fadilview@yahoo.com
مجلسك منظوم شوفو رايق ... عقدو ناقص زول ولا تام
رحل عنا فى هدؤ النسمات الصيفية صباح الخميس الماضى عمنا السيد محمد داؤد الخليفة الرمز الوطنى والوزير الأسبق للدفاع والحكومات المحلية والمستشارالأسبق برئاسة الجمهورية . ولا أدرى إن كان هو حسن الطالع أو مبعث الحزن أن تيسر لى أن التقى الراحل العزيز مرتين قبل أيام من رحيله ، كانت الأولى فى زواج إبن الأستاذ التجانى الكارب ( فهو جد العريس لأمه) والثانية فى قاعة الصداقة وهو يحضر معنا اوبريت الزعيم الأزهرى الذى قدمه الصديق الموسيقار الدكتور مصطفى شريف، وقد كان الراحل العزيز طوال عمره المديد عنواناً للنبل وسماحة النفس وتاجاً يزين المجالس. أذكر أننى قبل بضع سنوات كتبت مقالاً بعنوان (سودانيون فى بغداد) تطرقت فيها لنخبة كريمة من أولئك النفر ومن بينهم السيد محمد داؤد فآثرنى برد بديع قدمت له بقولى : (هذه رسالة أعتز بها كثيراً أرسلها عمنا السيد/ محمد داؤد الخليفة وزير الحكومة المحلية والدفاع ومستشار رئيس الجمهورية الأسبق. وهنالك فضيلة متوارثة بين رموز الحركة الوطنية تتمثل في توظيف علاقاتهم السياسية لتوفير الدراسة الجامعية لأبناء السودان في مختلف الأقطار ، فضيلة أول من طرقها المرحوم علي البرير عندما ساهم في إلحاق الجيل الثاني من أبناء الحركة الوطنية السودانية بالثانويات والجامعات المصرية في النصف الأول من القرن الماضي، وسار عليها عمنا الدكتور أحمد السيد حمد حينما كان يشغل منصب الأمين المساعد لجامعة الدول العربية بالقاهرة، ومضى فيها عمنا السيد/ محمد داؤد الذي قًبل على يديه عدد مقدر من الطلاب السودانيين بالجامعات العراقية. متعك الله بالصحة والعافية يا سيدي حفيد خليفة المهدي وسنظل نلاحقك لتكتب لنا خبايا تاريخنا السياسي المعاصر الذي كنت في قلبه) . جاء فى رسالة الراحل العزيز :
(إبني العزيز الأستاذ/ الفاضل ... اثارت كلمتك المؤثرة سودانيون في بغداد بتاريخ 12 سبتمبر2009م ورمضان يودعنا في أيامه العشرة الأخيرة- أقول أثارت كلمتك هذه ذكريات حبيبة إلى نفسي وأنت تنثرها بقلمك الرائع هنا وهناك لأيام جميلة مضت قضيناها معاً في بغداد- عاصمة الرشيد ومنارة العلم التليد، وقد كانت بغداد كما وصفتها أنت في السبعينات من القرن الماضي تمر بأزهى وأرقى وأجمل وأخصب إزدهارها في كل المجالات وها هي السنوات تمضي وقد تقدم بنا العمر ولسان حالنا يقول: وهب الزمان أعادها .. من للشبيبة من يعيد. لقد كنا حقاً- يا إبني الفاضل- كوكبة من أبناء السودان الخُلّص الممتازين خلقاً وكفاءة وسلوكاً تسنموا أعلى مراكز الأمم المتحدة ومنظماتها في بغداد ونالوا تقدير واحترام ومحبة جميع المسئولين في العراق بما فيهم الرئيس المشير أحمد حسن البكر رئيس الجمهورية ومن حوله، وكنتم أنتم الطلبة خير من مثل السودان في المحيط الجامعي. كنا نحن في منظومة الأمم المتحدة البروفيسور الدكتور أمين الكارب- الأب الروحي للبياطرة السودانيين- مديراً للمشروع الإقليمي للإنتاج الحيواني والدكتور صلاح نوح مديراً لمعهد التكنولوجيا الزراعي بابو غريب ومعه الدكتور سعد عبادي والدكتور عبد الله عبد اللطيف والدكتور الدسوقي المحاضر بكلية الطب البيطري بجامعة بغداد والدكتور قرمبع وبصحبتنا الإبن الدكتور مضوي الترابي الذي كان أصغرنا ولكنه شعلة من الذكاء والنشاط ويتمتع بذاكرة قوية وخلق سمح كريم وكذلك الأخ العميد طيار كسباوي، أما ليالينا فكان يعطرها الأستاذ حسن الطاهر زروق بذكرياته العطرة ومواقفه الوطنية في أول برلمان سوداني ممثلاً للجبهة المعادية للاستعمار، وكذلك الأستاذ محمد عبد الجواد الذي كان يتمتع بدعابة محببة في حديثه وقفشاته.
