الزوار – نوستالجيا لزيارة وطن واقف على هرف القيف
د. عبدالمنعم عبدالمحمود العربي
26 February, 2022
26 February, 2022
أصعب تجربة في الحياة إغتراب السنين الطوال بعيداً عن الوطن، (الإنسان ، التراب والديار). ولآلام الغربة مفعول جسدي ونفسي قاسي يتأثر به سلبا المغترب وحتى أهله داخل الوطن. أقساه ضراوة أثر الحنين والأشواق، فنيرانها تشوي ذوي القلوب الرهيفة. دائماً يتساءل الأهل والجيران والصحاب عن عودة الحبيب البعيد المغترب. هذا السؤال "متين العودة؟" رسمه بالكلمات قصيدة الشاعر الرقيق الطبيب أحمد فرح شادول ، حفظه الله، الذي جرب قساوة الغربة تجلت معناً وحساً في قصيدته بعنوان "سائلين عليك" ، أقتبس منها هذه الأبيات :
ﺳﺎﺋﻠﻴﻦ ﻋﻠﻴﻚ ﻛﻞ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩ
ﺍﻟﺠﻮﻧﺎ ﻣﻨﻚ ﻭ ﺍﻟﻤﺸﻮ
ﻳﻮﻣﺎﺗﻲ ﺳﻴﺮﺗﻚ أﺣﻠﻲ ﺯﺍﺩ
ﻟﻲ ﺯﻭﻝ ﻏﻴﺎﺑﻚ ﻳﻮﺣﺸﻮ
ﻳﺘﻨﺴﻢ الأﺧﺒﺎﺭ ﻋﻠﻴﻚ
ﻣﺎﻻﺳﻴﺮﺓ ﺯﺍﺗﺎ ﺗﻨﻌﺸﻮ
ﺳﺎﺋﻠﻴﻦ ﻋﻠﻴﻚ ﻛﻞ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩ
ﺳﺎﺋﻠﻴﻦ ﻋﻠﻴﻚ ﻗﻤﺮ ﺍﻟﺴﻤﺎ
ﺍﻟﻤﻦ ﺟﻤﺎﻟﻚ ﻭﺟﻨﺘﻮ
ومع ذكر الغياب عن الوطن والأماكن والديار أولاً أترحم على روح الموسيقار النوبي البروفيسور حمزة علاء الدين رحمة واسعة وأن يسكنه الفردوس الأعلى . ثانياً أدعوكم صحبتي لنعيش دقائق "من فسحة الظهيرة" للترفيه قليلاً مع كلماته وموسيقاه التي عبرها كأنه يجيب على تساؤلات أهله في قراهم النوبية وهم يرددون كلمات دكتور شادول " سائلين عليك" يا غايب عن الديار ، فينوي العمل على زيارة أهله، يخطرهم ، وظل باله هكذا مشغولاً، يتأمل ويتصور كيف تكون فرحة اللقاء عندما يعود والوطن والاهل والأحباب ينتظرونه على أحر من الجمر…… أدعوكم هنا صحبة طيبة مع "الزوار" لحمزة علاءالدين علنا كلنا المغتربين نشمر لنعود بما تحمله قلوبنا من حب وشجن ومعنى الي حضن الوطن الحبيب
"الزوار " تعيد لي شخصياً نوستالجيا لقيا الأهل و رؤية الديار الحبيبة، الحنين إلى عبق عطر الغرف العتيقة وذكرى منظر جرار وعناقريب وموائد لحم وثريد واحتفالات بهيجة، ونساء الحي المصونات "خدر و زرق وصفر"يستأنسن وهن جالسات مشغولات بفنادك تدقق البن والزنجبيل والمحلب - "ريحة" الأفراح ، وأشجار نيم كانت وريفة تحت ظلها أزيار رطبات وهناك جريد يتدلي من النخيلات الباسقات تحيط بالديار ، تدر بالتمور، ونيل و"تساب" يعم الجزر ، بفضله تتجدد الحياة ويعم النماء والعمار . وللوطن من هنا على البعد أدعو سائلا الله السلام له من الفوضى المهددة بالشتات والفقر والنهب والتقسيم وأن ينعم الله عليه وعلي شعبه بالحرية والسلام والعدالة التي إستشهد من أجلها أغلى وأجمل شبابه الشرفاء ، عليهم رحمة الله. ربي رد غربتنا جميعا لنساهم في العمل الجاد فى مناخ ديمقراطي مدني نظيف رصين لأنقاذه من الضياع
عودة إلى "الزوار"، رائعة الموسيقار حمزة علاء الدين ، كلمات وموسيقى فهي لوحة متكاملة. قد تبدوا جداً بسيطة فى ظاهرها وكلماتها العفوية لكنها عالم ساحر لمن تسمح له أحواله وعواطفه وأحاسيسه أن يعيشها حالاً ونغما طروبا، كما صورها لنا وعاشها هذا الفنان الرائع. إنها بحق لوحة جميلة ناطقة تتوهج بنور نوستالجيا عودة كل حبيب منتظر وكل مغترب للوطن بعد طول غياب ، عودة للأم التى تسهر الليالي الطوال تسأل عنه العباد العائدين والقمر، تترقب الأخبار واللقاء تنتظر، وأيضاً الأغنية التي تصور شوق المغتربين أنفسهم