبر جودة (16-23 فبراير 1956) (2)

 


 

 

الذكرى السابعة والستين لمذبحة عنبر جودة (16-23 فبراير 1956): لنضع وجهاً على المأساة: واستشهد إسماعيل عساكر، رئيس اتحاد مزارعي جودة، في العنبر غارقاً في عرقه

(نواصل هنا نشر ما كتبته نجلاء سيد أحمد الشيخ عن والدها المرحوم أبو السيد، رئيس اتحاد العمال فرع كوستي، شاهد العين الذي كان أول من دخل عنبر كوستي بالإسعاف بعد البلاغ بالمذبحة. وروايته بخلاف الشعر والاحتجاج تضع وجوهاً على جسد المأساة كما يصح في توثيق مثل تلك البشاعة عملاً بالقول الإنجليزي putting a human face on a catastrophe
فهذا أوجع. فنقرأ اليوم عن المرحوم إسماعيل عسكر، رئيس اتحاد مزارعي جودة بشبه إجماع، الذي استشهد في وحل عرقة بعنبر كوستي بعد عرق كدحه.

كنت في حالة من القلق والخوف على مصير وأحوال المزارعين. وكانت تتواتر أخبارهم الينا وتحمل أخبار الموت والدمار. لذا لم أنم في تلك الليلة. وعند الساعة الخامسة صباحاً خرجت. وكنت امتلك وسيلة حركة في ذلك الزمن وهي موتر. وذهبت الي المستشفى مكان عملي ولكن في غير وقت عملي. وهناك علمت من بعض الزملاء الممرضين أن أحد المعتقلين وهو شاب صغير استطاع التسلق على اجساد المعتقلين، وتمكن من كسر زجاج المنور في اعلي البناية، وتم طعنه بالسونكي من البوليس الذي يحرس العنبر، واُحضر للمستشفى لتلقي العلاج.
وكان يعرفني وانا لا أعرفه. نده لي باسمي وقال عبارة: "الحق الناس في العنبر أنا خليني الناس ماتت). وفوراً ذهبت الي مدير المستشفى وكان مصري وهو عضو في الحزب الشيوعي المصري. وأسمه بيومي المصري. وحرك اسعاف بسرعة الي العنبر. وكانت منطقة العنبر محظورة ولكننا بحكم استخدامنا للإسعاف تمكنا من الوصول الي العنبر.
وكان بابه مسمكراً بخشب بشكل صليب. فقمنا أنا والدكتور وبعض البوليس بمحاولة كسر الباب. وبعد جهد ومعاناة تم فتح الباب. واستقبلتنا أجساد الشهداء من المزارعين. فقد كانت متكدسة في محاولات يائسة منهم لاستنشاق الهواء. ووجدنا موقف عسير وصعب. لقد استقبلتنا كمية من المياه التي تصببت من اجسادهم حتى وصلت الي ركبنا.
وبدأنا البحث عن الاحياء بينهم إن وجدوا وذلك بالبحث عن أي حركة في الأنف تدل على الحياة. ولكن وجدنا أجساداً متشابكة ومتخشبة فارقت الحياة. ووجدنا سبعة لم تفض أرواحهم بعد فنقلناهم الي المستشفى. وكان من بينهم طفل يبلغ من العمر 15 سنة. ليس بمزارع وإنما كان يعمل في البابور. وللأسف لم نجد أوردة للستة الباقين حتى نتمكن من ادخال دربات لإنقاذهم.
ونجا الطفل وحده. ولكنه أصيب بالجنون. واذكر أن اسمه أبكر أحمد من ابناء الفور من منطقة اسمها قارسيلا. وهرب قبل اتمام علاجه بالمستشفى.
وبشكل تقريبي يمكن ان نحصر عدد الذين حشروا في ذلك العنبر المشئوم تقريبا في كل باب حوالي 50 نفر. وفي كل شباك حوالي 23 الي 25 نفر. وإذا تم جمع الستة شبابيك والبابين بالإضافة الى الذين تساقطوا في العنبر حوالي 300 فرد.
وصدمت أيما صدمة عندما وجدت الشيخ الشهم المناضل اسماعيل عساكر رئيس اتحاد مزارعي جودة داخل العنبر مستشهدا مع رفاقه المزارعين. فحملت جثة عساكر في الإسعاف واتصلت بالرفاق. أذكر منهم يونس الدسوقي حتى يتم تكريم عساكر ودفنه بما يليق به. وقاموا باستلام جسده الطاهر. وكان التعامل مع باقي الشهداء بأن حفرت لهم حفر وطمرت أجسادهم فيها بدون أي من المراسيم المتبعة في الدفن، ولا حتى سمح لذويهم بالتعرف عليهم. ودفنوا تقريباً كل عشرة شهداء في حفرة وذلك ما تناهي الي مسامعي من الاخبار.
والتأم اجتماع بهدف الخروج الي الشارع للتنديد بهذه الجريمة الشنيعة، والخروج من أجل من بقي حياً من المزارعين بجودة. ولكن حاصر البوليس الموكب واعتقل عدداً من الشرفاء. وقدموا لمحاكمات. ووصلت فرق كبيرة من البوليس من مناطق مختلفة.
وأحمل الاحداث التي وقعت الي كل من النواب والوزراء الذي كان هدفهم الأوحد ما يجنونه من الارباح والاموال التي تعود عليهم من مشاريعهم وليس المواطن.
لذا كان العنف أكبر من الحدث. والاستنفار كان بشكل كبير لإسكات صوت المطالبة بالحقوق.
وعادوا لإطلاق هجمة شرسة علي المواطنين في قراهم مما حدا بهم للهروب الي الغابات المجاورة. ومن لم يمت بالرصاص مات من الجوع والعطش. ومنهم من مات متأثرا بجراحه لعدم تلقيهم للإسعاف والعناية الصحية. وهذه بشهادة أحمد المؤمن واحمد أبكر من مزارعي الجزيرة أبا وكانوا في زيارة لأهاليهم في بلدة جودة. ولقد شملتهم العناية الإلهية وتمت نجاتهم بأعجوبة. وكان مجموع الذين ماتوا في طريقهم للنجاة وهروبهم من بطش البوليس أكبر بكثير من الذين حصدهم الرصاص، أو الذين استشهدوا داخل عنبر جودة بعشرة اضعافهم.
وعلقت نجلاء: " كم كنت اشعر بالمرارة عندما كان أبى عليه رحمة الله يحكى عن تلكم الفترة. نعم عكست ما قاله ولم استطيع عكس احساسه وقال لي انه يشتم رائحة العرق كلما تحدث عن عنبر جودة والليالي السودة".

كتب لي صديق أمس عن قريب له من الناجين وهو بعينه الصبي الذي قال أبو السيد إنه نجا بالتسلق للشباك والنفاذ عبره. ونال من ذلك رصاصة أسعفوه منها. وطلب من أبو السيد أن يسارع ليلحق بضحايا العنبر. كتب قال:

أحد الناجين من الاختناق عمي احمد الدليل ضو البيت حالفه الحظ لصغر سنه وتمكن من الهرب عبر التسلق والقفز عبر نافذة صغيرة بأعلى المخزن.

وددت لو حصلنا من إفادة منه وصورة للتوثيق إذا ما يزال بيننا أطال الله عمره.

umdarag1936@gmail.com
/////////////////////////////////

 

آراء