كان واسطة هذا العقد الفريد هو الأخ عمر عديل الممثل المقيم لبرنامج الأمم المتحدة بالعراق وكان كما وصفته أنت رجلاً كريماً مهذباً وموسوعة علمية يتحدث اللغة الإنجليزية ويجيدها وميز فيها أبناءها. وكان صديقاً قريباً جداً لرئيس الجمهورية العراقي آنذاك المشير أحمد حسن البكر وقد حدد للأخ عمر عديل يوماً خاصاً في كل أسبوع يقابله فيه ليستمع إليه وإلى آرائه الصريحة فيما يتعلق بعمله وعمل الوزارات التي تعاون معها، ولا أنسى يوم أن زرت الدكتور الشيخلي وزير التخطيط والاقتصاد العراقي في مكتبه بالوزارة فأسرع يخاطبني يا أستاذ محمد – لدي مشكلة في هذه الوزارة لا يستطيع حلها إلا الأستاذ عمر عديل مع السيد رئيس الجمهورية- فهلا تكرمت ونقلت ذلك للأخ عمر عديل، ولم تمضي أيام إلا وهاتفني السيد/ الوزير شاكراً لقضاء وحل مشكلته بالوزارة. وتتواتر الذكريات يا إبني الفاضل – فأذكر كيف إستقبلني العراقيون عندما جئت إلي بغداد من نيويورك وروما في وظيفة كبير المستشارين الزراعيين للأمم المتحدة وممثلاً لمنظمة الغذاء والزراعة الدولية بالعراق، عندما هبطت بي الطائرة في مطار بغداد قابلني على سلم الطائرة مندوب القيادة القومية التي كان من أبرز قادتها إبن عمي المرحوم السيد محمد سليمان الخليفة عبد الله الذي أستشهد في حادث الطائرة في جدة أثناء إنقلاب هاشم العطا فى يوليو 1971م وأرجو أن أتمكن من نشرتفاصيل هذا الحادث الأليم في وقت لاحق إنشاء الله. كما قابلني مندوب وزارة الخارجية وكذلك مندوب الأمم المتحدة ببغداد ومشيت بينهم الثلاثة إلى غرفة كبار الزوار بالمطار. وكان إستقبالاً كريماً شكرتهم جميعاً عليه وصحبت مندوب القيادة القومية في عربته إلى فندق بغداد- وكان وقتها الفندق الوحيد الذي يستقبل كبار الزوار وغيرهم ولا يوجد سواه – أخذني إليه ووجدت أنهم قد حجزوا لي جناحاً كاملاً خاصاً بي مكثت فيه قرابة الشهر قبل أن أرحل إلى منزلي الذي إستأجرته بحى المنصور بجوار الرئيس السوري السابق أمين الحافظ (أبوعبده)، والذي سعدت كثيراً بجواره وتوطدت عرى الصداقة بيننا وبين أسرتينا ولم تنقطع المراسلات بيننا حتى وقت قريب حينما توفاه الله مغفوراً له بإذن الله . أقف هنا يا إبني الفاضل لأني أظن أن عمودك لا يتحمل أكثر منه وسأواصل ذكرياتي معك في بغداد وكيف كان العراقيون يحبون ويحترمون السودانيين وكيف تم قبولكم في جامعات العراق أنت وإخوة لك، ويرجع الفضل في قبولكم بتلك الجامعات للأستاذ عزت إبراهيم الدوري رئيس المجلس الأعلى آنذاك وهو صديق وقريب مني، وقد أصبح فيما بعد كما تعلم نائباً لرئيس الجمهورية صدام حسين هو يقود الآن تيار المقاومة في بغداد ومازال يفعل والله نسأل له العافية وأن يحفظه من كل سوء والسلام.وإلى اللقاء..عمك/ محمد داؤد الخليفة ).
