السقوط (نعوذ بالله منه)
د. عبدالمنعم عبدالمحمود العربي
6 November, 2021
6 November, 2021
نشر في سودانيل يوم 25 - 12 - 2018
بعث لى شخص رسالة توضح بالتسلسل العشرة الأوائل لأقوى جيوش الدول العربية , وحسب الترتيب فقد حاذ جيش مصر (الإفريقية العربية )على قصبة السبق ( قوة،عددا وعتاداً) , تعجبت لماذا كل هذا التسلح بالراجمات والطائرات والدبابات التى ينتهي عمرها الإفتراضي قبل سداد فاتورة ثمنها، ثم لماذا هدر كل تلك الأموال الغالية التي تحتاجها تلك الدول للتنمية الريفية وترقية المجتمع بتوفير التعليم والصحة والزراعة والصناعة وتوفير شبكة متكاملة من وسائل المواصلات بجميع أنواعها وبنية تحتية متينة بدلاً من استخدام هذه الأسلحة الفتاكة لقتل إخوانهم من ابناء أوطانهم أو جيرانهم. للفخر وللأسف فى نفس الوقت كان السودان من ضمن العشر الأوائل فوزاً فى تفوق قوة سلاح البطش والدمار. لكن السؤال من هو ياتري ذلك العدو الذى تخشى منه تلك الدول وتستعد لمقارعته؟
فى السودان حكم عسكري ظل لمدة ثلاثين سنة متتالية يعزز قبضته الحديدية بقوة السلاح و هذا يعني هدر كل أمول وممتلكات الدولة فى التصنيع الحربي وتمكين الحزب الواحد ضد إرادة الشعوب لكي تتحقق له الإستمرارية والبقاء فى الحكم. لهذا جل أهل السودان صاروا يخشون من بطشة النظام الذى لا يجامل من يخالفه الرأي الآخر فنتجت من ذلك شريحة من أبناء السودان بروفيسورات ودكاترة يخدمون ويناصرون بقوة هذا النظام رغم قناعتهم الداخلية فى أعماقهم أنهم إما منتفعين أو مأمورين خائفين على أنفسهم وعلى مصالحهم سواءاً كانت تجارية أو زراعية أو أكاديمية . لهذا كثر النفاق وانعدمت المصداقية ونتيجة ذلك فشل النظام فى استقطاب المستثمر الجاد بل صار السودان مرتع المرتشين والمستهبلين من شركات أعمال وعقودات إستثمارية لا أنزل الله بها من سلطان وقد تكون وهمية فى بلاد هى قارات كالصين وروسيا وغيرها حتى من دول الخليج المجاورة. كثر كذلك النبت الشيطاني من أثرياء يعجب الدهر من أمرهم وأفعالهم
"السَقَطْ" أول كلمة عرفتها طفولتنا عند حلول فصل الشتاء وتعني البرد. وعند السودانيين فى شمال البلاد الماء الساقط يعني الماء البارد. ثم من بعد توسعت المدارك رويداً رويداً فعرفنا أن مشتقاتها تتعدد "من فعل وصفة وتحمل معاني عديدة" . مثلاً "سقط لقط" تعني عند السودانيين الجهة أو البلد المجهول. وبعد دخولنا المدرسة الأولية كان السقوط فى إمتحان المدارس يعني الرسوب والفشل. وسقط فى اللغة يعني الوقوع من أعلا إلى ما هو أدني. والسقوط كلمة ذميمة وغير محببة لأنها فى مجال آخر إجتماعي تعني سقوط الأخلاق والذمم والسلوك الحسن أي تدني تلك القيم في شخص ما أو مجتمع ما كما تعني سياسياً أمراً جللاً. لهذا إذا نعت المرء بكلمة ساقط فإنه سيثور لأنها تعتبر إهانة شديدة فى حقه.
سياسياً وفعلياً يعتبر أي حكم أو أي نظام أو حزب شمولي ساقطاً إذا فشل عند خوضه الإنتخابات أو إن كان فعلياً قد فشل بعد فوزه فى إدارة حكم بلد ما أو الوفاء بوعوده أو بالنهوض بمتطلبات التنمية الإقتصادية والبشرية الراشدة فى إطار ديموقراطي شفيف وحرية تكفل حق المواطن فى التنقل والتعبير وأن للمواطن كينونة وأنه حر طليق لا يتحكم فيه دستور إستعباد وإسترقاق بوجه جديد.