ليعودوا للحبيب والجار القريب والبعيد والصاحب الخل الوفي، للمدن والقرى للخيام فى عمق البوادي الشواسع. لهذا السبب لا أمل من الاستماع لها كلما يسمح لي الوقت منذ أن تعرفت عليه (رحمه الله عليه" عصر يوم صيف هادئ بمدينة نيويورك خلال أواخر التسعينيات من القرن الماضي. وأنا أقتني ألبوم مجموعة قصائده التي لحنها وغناها بنفسه (The Eclipse ). ما كنت أعلم قبلها أنه توجد أيقونة نفيسة وبهذا المستوى الراقي الحساس المؤثر ورفيع المستوى من الفن النوبي بل كنز ثمين ابتلعته أغوار ومتاهات تلك الأراضي الجديدة البعيدة . هناك عرف حمزة مكان تقديره وعرفه العالم كله.
كان قمة ومدرسة عالمية فى عزف العود ، كتبت عنه كبريات الصحف الأمريكية والأوربية عندما توفي العام 2007. منذ ذلك الزمن كلما أستمع لهذه الأغنية "الزوار" أعيش من الأعماق روعة وحنية مفردات كلماتها واستمتع بمعانيها ونغم موسيقاها الحزين وصوت حمزة الحنين الذي يذكرني بأشخاص من أهلي الطيبين الذين كانوا يغنون أو ينشدون القصيد من أدب المدائح في رمضان ومواسم الأفراح أو يرددون أناشيد الوطن مع الفنانين خاصة سيد خليفة عليه رحمة الله …… يا وطني "يا بلدي … بلد أحبابي" . وأنا من بعدهم فيه شبيت ، ليه غنيت ،لغيره ما أوفيت ولا وجدت أجمل منه مكان ، إنه السودان " والخرطوم جنة رضوان "كانت فعل ماضي ".
أحس دوماً أن رائعة "زوار" حمزة تحملني على ظهر سفينتها الميمونة, تسافر بي وتسافر، تحلق وتطوف فوق بلاد وبلاد ، تعبر بي بحار ومحيطات وسهول وجبال, ازور في منتهاها الوطن الحبيب ثم تعود بي حيث كنت. رحمة الله عليك يا حمزة علاءالدين فكأنك بالفعل تحكي هنا حكايتي (أو حكاية الكثيرين من هم مثلي). تحكي أشعاري وشعوري وأنا المغترب عندما عدت إلى السودان وزرت مرة دارنا في بربر القدواب بعد غياب سنين طويلة. كان ذاك مشهداً عاطفياً مؤثراً عشته فكنت كالدرويش العابد المتصوف الذي يذوب طرباً فتأخذه غيبوبة عندما يدخل حلبة ذكر تمتلئ وجداً وحضوراً صوفياً. تجلى ذلك الشعور حينما زرت مكتبتي التي كان ميلادها هو يوم دخولي مدرسة بربر الثانوية. صممتها ونفذها النجار القدير محمد كرم الله رحمه الله. ظلت كعادتها وفية تنتظرني في مكانها لم تتغير طيلة تلك السنين، حتى لوحات زجاج أبوابها ظلت كما تركتها لم تنكسر . وجدتها تقبع في ركنها الهادئ القصي من ديوان كان يتوهج بنور الحياة التي كم كانت ذات بهجة وسعادة وزوار كثر يزورون يعمرونه برهة ثم يغادرون وآخرون يبيتون يتسامرون ، ضحكاتهم تكسر سكون لياليهم ،أو يمدحون قصائد الشيخ المجذوب وسلطان العاشقين وغيرهم من شعراء أدب المدائح السودانيين من ضمنهم "أبوشريعة و ودالعاقب" ، فيكرمون بطيب الطعام وبما يغذي الجيوب. هناك حيطان دارنا الشامخة وصامدة . صماء لكنها صفحات عليها تاريخ مكتوب يشهد يوم القيامة لأصحابها الذين شيدوها وعمروها بالإستقامة والأمانة ومخافة الله والوطن وكسب الرزق الحلال. خلف خزانة مكتبتي معلقة على الجدار التركوازي اللون "لوحتي" التي رسمتها ولونتها ونحن داخل إستراحة قلول بجبل مرة، أثناء مشاركتي رحلة مدرستنا الثانوية (جمعية الفنون) إلي جبل مرة "الكله جمال ومسرة ". نفضت غبارا ناعماً تراكم على كتبي التي كنت أتذكرها وتتذكرني وكلنا كنا نمثل في توادنا مع بعضنا محبة الخل والصاحب ورفيق الدرب الوفي ومؤنس الجلسات ببديع الحكايات. كنا في