الزيلعي والوقوف في منتصف الطريق
زين العابدين صالح عبد الرحمن
24 July, 2021
24 July, 2021
أن الدول التي تخرج من أنظمة حكم شمولية إذا كانت عسكرية جاءت عبر انقلابات عسكرية أو حكم مدني لسيادة حزب واحد، دائما تعاني من إشكاليات التحول الديمقراطي، خاصة إذا كانت أحزابها ليست بالفاعلية التي تجعلها تستطيع أن تدير معركة التحول الديمقراطي بأفق وطني و بالشروط التي تتطلبها الديمقراطية، و المعاناة أيضا ناتجة بسبب ضعف الثقافة الديمقراطية التي بمثابة الاكسجين لعملية التحول الديمقراطي. لذلك يصبح الجدل الفكري بين مكونات تلك الأحزاب مسألة ضرورية لأسباب عديدة، منها أولا أن تجمع أكبر قاعدة اجتماعية تكون مناصرة لعملية التحول الديمقراطي. ثانيا ترتيب الأولويات بالصورة التي تضمن تنفيذ العملية بسلاسة. ثالثا توعية الجماهير بالعملية و تعريفها بحقوقها و واجباتها. رابعا العمل من أجل تغيير طريقة التفكير السائدة المشبعة بالثقافة الشمولية. خامسا أن تتناسب الشعارات المرفوعة مع عملية التحول الديمقراطي. سادسا أن تفتح العديد من منابر الرأي لسماع الكل دون إقصاء حتى تتعرف علي العوائق و المشاكل التي يمكن أن تتعرض لها عملية التحول الديمقراطي. سابعا أن تهدي العب لكي يكون الحوار هو القاعدة الأساسية.
هنا يبرز دور المفكرين في الأحزاب السياسية، لفتح منافذ للحوار. و دور المفكر في العملية السياسية أن يفتح العديد من قنوات الحوار من خلال تقديم العديد من الأسئلة المطلوب الإجابة عليها من جانب، و تحريك الميكنزمات الاجتماعية لخلق حالة من التفاعل الإيجابي بين التيارات الفكرية المختلفة. و كما يقول الدكتور علي حرب في كتابه " الفكر و الحدث حوارات و محاور" يقول " إذا أراد المثقف أن يمارس فاعليته بطريقة منتجة و خلاقة من حيث علاقته بالسلطة و المجتمع، فعليه أن يعمل بخصوصيته كمنتج ثقافي و فاعل فكري فهذا هو رهانه : خلق واقع فكري جديد سواء بإنتاج أفكار جديدة، أو بتغيير نماذج التفكير، أو بابتداع ممارسات فكرية مختلفة، أو بإعادة ابتكار الأفكار القديمة في ضوء التجارب علي أرض الممارسات. فالواقع لا يتغير ما لم ننسج معه علاقات جديدة بتغيير أفكارنا عنه أو بإعادة صياغته على مستوى الفكر، أو بجعله حقلا للإبداع الفكري" من هنا كنت اتابع كتابات بعض الأخوة القادمين من عمق اليسار السوداني، أولهم الأستاذ صديق الزيلعي الذي يعتبر في تناوله للموضوعات مثل جورج لوكاش المجري الذي يعد من أهم فلاسفة الواقعية الاشتراكية رغم أن لوكاش كان مهتما بقطاع الأداب و الرواية لكن منطلقاته النظرية تشمل حتى طريقة التفكير العقلاني، إلي جانب الزيلعي هناك الأستاذ تيسير حسن أدريس و أحاول أن أتلمس اتجاهات التحول الديمقراطي في مسيرة الكاتبين، باعتبارها تبين مؤشرات عملية البعد الديمقراطي في أطروحتيهما، و من ثم رؤيته لكيف يكون التغيير، خاصة أن الكاتبين تتلمس في كتاباتهم اتساع الاطلاع و عمق المعرفة. في الجانب الأخر من المشهد تاج السر عثمان أبو الذي دفن في الموروث الماركسي و وقف في محطة استالين و تكيف مع وضعها، و بالتالي يعتبر مؤشر حقيقي للقيادات التاريخية الرافضة لعملية الاجتهادات التي جاءت في فلسفة " ما بعد الحداثة" إلا أن الرجل يقدم أطروحته بعمق الاستالينية، رغم أن الزملاء هذه الأيام كتشفوا أن التروتسكية مفيدة في الصراع بهدف ادامة الثورة و جعلها مستمرة.