والحديث عن الراحل السيد محمد داؤد الخليفة ذو إمتاع وشجون ، أذكر له كلمة مترعة بالنبل والوفاء والأدب قدمها قبل أربع سنوات بجامعة الأحفاد للبنات فى أمسية تأبين صديق عمره العم الراحل المهندس احمد الطيب بابكر، وقد ثابرت على أخذ نصها منه ونشرتها عبر صحيفة الصحافة الغراء ، إستهلها بقوله :( في مثل هذه المواقف لا يعرف المرء كيف يبدأ ؟ وماذا يقول ؟ عن فقد صديق عزيز وأخ وفي كريم لم تلده امه – عرفه و صادقه وصدقه وصدّقه وزامله منذ عهد الطفوله والكتاب ولما يبلغ العاشرة من عمره حتى نهاية التعليم الجامعي – وبعدها في الحياة الممتده بكل دروبها المختلفه، وشاطره السراء والضراء – والفرحة و الحزن – الاحباط والحسره – والبسمة والتفاؤل – لم نفترق قط رغم ما املته علينا ظروف الحياة بأن يصبح هو مهندساً واصير أنا زراعياً، واختلفت بنا مواقع العمل ولكنه كان يحرص دائماً على اللقاء والاتصال بالسفر الي أو بالسفر اليه اينما كان وحيثما كنت، فتتجدد الاشواق وتنبعث العواطف وتزداد الصداقه وثوقاً ). ويمضى السيد محمد داؤد يوثق لمسيرة جيل بأكمله إذ تدامجت سيرته وسيرة أصفيائه مع سيرة رفيق دربه فيقول : (جئت من بارا وأنا في التاسعة من عمري عندما نُقل والدي منها الى الخرطوم وذات صباح اخذني والدي الى الشيخ بابكر بدري الذي جاء من رفاعه و فتح مدرسة الاحفاد الأولية بمبانى متواضعه من الجالوص شمال مدرسة امدرمان الاميريه ذات الطابقين والمبنيه من الحجر والطوب الاحمر والاسمنت، وكنا ونحن صغار نغار كثيراً من تلامذتها. اخذ الشيخ الجليل بيدي وادخلني الفصل "سنه ثالثه كتابً واجلسني بجانب تلميذ دخل المدرسه قبلي باسبوع – وكان ذلك الطالب هو احمد الطيب بابكر – تعرفت عليه ، ولما لم نكن نعرف بقية الطلبه فقد تلازمنا مع بعضنا البعض في الفسحه وفي الفصل واصبحنا بعد قليل صديقين، وامتدت هذه الصداقه لأكثر من خمسه وسبعين عاماً الى ان توفاه الله ومازلت اعيش ذكراها العطره.كان الشيخ بابكر بدري هو الناظر والمدرس يعاونه اخوه العم عبد الكريم بدري واحفاده ابراهيم إدريس ومالك ابراهيم مالك ومدرسون أمثال احمد عمر الشيخ وشيخ مرغني وضابط المدرسة مكي المنا وغيرهم. وكان الشيخ ببعد نظره قد طلب من الأباء في كرام الاسر السودانية أن يدعموه بالأبناء قبل المال ليلحقهم بمدرسته حتى يكونوا نواة طيبة لمدارس الأحفاد في المستقبل - وهكذا جاء أبناء واحفاد بدري والإمام المهدي والخليفة عبد الله والخليفة علي الحلو والخليفة شريف والأمراء وأبناء البرير وعبد المنعم محمد وابو العلا والأمين عبد الرحمن وصديق عيسى وحسين تربال وشوقي والشنقيطي والمطبعجي وابناء شبيكة وميرغني شكاك والهاشماب والرباطاب وابناء المسالمة داؤد منديل واسحق اسرائيل العيني وصالح داؤد وغيرهم كثر، وهكذا هيأت لهم الأحفاد هذا الملتقى الأسري الواسع فتعارفوا وتصادقوا .