شوق فالتقينا. نظفتها فلمع نور وجهها الصبوح، شممتها فانتشيت، وفيها شممت عطر أمي ووالدي وأشقائي وشقيقاتي وجدتي وصحاب كثر ، وفي صمتها ذاك استحضرت مخزون الكثير من الذكريات والحكايات والمناسبات الجميلة مع أناس كانوا جميلين يسعدون صباحاتنا وأمسياتنا بكل جميل ومفيد. عليهم رحمة الله كلهم رحلوا الي الفردوس الأعلى في هدوء. وعند ذكر الراحلين من الأقارب والأحباب تحتاج النفس إلي برهة صمت وتأمل وبأدب تذكر الموت ثم الصلاة والدعاء، وفي كثير من المواقف لفي الصمت تعبد وتعقل وكلام، وقد كان. صداقتي مع تلك الكتب من رحم الغيب كتبت لها الولادة ثم نمت وترعرعت وكانت هي الرفقة الحنونة الصادقة الوفية التي تتكرم عليَّ دوماً بكل أريحية ومن غير ضجر بصحبة سياحة معرفية روحية تطوف بي وتحلق في العلياء خلال تخوم لا يدركها من كان يعيش حولي . كانت تلك هي الصحبة الخالدة ذكراها لأنني كنت فيها استشرق عوالمي وأنا أتحسس بداية إنطلاقة طريقي نحو مستقبل كان لا يزال حينها مجهولا غير محدود الأفق، وكان نصيبي ذاك بذور معرفة مختلفة ألوانها وأشكالها حصلت عليها رغم سني الباكرة . من بعيد لك الشوق مرة أخرى يا مكتبتي ويا ديار أمي و أبي ويا جدار كنت في صغري تحمل توقيع تذكاري محفوراً هنا وهناك ، والترقصي طربا ياشياه ويا جزائر وجروف وغردي يا طيور وشقشقي يا عصافير مدينتي بربر وكل المدن الصغيرة والكبيرة عندما يزوركم النيل بفيضه كل عام، ولك يا سودان الكرامة والعزة التجلة والتحية وألف سلام.
بعد ذلك الغياب الطويل واللقاء الحلو المستطاب سريعاً حان السفر وما أصعبها معاناة تجربة مرارة الوداع، فأسفاً ودعت الديار الحبيبة غصباً عن إرادتي، ودعت بهجة واحتفاء من أحيوا الديار ، تركت مكتبتي ، ودعتها وفي عينيها كلام وعتاب كأنها تقول لي" كفاكم اغتراب" ، وكان الصمت ردي ، آه من مر الجواب، إستحيت أقول إن الحياة داخل الوطن يا درة في الفؤاد صارت "طاردة" ، شقاوة وعذاب، وعنصرية تفرقة جهوية وقبلية هي حضيض التخلف .فخرجت أكفكف دمعات ساخنات تاركاً فى حضنها ورعايتها (برغم شظف حالها وضيق ذات اليد) عذراء قريش تنام في خدرها يحرسها جورجي زيدان وذكريات عن البادية تركتها يحكيها لها الأستاذ حسن نجيلة عندما يخيم الظلام وتسكن الأشياء، والبيرتوموريفيا تجاهلته نائما لأنه لم يعد يثير شغفي بخيالاته من قصص مثيرة . مع زحمة الأفكار والتفاكر وثواني الزمن التى تتقاصر مسرعة أبت نار مجاذيب محمد المهدي المجذوب و كذلك الدكتور طه حسين "مع المتنبي" ومحمد سعيد العباسي الذي كان الأرق من طول هم يعروه قد أرهقه لأنه صادقاً ظل عمره كله يخشى على مليط ودارفور من خلاف بين الناس الطيبين يصير وجفاف وضياع نتيجة حروب يهدد. إكتمل أخيراً تجمع الرهط الفخيم بإنضمام المازني حاملا معوله وحصاد هشيم على ظهره لا يسمن ولا يغني، كل هؤلاء أبوا إلا أن يتبعوني بعد ذلك الإنحباس القسري ، ينشدون الحرية ، فتم لهم مناهم من غير وقوعهم في شراك مجرمي تجار البشر . هكذا ودعت مكتبتي وأنا السعيد بتلك الرفقة الكريمة التي صحبتني إلي بلاد "الضُلُمَّة". أما " المدعو مصطفى سعيد" فإنه لم ينسى تجربته فى بلاد الفرنجة، ولا مآلات عواقب موسم الهجرة إلى الشمال. فقد تسمر في مكانه و "حَرَنَ" مع أصحابه لأنه لا يريد تكرار هجرة جديدة إلى شمال مظلم ليله ونهاره ، لا يرحم صقيع برده حياً ولا جماداً.