قبل الدخول في الحوار مع الزيلعي هناك محطة لابد من الإشارة إليها؛ خاصة للأجيال الجديدة، و هي محطة ماتزال مؤثرة جدا في مدرسة الكادر للحزب الشيوعي، و هي ترمي بظلالها خارج دائرة التنظيم لكي تؤثر علي ثقافة كل الذي يتعلقون بأهداب الحزب الشيوعي من خلال واجهاته العديدة. هي قضية معهد المعلمين التي حثت عام 1968م في ندوة في معهد المعلمين تحدث فيها شخص يدعى شوقي تعدى علي بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم. قال الحزب الشيوعي أنه لا ينتمي للحزب، و قالت الحركة الإسلامية أنه شيوعي و خرجت التظاهرات من الإسلاميين، ثم أيدتها قيادات حزب الأمة و الاتحادي الديمقراطي. و أدت إلي طرد نواب الحزب الشيوعي من البرلمان و حل الحزب الشيوعي و مصادرة ممتلكاته. و هي أفعال تعارض الديمقراطية مبدأ و قيما و سلوكا. هذه الحادثة لم تغيب عن الشيوعي و دلالة بعد انقلاب مايو، توفي الزعيم اسماعيل الأزهري في السجن. أصدر وزير الإعلام محجوب عثمان القيادي بالحزب الشيوعي في ذلك الوقت، بيان قال فيه " توفي اليوم المدعو اسماعيل الأزهري المدرس في التربية و التعليم" حزف كل دوره الوطني في مؤتمر الخريجين و استقلال السودان و رأسته للوزراء و لمجلس السيادة. هذه تبين عمق ثقافة الثأر عند الزملاء. و هي الأن مستبطن لا تجعلهم يفكرون بحرية، لأنهم يستدعون الحادثة كل مرة.
كتب الزيلعي مقالا بعنوان " الأولويات المقلوبة مرة أخرى يا النور حمد" ردا علي حديث للدكتور النور حمد لراديو 106.6 قال فيه " إنه لا بد من مصالحة مع الإسلاميين، كون الوثيقة الدستورية حظرت فقط نشاط المؤتمر الوطني وعدم ممارسه أي عمل سياسي خلال الفترة الانتقالية، واوضح: “لكن الآن المؤتمر الوطني يمارس عملاً تخريبياً، حسب ما تم ضبطه من ادلة مؤخراً من قبل السلطات" و أضاف قائلا "عرمان ومناوي طرحا أمر المصالحة مع الإسلاميين من قبل. لكن أعتقد أن رئيس الوزراء يرى أن اللحظة السايكولوجية للمصالحة معهم لم تأت بعد، وأعتقد أن د. حمدوك مبرمج أمر مبادرته لتظهر على مراحل”. وأوضح حمد أن طرح المصالحة مع الإسلاميين ليس خطأ، بل أمر صحيح" هذا اجتهاد و رؤية مطروحة للحوار و النقاش، و من هذا الباب دخل الزيلعي و قدم رؤيته و هي مجال احترام و تقدير، و تحمد للرجل لأنه يريد تطوير عملية الحوار.
مقال الزيلعي يشير أن أولويات حمد مقلوبة لماذا؟ يبينها الزيلعي بقوله "عند اعلان النظام المباد لانتخابات 2020 كتب السر سيد أحمد مقالا داعيا للمشاركة فيها كخطوة أولى في برنامج ممرحل لاستعادة الديمقراطية. وكان النور من أكثر المتحمسين لذلك." و لا اعتقد هذه سبة لأن الكل كان يبحث عن التخلص من النظام الشمولي، و التاريخ يبين أن هناك معارك عديدة للتخلص من الديكتاتورية، منها منازلتها حتى في الانتخابات و ظهرت بصورة إيجابية عندما أقدمت معارضات الدخول مع النظام الديكتاتوري في تحدي في كل من " زمبابوي مع موقابي و أيضا في كينيا ضد موبوتو، و في ليبريا ضد صمويل دو" و من أهم خصائص المفكر البحث عن السبل التي يستطيع أن يستنهض فيها الشارع ضد الديكتاتورية. و هو ليس مطالب أن يتبنى رؤى الأحزاب خاصة إذا كانت الأحزاب نفسها تعاني من إشكالية غياب المفكر. و اجتهادات المفكر إذا تجاوزتها الأحداث لا تقلل من دوره و رؤيته.