وكما كتب غيري من آلاف المهتمين بأمور السودان خلال أشهر مضت كنت قد كتبت فى فبراير مقالاً (تحليلا علمياً وليس سياسيا )على سودانايل يثبت حسب إعتقادي العنوان: إنتهاء صلاحية حكم الإنقاذ The expiary date of Alinghaz ( لا يزال موجوداً على الإرشيف). واليوم توليت though, it is too late يخرج الشارع السوداني وليدفع الثمن دماً غالياً وهو يقولها صريحة مدوية فى الجوامع وشوارع وأرجاء كل مدن وقرى السودان "يسقط النظام"؛ يريدون التغيير. هل يا ترى سيسقط جنود النظام المأمورين أسلحتهم أرضاً بدلاً من تصويبها على رؤوس الشباب جيل مستقبل السودان أم سيقتلونهم من أجل نظام قد سقط بالفعل سقوطاً لا أمل يرجى فيه ( صفراً على صفر) طيلة ثلاثين سنة؟. من أجل من يقتل الشباب العذل ؟ على كل حامل سلاح أن يراجع نفسه ويجيب على هذا السؤال لأن النظام قد سقط بالفعل فى كل المجالات وبلغة الطب ( فشل كل أعضاء جسمه multi organ failure) . عليه الأشرف للنظام أن يسلم الأمور للشباب الثائر وإنني على يقين أنهم سينقذون البلاد لكن بعد حين يحتاج إلى صبر إصلاح جذرى رحم الله الشهداء . إنا لله وإنا أليه راجعون
إنتهي المقال أعلاه
تعليق اليوم السبت 06/11/2021 :
فى لقاء تليفزيوني سابق على قناة النيل الأزرق مع الأستاذ الشاعر محي الدين الفاتح ، حفظه الله ، سألته المحاورة " مقاطعة تسلسل الحديث المشوق" إن كان عنده توجه سياسي ؟ فأجاب بالنفي لكن قال " هذا لا يمنع أن يكون لي رأي لأن السياسة دخلت البيوت غصباً عن أهلها". ووجوب الرأي وتوفر حرية إعلانه هو من أصل أسس الديموقراطية. وشخصي الضعيف من خريجي مدرسة الأستاذ محي الدين الفاتح "لا للتبعية العمياء" . لذلك أقول كما ورد فى أسطر المقال أعلاه فقد سقطت بالفعل الإنقاذ بعد عمر الثلاثين بنجاح ثورة ديسمبر التى كانت مولوداً جديداً فرح به المواطنون الأغلبية العظمى منهم .
أما الأحداث المتتابعة يومنا هذا التي يعيشها السودان خاصة خلال السنتين الماضيتين وكذلك منذ اكتوبر 2021 وحتى اليوم تدل تداعياتها على أن التاريخ بالفعل يعيد الآن نفسه و بكل أسف وحزن شديد ما هو واقعياً إلا جرجرة جداً عقيمة لعجلات "كارلو" تقدم السودان إلى الوراء. فخروج المواكب الملياردية المناهضة للإنقلاب العسكري الحالي هو أكبر دليل على انه "إستفتاء شعبي وجماهيري كافي" وتصويت مباشر كتابه مفتوحا ً لكل العالم، رافضا ًبقوة ودليلاً يحكم على عدم شرعية إنقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر 2021. أيضا ً هذا الإنقلاب يقول فيه حكماء العالم والمعلقون والسياسيون إنه قد سقط أثناء الولادة وأيضا ً لقد سقط قائده فى الإمتحان ( كانت عنده الفرصة التاريخية ليكون رمزاً سودانياً يذكر على مدى التاريخ مثل المرحوم سوار الذهب لو بالفعل تجرد من كل الأطماع الدنيوية وعمل من أجل تلك الديمقراطية الوليدة والإلتزام بالمواثيق التي منحتها له ثورة ديسمبر ) . أما الخسارة الكبرى فى حياة أي إنسان هي أن يسقط فى أداء عمله أو فى نظر مواطنيه ونظر العالم كله. من الحكم المفيدة التي يجدر ذكرها وهي من أقوال المشير معاش السيد عمر البشير ، و كثيرا ما كان يرددها " الرجل بيمسكوه من لسانه". هو فى الواقع مثل سوداني بحت جميل يلفت النظر إلي التمسك بركن هام من أركان مكارم الأخلاق "أي الصدق فى القول والعمل" . فى بيان الإثنين الماضي من ضمن القرارات جاء " حل مجلس السيادة وإعفاء أعضائه"، لكن لم تطبق تلك المادة على رئيس المجلس وعلى نائبه والإثنان بقيا بمكاتبهما فى القصر الجمهوري. وأن لم يقل أنا رئيسكم الأعلى من اليوم لكن الأفعال كلها صارت تدل على انه توج نفسه حاكماً جديدا على السودان. وهذا للأسف الذي حدث عكس رغبة تسعين في المائة من سكان السودان ( الشارع قال كلمته رغم أنف القليل الذي أيده)