الآن من على البعد وانا هنا في بلد الضلمة أتذكر بل أكاد أسمع صوت الأستاذ حسن نجيلة وهو يروي قصته على نفر من مستمعيه عن إحدي حسناوات البادية فى غرب السودان وهي تغني للحبيب الغائب:
" ختاتة ختي زيدي
بكريك بي مجيدي*
شوفي لي حبيبي
في البلد البعيدي"
ويا ختاتة الودع الواعد بقدوم كل فجر وصباح وعودة حبيب هو اليوم فى كل دار غير موجود ، ويا زرقاء اليمامة صاحبة البصر والبصيرة هل تفرحننا بأخبار الأحباب وكل غائب مغترب، وما أكثرهم اليوم السودانيون المشتتون في متاهات مجهولة، وليس فقط في بلد واحد "بعيدي" … لكن فى بلاد وصحاري وسهول وجبال ووهاد وأماكن وأحوال داخل وخارج السودان لا يعلم هولها وقساوتها إلا الله … واليبقى فرحاً السعيد المُنَعَّمُ الباقي فى وطنه "القصر الفخيم" فقط هو الحاكم " بأمر الله؟!". … فبالله رعاك الله وعافاك وأسعدك يا ختانة برسل ليك حوالة ، جواب مسوكر، بالبريد "فيها بكريك بالدولار…. فختي زيدي … وختي زيدي… فهل عندك لنا من السودان خبر مفرح جديدي؟؟" للأسف لقد هرمنا وهرم ظهر الوطن من حمل جبل كبير من جليد، كله آلام وأحزان وظلم وبهتان، لا يذوب رغم ضراوة الإحتباس الحراري الشديد .
ختاماً ياوطن:
نحن ﺳﺎﺋﻠﻴﻦ ﻋﻠﻴﻚ ﻛﻞ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩ
ﺍﻟﺠﻮﻧﺎ ﻣﻨﻚ ﻭ ﺍﻟﻤﺸﻮ
ﻳﻮﻣﺎﺗﻲ ﺳﻴﺮﺗﻚ أﺣﻠﻲ ﺯﺍﺩ
ﻟﻲ ﺯﻭﻝ ﻏﻴﺎﺑﻚ ﻳﻮﺣﺸﻮ
عفواً للإستطالة عزيزي القاريء ويا كل شباب الوطن الحي، إن من فرط تراكم الإحباطات حالات يعجز عن علاجها الطب والطبيب، ولكن نحن السودانيين أبناء البلد يجب أن لا نستسلم لمالاتها ، علينا الجد والاجتهاد والتوكل على الله ، نصلي وندعوا ، وبالأناشيد الوطنية والتراثية أشعار حبوباتنا نغني لنفرح وتفرح معنا أجيال. وتأسياً متفائلاً بقناعات رائعة حسن خليفة العطبراوي أدعوكم نقف معه من ورائه نردد عائدون وإن طالت الغربة ونعيمها المحدود، حتى وإن كان الوطن هو "هرف القيف" فسوف لن نتركه ونتخلى عنه :
مرحبتين بلدنا حبابا
حباب النيل حباب الغابة
ياها ديارنا نحن اصحابا..نهوي عديلا ونرضي صعابا
بنعشق شمسها الحراقة
وتلهب في قلوب دفاقة
نحن شعارنا حب وصداقة
للناس الصفت اخلاقا
لازم نبقي سمحين سيرة
وطنية وأمانة وغيرة
نحن بلدنا لينا مصيرا
ومين عند غيرنا تلقي نصيرا
*هرف القيف: معروفة لأهل الشمال الساكنين على ضفاف النيل وتعني حافة الهدام ، فهي جداً خطيرة لهشاشتها وقد تتهايل بسهولة
*المجيدي: ريال ذاك الزمن يعادل عشرين قرش ( شرح الاستاذ نجيلة)، لعله من الفضة الخالصة
لقطة النساء وهن يمشين راجلات زائرات أو مجاملات أخريات فى ذلك الحي، إلتقطها بمنطقة السبلوكة أثناء مرور سيارتنا عبر تلك القرية الريفية الساكنة
https://youtu.be/GSskHuCWtPo
drabdelmoneim@gmail.com
//////////////////////////
ﺳﺎﺋﻠﻴﻦ ﻋﻠﻴﻚ ﻛﻞ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩ
ﺍﻟﺠﻮﻧﺎ ﻣﻨﻚ ﻭ ﺍﻟﻤﺸﻮ
ﻳﻮﻣﺎﺗﻲ ﺳﻴﺮﺗﻚ أﺣﻠﻲ ﺯﺍﺩ
ﻟﻲ ﺯﻭﻝ ﻏﻴﺎﺑﻚ ﻳﻮﺣﺸﻮ
ﻳﺘﻨﺴﻢ الأﺧﺒﺎﺭ ﻋﻠﻴﻚ
ﻣﺎﻻﺳﻴﺮﺓ ﺯﺍﺗﺎ ﺗﻨﻌﺸﻮ
ﺳﺎﺋﻠﻴﻦ ﻋﻠﻴﻚ ﻛﻞ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩ
ﺳﺎﺋﻠﻴﻦ ﻋﻠﻴﻚ ﻗﻤﺮ ﺍﻟﺴﻤﺎ
ﺍﻟﻤﻦ ﺟﻤﺎﻟﻚ ﻭﺟﻨﺘﻮ
ومع ذكر الغياب عن الوطن والأماكن والديار أولاً أترحم على روح الموسيقار النوبي البروفيسور حمزة علاء الدين رحمة واسعة وأن يسكنه الفردوس الأعلى . ثانياً أدعوكم صحبتي لنعيش دقائق "من فسحة الظهيرة" للترفيه قليلاً مع كلماته وموسيقاه التي عبرها كأنه يجيب على تساؤلات أهله في قراهم النوبية وهم يرددون كلمات دكتور شادول " سائلين عليك" يا غايب عن الديار ، فينوي العمل على زيارة أهله، يخطرهم ، وظل باله هكذا مشغولاً، يتأمل ويتصور كيف تكون فرحة اللقاء عندما يعود والوطن والاهل والأحباب ينتظرونه على أحر من الجمر…… أدعوكم هنا صحبة طيبة مع "الزوار" لحمزة علاءالدين علنا كلنا المغتربين نشمر لنعود بما تحمله قلوبنا من حب وشجن ومعنى الي حضن الوطن الحبيب
"الزوار " تعيد لي شخصياً نوستالجيا لقيا الأهل و رؤية الديار الحبيبة، الحنين إلى عبق عطر الغرف العتيقة وذكرى منظر جرار وعناقريب وموائد لحم وثريد واحتفالات بهيجة، ونساء الحي المصونات "خدر و زرق وصفر"يستأنسن وهن جالسات مشغولات بفنادك تدقق البن والزنجبيل والمحلب - "ريحة" الأفراح ، وأشجار نيم كانت وريفة تحت ظلها أزيار رطبات وهناك جريد يتدلي من النخيلات الباسقات تحيط بالديار ، تدر بالتمور، ونيل و"تساب" يعم الجزر ، بفضله تتجدد الحياة ويعم النماء والعمار . وللوطن من هنا على البعد أدعو سائلا الله السلام له من الفوضى المهددة بالشتات والفقر والنهب والتقسيم وأن ينعم الله عليه وعلي شعبه بالحرية والسلام والعدالة التي إستشهد من أجلها أغلى وأجمل شبابه الشرفاء ، عليهم رحمة الله. ربي رد غربتنا جميعا لنساهم في العمل الجاد فى مناخ ديمقراطي مدني نظيف رصين لأنقاذه من الضياع
عودة إلى "الزوار"، رائعة الموسيقار حمزة علاء الدين ، كلمات وموسيقى فهي لوحة متكاملة. قد تبدوا جداً بسيطة فى ظاهرها وكلماتها العفوية لكنها عالم ساحر لمن تسمح له أحواله وعواطفه وأحاسيسه أن يعيشها حالاً ونغما طروبا، كما صورها لنا وعاشها هذا الفنان الرائع. إنها بحق لوحة جميلة ناطقة تتوهج بنور نوستالجيا عودة كل حبيب منتظر وكل مغترب للوطن بعد طول غياب ، عودة للأم التى تسهر الليالي الطوال تسأل عنه العباد العائدين والقمر، تترقب الأخبار واللقاء تنتظر، وأيضاً الأغنية التي تصور شوق المغتربين أنفسهم ليعودوا للحبيب والجار القريب والبعيد والصاحب الخل الوفي، للمدن والقرى للخيام فى عمق البوادي الشواسع. لهذا السبب لا أمل من الاستماع لها كلما يسمح لي الوقت منذ أن تعرفت عليه (رحمه الله عليه" عصر يوم صيف هادئ بمدينة نيويورك خلال أواخر التسعينيات من القرن الماضي. وأنا أقتني ألبوم مجموعة قصائده التي لحنها وغناها بنفسه (The Eclipse ). ما كنت أعلم قبلها أنه توجد أيقونة نفيسة وبهذا المستوى الراقي الحساس المؤثر ورفيع المستوى من الفن النوبي بل كنز ثمين ابتلعته أغوار ومتاهات تلك الأراضي الجديدة البعيدة . هناك عرف حمزة مكان تقديره وعرفه العالم كله.