وجاء عام ١٩٣٥ ونجح شيخنا لجليل في الحصول على قطعة أرض جنوب معتمدية امدرمان الحالية على شارع الموردة إبتنى عليها الشيخ مدرسة الأحفاد الوسطى من طابق واحد من الطوب الأحمر والأسمنت ، ويمر شريط الترام امامها تماماً كمدرسة امدرمان الأميرية. وبذلك ازال الشيخ عنا الحساسية والغيرة التي كانت تعتلج في نفوسنا ونحن صغار على تلاميذ مدرسة امدرمان الأميرية التي تقف مدرستهم شامخة بطابقين تعلوها ساعة حائط كبيرة. ولم تكن بامدرمان في ذلك الوقت الا ثلاثة مدارس وسطى هي امدرمان الاميرية والمدرسة الأهلية ومدرسة الأحفاد .
وكان الشائع في ذلك الزمان ان كلية غردون الثانوية لا تقبل خريجي المدارس الأهلية بل يقتصر قبولها على تلاميذ المدارس الحكومية فقط. وذلك أن تلاميذ المدارس الأهلية اضعف من أن يجتازوا الدخول للكلية !! وخلقت هذه الشائعة روح التحدي في نفوسنا ونفوس اساتذتنا وكان لابد أن تبرهن الاحفاد على جدارتها ونبرهن نحن التلاميذ على عدم صحة هذه الشائعة . وجاءت امتحانات الدخول للكلية وتقدمت الدفعة الاولى من تلاميذ الاحفاد وادهشوا الجميع فقد كسروا حاجز الإشاعة ونجح عدد مقدر منهم من بين ١٢٠ تلميذاً الذين تم قبولهم بالكلية، وكان على رأسهم ثابت حسن أول مدير لمصلحة الأثار وكامل شوقي أول مدير لمصلحة الغابات وصادق بدري محافظ مشروع الجزيرة والإمام الهادي المهدي وكمال عبد الله الفاضل المهدي وإسحاق الخليفة شريف ومهدي حسين شريف وآخرون . وتوالى النجاح حتى جاءت دفعتنا وكان أولنا احمد الطيب بابكر، وهكذا إنطلقت الأحفاد من عقالها وكسرت الحواجز بينها وبين كلية غردون. كنا يومها عدة مجموعات : مجموعة ابناء الدفعه (و يطلق عليها اسم الكومباين): محمد عبد الله نور واخوه ابراهيم نور وعبد الهادي حمدتو وحسين كمال ومحمد داؤود الخليفه . مجموعة سعد ابو العلا : سعد ابو العلا وعبد القادر عبد المنعم وبشير محمد سعيد ومامون بحيري ومحمد داؤود الخليفه. مجموعة الجراند هوتيل : محمد احمد محجوب ومحي الدين صابر و د. عقيل احمد عقيل وعلي حامد وفي بعض الاحيان عبد الحليم محمد و محمد داؤود الخليفه، وكان احمد الطيب كما ذكرت هو القاسم المشترك بين هذه المجموعات ، و كان كثيراً ما يدعو بعضها في الجراند هوتيل أو في منزله للسمر أو العشاء توطيداً لعرى الصداقه فيقضوا وقتاً طيباً معه).
هكذا سرد الراحل العزيز كلمات بديعة قوامها الإمتاع والمؤانسة وزبدتها رصد وافر لشيم الوفاء والإحتفاء بكوكبة الأقران والأتراب والصحبة الماجدة ، أعانته عليها سماحة فى النفس ورقة فى الطبع وسمو فى الخلق . رحمك الله سيدى العم العزيز وأنزل على روحك الرحمة والمغفرة.
" يا ايتها النفس المطمئنه ارجعي الى ربك راضية مرضيه فادخلي في عبادي و ادخلي جنتي" صدق الله العظيم