إلى الشباب الثوار قول المتتبي؛
لا يخدعنك من عدو دمعه
وارحم شبابك من عدو ترحم
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على شواطئه الدم
أما النصيحة لهم من القلب:
(1) طلب العلم والتعلم و الإجتهاد واجب وفرض عين من المهد إلى اللحد فهو نعم السلاح لأن بالعلم والعزيمة والتخطيط والتفكير السليم والصبر تبنى الأمم وتبنى الأوطان. وإن كان توفيره واجب الدولة والحاكم الجاد، لكن عليكم انتم الإجتهاد وتحصيله ( جيلنا ذاكر دروسه على نور الفانوس ومنهم من كان ترحالهم للمدارس على الحمير أو أرجلهم )
(2) حافظوا على الوطن وحدوده ونظافته وخيراته وتاريخه ( هو ابوكم وأمكم) وكونوا عيونه الساهرة ضد أي تدخل أو تلصص أجنبي. حاربوا بقوة العنصرية والجهوية والنعرات القبلية والعادات والتقاليد القبيحة الهدامة والمخدرات ومصادرها. إحترموا رموزه من شرطة وجيش مهني مستقل وعمال وزراع وتجار واطباء ومهندسين ووعاظ ومعلمين واساتذة جامعات . إياكم والتطرف الأعمى والتهور أو التبعية "الغبيانة أو العمياء "، تعقلوا وتواسطوا فخير الأمور الوسط
(3) لا تنسوا الإدلاء باصواتكم فى أي إنتخابات تأتي إن كنتم تريدون إعلاء كلمة الحق وتطبيق الديموقراطية . رتبوا تجمعاتكم و لتتكون منها الآن وعلى السرعة أحزاب شبابية جديدة هادفة تنافس أحزاب التبعية والوراثة الهالكة وأن تراعوا فيها بناء دساتير هادفة ، وطنية متينة وخلاقة وحضارية ، تحافظ علي الأرض "أمنها وحدودها وخيراتها" وتحافظ على تسامح اخلاقنا وموروثاتنا الجميلة الراقية (. Our religious backgrounds، practices and family values ) و كل ما فيه مصلحة دنيانا وأخرانا، وكذلك كل ما يفيد الإنسانية جمعاء والوطن خاصةً
(4)حافظوا على المتوفر من بنية مدنكم التحتية رغم قلتها وضعفها، طوفوا على الأحياء والأقاليم وعرب البادية لتتعرفوا أكثر على وطنكم وجماله وخيراته وشعوبه وليعرف الناس أفكاركم ، تقدمون لهم المساعدة الممكنة ولتنشروا الوعي والتثقيف بينهم ( الأميين خاصة) ليكونوا مواطنين صالحين ومتماسكين لا متنابذين ومتفرقين ، والله أعلم بالنيات والقصد.
للأسف أختم بأن التاريخ الأسود هكذا يعيد اليوم نفسه ليفرضها بالقوة . عموماً وبكل الوضوح والمعايير المتاحة من إستقراءات فإن الأجراس تنذر بان حاضر الوطن ومستقبله "هكذا إن استمر" سيكون مصيره " very poor prognosis “ ويا دنيا عليك السلام لأن وطناً إسمه السودان سيتشرزم شوية شوية ثم يختفي كلية من خارطة العالم. يارب نسألك اللطف بالسودان كله وبمواطنيه الكرام الكرماء .
الشكر هنا ايضاً لأخي وزميلي الحكيم دكتور عبدالمنعم عبدالباقي ( كبير إستشاري الأمراض النفسية بنيوكاسل) الذي يعيد لنا نشر مقالات له سابقة مفيدة، كلها حكم ونصائح وكأنه كان يقرأ آنذاك حال البلد ومستقبله بعيون زرقاء اليمامة
drabdelmoneim@gmail.com