كان قمة ومدرسة عالمية فى عزف العود ، كتبت عنه كبريات الصحف الأمريكية والأوربية عندما توفي العام 2007. منذ ذلك الزمن كلما أستمع لهذه الأغنية "الزوار" أعيش من الأعماق روعة وحنية مفردات كلماتها واستمتع بمعانيها ونغم موسيقاها الحزين وصوت حمزة الحنين الذي يذكرني بأشخاص من أهلي الطيبين الذين كانوا يغنون أو ينشدون القصيد من أدب المدائح في رمضان ومواسم الأفراح أو يرددون أناشيد الوطن مع الفنانين خاصة سيد خليفة عليه رحمة الله …… يا وطني "يا بلدي … بلد أحبابي" . وأنا من بعدهم فيه شبيت ، ليه غنيت ،لغيره ما أوفيت ولا وجدت أجمل منه مكان ، إنه السودان " والخرطوم جنة رضوان "كانت فعل ماضي ".
أحس دوماً أن رائعة "زوار" حمزة تحملني على ظهر سفينتها الميمونة, تسافر بي وتسافر، تحلق وتطوف فوق بلاد وبلاد ، تعبر بي بحار ومحيطات وسهول وجبال, ازور في منتهاها الوطن الحبيب ثم تعود بي حيث كنت. رحمة الله عليك يا حمزة علاءالدين فكأنك بالفعل تحكي هنا حكايتي (أو حكاية الكثيرين من هم مثلي). تحكي أشعاري وشعوري وأنا المغترب عندما عدت إلى السودان وزرت مرة دارنا في بربر القدواب بعد غياب سنين طويلة. كان ذاك مشهداً عاطفياً مؤثراً عشته فكنت كالدرويش العابد المتصوف الذي يذوب طرباً فتأخذه غيبوبة عندما يدخل حلبة ذكر تمتلئ وجداً وحضوراً صوفياً. تجلى ذلك الشعور حينما زرت مكتبتي التي كان ميلادها هو يوم دخولي مدرسة بربر الثانوية. صممتها ونفذها النجار القدير محمد كرم الله رحمه الله. ظلت كعادتها وفية تنتظرني في مكانها لم تتغير طيلة تلك السنين، حتى لوحات زجاج أبوابها ظلت كما تركتها لم تنكسر . وجدتها تقبع في ركنها الهادئ القصي من ديوان كان يتوهج بنور الحياة التي كم كانت ذات بهجة وسعادة وزوار كثر يزورون يعمرونه برهة ثم يغادرون وآخرون يبيتون يتسامرون ، ضحكاتهم تكسر سكون لياليهم ،أو يمدحون قصائد الشيخ المجذوب وسلطان العاشقين وغيرهم من شعراء أدب المدائح السودانيين من ضمنهم "أبوشريعة و ودالعاقب" ، فيكرمون بطيب الطعام وبما يغذي الجيوب. هناك حيطان دارنا الشامخة وصامدة . صماء لكنها صفحات عليها تاريخ مكتوب يشهد يوم القيامة لأصحابها الذين شيدوها وعمروها بالإستقامة والأمانة ومخافة الله والوطن وكسب الرزق الحلال. خلف خزانة مكتبتي معلقة على الجدار التركوازي اللون "لوحتي" التي رسمتها ولونتها ونحن داخل إستراحة قلول بجبل مرة، أثناء مشاركتي رحلة مدرستنا الثانوية (جمعية الفنون) إلي جبل مرة "الكله جمال ومسرة ". نفضت غبارا ناعماً تراكم على كتبي التي كنت أتذكرها وتتذكرني وكلنا كنا نمثل في توادنا مع بعضنا محبة الخل والصاحب ورفيق الدرب الوفي ومؤنس الجلسات ببديع الحكايات. كنا في شوق فالتقينا. نظفتها فلمع نور وجهها الصبوح، شممتها فانتشيت، وفيها شممت عطر أمي ووالدي وأشقائي وشقيقاتي وجدتي وصحاب كثر ، وفي صمتها ذاك استحضرت مخزون الكثير من الذكريات والحكايات والمناسبات الجميلة مع أناس كانوا جميلين يسعدون صباحاتنا وأمسياتنا بكل جميل ومفيد. عليهم رحمة