ثم يتحول الزيلعي إلي طرح الأسئلة، و هي من الأساليب الحضارية لأنها تفتح بابا للحوار و الاجتهاد الفكري، يقول الزيلعي " لم يعرف لنا النور ما يقصده بالاسلاميين: هل أعضاء الحركة الإسلامية وكل التيارات التي خرجت منها، ولكنها تتفق معها في الرؤية الفكرية؟ هل خلال تحكم الاسلامويين على بلادنا، منذ يومهم الأول وحتى إزاحة البشير، التزموا باي حوار أو اتفاق أو معاهدة مع أي فئة أو جماعة؟ هنا الزيلعي يجعل صفة المفكر جانبا و يميل لثقافة الزملاء الوقع في شرنقة الأيديولوجيا، و يستدعى حادثة 1968م، رغم أن قوى الحرية و التغيير حلت " المؤتمر الوطني" و أصبح الحديث لا يشمله، و هناك اتفاق سوداني عام محاسبة كل الذين أرتكبوا جرما أو انتهاكات للحقوق و الذين افسدوا و الذين استغلوا وظائفهم للمنافع الخاصة أو الحزبية، هؤلاء يجب أن يقدموا إلي محاكمات عادلة كما جاء في الوثيقة الدستورية. لكن مشكلة الزملاء خلط الأوراق و يبريدون ضربة لازب فرض العزل على كل الإسلاميين و محاصرتهم و منعهم من العمل السياسي. عو ن القضية الأخرى عدم إفاء قيادات الإنقاذ بالاتفاقات و المعاهدات التي يبرموها مع القوى الأخرى، و هذا يرجع لطبيعة النظام الإنقاذي الشمولي؛ إقصاء الأخرين لأنهم لا يؤمنون بالأخر. لكن السؤال هل الثورة تريد أن تمارس ذات الأفعال التي كانت تمارسها الإنقاذ انتقاما منهم، أم أن الثورة جاءت من أجل أن تحارب تلك الأفعال. و تقدم قيمها التي تؤسس بها الدولة الديمقراطية؟ لكن من خلال كتابات العديد من اليساريين و المتشبهين بهم يريدون ممارسة ذات أفعال الإنقاذ تحت رايات الثورة. فالديمقراطية لا يمكن أن ترسخ في مجتمع كل حولاته ثقافة شمولية حتى عند النخبة التي يقع عليها عبء التغيير.
يعرج الزيلعي لعملية المحاسبة بقوله "لقد قامت ثورة ديسمبر لإبعاد الاسلامويين من السلطة. ولإيقاف تخريبهم لكافة مناحي الحياة في بلادنا، واسترجاع ما أخذوه بالباطل، ولتفكيك منظماتهم العسكرية والأمنية والاقتصادية تماما. ثم نمضي في طريق إقامة ديمقراطية مستدامة، لا يملك فيها أي تنظيم حق استغلال الدين في العمل السياسي." هذا صحيح تم إبعادهم من السلطة لأنها فشلت، و لأنها تعدت علي الحريات و مارست الحجر. هل قدمتوا هؤلاء لمحاكمة و اعترض الناس؟ لم يحصل؛ كل الذي يحصل الآن تجريد القلة من ممتلكات و بعض المال دون محاكمة، و هي تضرب أهم شعار للثورة العدالة. و رغم أن الزيلعي انتقد الدكتور النور حمد لكنه لم يوضح كيف يريد أن يحقق الديمقراطية المستدامة؟ و بأي الأدوات هل بممارسة الأجهزة القمعية التي كانت قد مارستها الإنقاذ ضد الآخرين؟ يقف الزيلعي في منتصف الطريق، و يتحدث فقط عن الإدانة و رفع ريات العزل و الإقصاء، دون أن يلج بالحديث لكيفية تحقيق الاستقرار السياسي و الاجتماعي و الشروع في عملية التنمية و التحول الديمقراطي في البلاد. أن ألاشعور مسيطر على تفكير الزملاء سيطرة كاملة يمنعهم عن التفكير خارج صندوق التاريخ. إذا البلاد لم تخرج عن دائرة الصراع الأيديولوجي لا تنعم بالاستقرار و لا تستطيع أن تحقق عملية التحول الديمقراطي.
يقول الزيلعي " أن التحدي الأساسي والأهم، الذي يواجه كل الأكاديميين والمثقفين والنشطاء السياسيين وكوادر الخدمة المدنية والعسكرية في بلادنا، هو ان تنجح تجربة الانتقال الحالية، لإنها المرة الرابعة والأخيرة، وإذا فشلت، لن يكون بعدها السودان كما نعرفه حاليا. فهلا ارتقي ذلك الجمع المتميز لقبول التحدي" السؤال أيضا كيف يتم ذلك؟ أن واحدة من إشكالية النخب التي تؤسس بنيانها المعرفي على الأيديولوجية لا تستطيع أن تتحرر من قيودها و لا من حمولاتها الثقافية، أن تأسيس الديمقراطية لا يتم إلا بشروط الديمقراطية، و معلوم من صفة المفكر أن يتجاوز الشعارات المرحلية لأنها نتاج عن حاجة مؤقته إلي سبر عمق المشكل من خلال وسائل المعرفة و إعمال الفكر. و أنني أصريت للتعليق على مقالك لأنه يضمن الدعوة للحوار رغم أختلاف الرؤية مع الدكتور النور حمد و هي ميزة الذين يشتغلون بأعمال الذهن. لك و للدكتور النور حمد التقدير و التجلة. فالساحة تحتاج لاجتهاديكما. و اعتبرهذا المقال أيضا مساهمة لفتح باب الحوار. خاصة أن الحوار هو الذي يرسي قواعد الثقافة الديمقراطية و الوعي المجتمعي. نسأل الله لكم و لنا حسن البصيرة.
zainsalih@hotmail.com