الله كلهم رحلوا الي الفردوس الأعلى في هدوء. وعند ذكر الراحلين من الأقارب والأحباب تحتاج النفس إلي برهة صمت وتأمل وبأدب تذكر الموت ثم الصلاة والدعاء، وفي كثير من المواقف لفي الصمت تعبد وتعقل وكلام، وقد كان. صداقتي مع تلك الكتب من رحم الغيب كتبت لها الولادة ثم نمت وترعرعت وكانت هي الرفقة الحنونة الصادقة الوفية التي تتكرم عليَّ دوماً بكل أريحية ومن غير ضجر بصحبة سياحة معرفية روحية تطوف بي وتحلق في العلياء خلال تخوم لا يدركها من كان يعيش حولي . كانت تلك هي الصحبة الخالدة ذكراها لأنني كنت فيها استشرق عوالمي وأنا أتحسس بداية إنطلاقة طريقي نحو مستقبل كان لا يزال حينها مجهولا غير محدود الأفق، وكان نصيبي ذاك بذور معرفة مختلفة ألوانها وأشكالها حصلت عليها رغم سني الباكرة . من بعيد لك الشوق مرة أخرى يا مكتبتي ويا ديار أمي و أبي ويا جدار كنت في صغري تحمل توقيع تذكاري محفوراً هنا وهناك ، والترقصي طربا ياشياه ويا جزائر وجروف وغردي يا طيور وشقشقي يا عصافير مدينتي بربر وكل المدن الصغيرة والكبيرة عندما يزوركم النيل بفيضه كل عام، ولك يا سودان الكرامة والعزة التجلة والتحية وألف سلام.
بعد ذلك الغياب الطويل واللقاء الحلو المستطاب سريعاً حان السفر وما أصعبها معاناة تجربة مرارة الوداع، فأسفاً ودعت الديار الحبيبة غصباً عن إرادتي، ودعت بهجة واحتفاء من أحيوا الديار ، تركت مكتبتي ، ودعتها وفي عينيها كلام وعتاب كأنها تقول لي" كفاكم اغتراب" ، وكان الصمت ردي ، آه من مر الجواب، إستحيت أقول إن الحياة داخل الوطن يا درة في الفؤاد صارت "طاردة" ، شقاوة وعذاب، وعنصرية تفرقة جهوية وقبلية هي حضيض التخلف .فخرجت أكفكف دمعات ساخنات تاركاً فى حضنها ورعايتها (برغم شظف حالها وضيق ذات اليد) عذراء قريش تنام في خدرها يحرسها جورجي زيدان وذكريات عن البادية تركتها يحكيها لها الأستاذ حسن نجيلة عندما يخيم الظلام وتسكن الأشياء، والبيرتوموريفيا تجاهلته نائما لأنه لم يعد يثير شغفي بخيالاته من قصص مثيرة . مع زحمة الأفكار والتفاكر وثواني الزمن التى تتقاصر مسرعة أبت نار مجاذيب محمد المهدي المجذوب و كذلك الدكتور طه حسين "مع المتنبي" ومحمد سعيد العباسي الذي كان الأرق من طول هم يعروه قد أرهقه لأنه صادقاً ظل عمره كله يخشى على مليط ودارفور من خلاف بين الناس الطيبين يصير وجفاف وضياع نتيجة حروب يهدد. إكتمل أخيراً تجمع الرهط الفخيم بإنضمام المازني حاملا معوله وحصاد هشيم على ظهره لا يسمن ولا يغني، كل هؤلاء أبوا إلا أن يتبعوني بعد ذلك الإنحباس القسري ، ينشدون الحرية ، فتم لهم مناهم من غير وقوعهم في شراك مجرمي تجار البشر . هكذا ودعت مكتبتي وأنا السعيد بتلك الرفقة الكريمة التي صحبتني إلي بلاد "الضُلُمَّة". أما " المدعو مصطفى سعيد" فإنه لم ينسى تجربته فى بلاد الفرنجة، ولا مآلات عواقب موسم الهجرة إلى الشمال. فقد تسمر في مكانه و "حَرَنَ" مع أصحابه لأنه لا يريد تكرار هجرة جديدة إلى شمال مظلم ليله ونهاره ، لا يرحم صقيع برده حياً ولا جماداً.
الآن من على البعد وانا هنا في بلد الضلمة أتذكر بل أكاد أسمع صوت الأستاذ حسن نجيلة وهو يروي قصته على نفر من مستمعيه عن إحدي حسناوات البادية فى غرب السودان وهي تغني للحبيب الغائب:
" ختاتة ختي زيدي
بكريك بي مجيدي*
شوفي لي حبيبي
في البلد البعيدي"
ويا ختاتة الودع الواعد بقدوم كل فجر وصباح وعودة حبيب هو اليوم فى كل دار غير موجود ، ويا زرقاء اليمامة صاحبة البصر والبصيرة هل تفرحننا بأخبار الأحباب وكل غائب مغترب، وما أكثرهم اليوم السودانيون المشتتون في متاهات مجهولة، وليس فقط في بلد واحد "بعيدي" … لكن فى بلاد وصحاري وسهول وجبال ووهاد وأماكن وأحوال داخل وخارج السودان لا يعلم هولها وقساوتها إلا الله … واليبقى فرحاً السعيد المُنَعَّمُ الباقي فى وطنه "القصر الفخيم" فقط هو الحاكم " بأمر الله؟!". … فبالله رعاك الله وعافاك وأسعدك يا ختانة برسل ليك حوالة ، جواب مسوكر، بالبريد "فيها بكريك بالدولار…. فختي زيدي … وختي زيدي… فهل عندك لنا من السودان خبر مفرح جديدي؟؟" للأسف لقد هرمنا وهرم ظهر الوطن من حمل جبل كبير من جليد، كله آلام وأحزان وظلم وبهتان، لا يذوب رغم ضراوة الإحتباس الحراري الشديد .
ختاماً ياوطن:
نحن ﺳﺎﺋﻠﻴﻦ ﻋﻠﻴﻚ ﻛﻞ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩ
ﺍﻟﺠﻮﻧﺎ ﻣﻨﻚ ﻭ ﺍﻟﻤﺸﻮ
ﻳﻮﻣﺎﺗﻲ ﺳﻴﺮﺗﻚ أﺣﻠﻲ ﺯﺍﺩ
ﻟﻲ ﺯﻭﻝ ﻏﻴﺎﺑﻚ ﻳﻮﺣﺸﻮ
عفواً للإستطالة عزيزي القاريء ويا كل شباب الوطن الحي، إن من فرط تراكم الإحباطات حالات يعجز عن علاجها الطب والطبيب، ولكن نحن السودانيين أبناء البلد يجب أن لا نستسلم لمالاتها ، علينا الجد والاجتهاد والتوكل على الله ، نصلي وندعوا ، وبالأناشيد الوطنية والتراثية أشعار حبوباتنا نغني لنفرح وتفرح معنا أجيال. وتأسياً متفائلاً بقناعات رائعة حسن خليفة العطبراوي أدعوكم نقف معه من ورائه نردد عائدون وإن طالت الغربة ونعيمها المحدود، حتى وإن كان الوطن هو "هرف القيف" فسوف لن نتركه ونتخلى عنه :
مرحبتين بلدنا حبابا
حباب النيل حباب الغابة
ياها ديارنا نحن اصحابا..نهوي عديلا ونرضي صعابا
بنعشق شمسها الحراقة
وتلهب في قلوب دفاقة
نحن شعارنا حب وصداقة
للناس الصفت اخلاقا
لازم نبقي سمحين سيرة
وطنية وأمانة وغيرة
نحن بلدنا لينا مصيرا
ومين عند غيرنا تلقي نصيرا
*هرف القيف: معروفة لأهل الشمال الساكنين على ضفاف النيل وتعني حافة الهدام ، فهي جداً خطيرة لهشاشتها وقد تتهايل بسهولة
*المجيدي: ريال ذاك الزمن يعادل عشرين قرش ( شرح الاستاذ نجيلة)، لعله من الفضة الخالصة
لقطة النساء وهن يمشين راجلات زائرات أو مجاملات أخريات فى ذلك الحي، إلتقطها بمنطقة السبلوكة أثناء مرور سيارتنا عبر تلك القرية الريفية الساكنة
https://youtu.be/GSskHuCWtPo
drabdelmoneim@gmail.com
//////////////////////////