السودان الدولة الهاملة!!
عبدالله مكاوي
12 July, 2023
12 July, 2023
بسم الله الرحمن الرحيم
abdullahaliabdullah1424@gmail.com
مدخل
في السودان الهامل، كلما انفرجت نافذة امل، اطلت علي الخراب. وكلما اينعت زهرة عاجلها الموات.
ظننا وبعض الظن سذاجة، ان منبر ادس ابابا، سيكون بداية جادة لحل احجية المعضلة السودانية، التي تحولت الي حرب عدمية ومأساة انسانية ودمار للبنية التحتية، علي ايدي جنرالات جهلاء وجبناء يفتقدون للوعي والمروءة.
ومبعث الظن ان الولايات المتحدة وبما تمتلكه من مقدرات ونفوذ وتاثير، وبعد فشل منبر جدة. توقعنا ان تنخرط في الترتيب لمبادرة جادة، تتشاور فيها مع اطراف الازمة من جهة، والقوي الداخلية والاقليمية من جهة. ومن ثمَّ تضع الخطوط العريضة التي تفضي لايقاف الحرب، والشروع في عملية سياسية تستفيد من اخطاء الفترة الماضية. اي ان يتحول المنبر الي مجرد اخراج لاتفاق متكامل، وليس مجرد تظاهرة اعلامية وتكرار لذات الوجوه والمشاريع الفاشلة. ودونما ادني حساسية لعامل الزمن وكارثية الحرب التي تجري بين جيش ومليشيا بكامل اسلحتهما وعنفهما، وسط مناطق آهلة بالسكان. وكأنما المجتمع الدولي في انتظار رواندا او بوسنة جديدة، حتي يستقيظ ضميره ويتحرك بالسرعة والجدية المطلوبة. والمعلوم ان الجنرالات بقدر استقواءهم علي العزل، بقدر خوفهم من الاقوياء، مما يسهل مهمة الضغوطات الخارجية متي ما كانت حقيقية.
اما في جانب القوي المدنية فقد توقعنا من قوي الحرية والتغيير وغيرها من المكونات المدنية (رغم صعوبة الحركة والتواصل وتسميم الحرب للنفوس والبيئة السياسية). ان تستفيد من سلبيات ما قبل الحرب، وتتداعي لبناء تحالف عريض لا يعمل من اجل ايقاف الحرب فحسب، وانما امتلاك مشروع سياسي قابل للتطبيق علي الارض، وقادر علي استقطاب دعم القوي الدولية، وقبل ذلك يسحب شرعية الحرب المدعاة من الطرفين.
وبدل عن كل ذلك، تفاجأنا بان لمصر منبر موازٍ لدول الجوار، لحل ذات المعضلة! وهو ما يفرض السؤال، اذا فشل منبر ادس في توحيد المبادرات و حصر الاجندة، هل يقوي علي حل المعضلة؟ وهو ما يقود للتساؤل حول ماذا كانت تفعل امريكا والسعودية طوال الفترة الماضية بعد فشل منبر جدة، ان لم تتواصل مع دول الجوار والدول الاقليمية المؤثرة علي الطرفين المتقاتلين؟! والحال كذلك، يبدو ان منبر ادس يحتاج لمنبر آخر لاقالة عثرته وهو لم يبلغ الفطام بعد. وهذا ان دل علي شئ فهو يدل علي قلة الاكتراث وانعدام الجدية، وترك المواطنين السودانيين يواجهون مصيرهم القاتم، رغم الجعجعة والتصريحات والتهديدات الفشنك من جانب الولايات المتحدة. وهي للاسف نفس اعلانات مناصرة الثورة بالكلام فقط، وهي بالطبع لم تسمن وتغني من جوع.
ولكن ما يجعل الماساة اقرب للمسخرة والتآمر القذر، انه في الفترة التي ينعقد فيها المنبر، سافر احد عيال دقلو الي تشاد، للقاء قادة الحركات المسلحة! وقبلها قدمت الامارات دعم ومساعدات مليارية وزيارات استخباراتية لتشاد، لاتخاذها مركز تمويل وتشوين للدعم السريع كما ورد في الاخبار. وهو ما يعني زيادة اوار الحرب وتدمير ما لم يتم تدميره وقتل من لم يتم قتله، وكأن كل هذا الدمار والقتل لا يكفي وهم يبحثون عن المزيد.
وهو ذات التوقيت الذي يتصاعد فيه خطاب الاسلامويين التحريضي، الذي يتماهي مع طموحات جنرالات الجيش في تسعيِّر الحرب لحسمها سريعا، حتي يتم القضاء علي الدعم السريع عن بكرة ابيه. وكأن ذلك متاح رغم مرور ثلاثة اشهر من الفشل والخراب والقتل والانتهاكات بكافة انواعها، وعدم وجود بوادر لانتصار الجيش، ومع سيطرة الدعم السريع علي الارض فعليا في العاصمة حيث مركز السلطة والدولة. وللاسف نحن نجهل المقصود بالحسم، الذي يعقب خطأ استراتيجي قاتل ومهدد للامن القومي، من نوعية تكوين مليشيا موازية للجيش وبذات الامكانات العسكرية والقدرات الاقتصادية والعلاقات الخارجية. إلا اذا كان المقصود بالحسم تهديم الدولة علي راس ساكنيها! وهو ما ينطبق علي مزاعم مليشيا الدعم السريع، التي استسهلت السيطرة علي السلطة، بكلفة انقلاب عسكري دموي، علي جيش ظل مسيطر علي البلاد منذ الاستقلال.
اي الكيزان والجيش يصنعون الدعم السريع لمحاربة الشعب والدفاع عن مصالحهم، وعندما يختلفان وتتعارض مصالحهما، يصران ان يدفع ذات الشعب المقموع الثمن مرتين. وهما يُزيدان مرة بالوطنية واخري بالديمقراطية. بل وبكل قوة عين يعيرون الآخرين مرة بالخيانة ومرة بالكوزنة!
اما ما يدعو للدهشة الممزوجة بالحسرة، ان ما يجري من اهتمام وحرص مزعوم لوقف الحرب ومعالجة المعضلة السودانية، يعاني من ذات الاعراض التي قادت للاستقطاب الحاد، الذي ادي بدوره للحرب. والحال كذلك، كأن منبر ادس يعبر عن قوي الاتفاق الاطاري، لترد عليه مصر بمنبر يعبر عن قوي الانقلاب. وكأن الحرب بعنفها وتصاعد وتيرتها واستمرارها وكلفتها الباهظة لا تعني شيئا. او هي مجرد اعلان عن مدي همجية وبربرية وبدائية مليشيا الدعم السريع، التي اثبتت انها اكثر تفاهة وحقد واستعداد للتخريب والنهب والاستباحة، بما يفوق حدود كل تصور. وبقاء الجيش معتصم بمقراته، والاصح بعضها، وكأنه قنع من الغنيمة بالاحتفاظ بهما!
اما قصة ان مليشيا الدعم السريع تخوض الحرب دفاعا عن الثورة والديمقراطية والانتخابات والهامش وغيرها من الاكاذيب والخطرفات، التي يستند عليها ما يسمي مستشارون وكتاب ومناصرون للدعم السريع، الذين تكاثروا كالفطريات بعد الحرب، فهي لا تعدو كونها ابتذال وتهافت، تكشف قبل كل شئ حقيقة هؤلاء المرتزقة الجدد او (النخب الارتزاقية). التي وجدت في ميلشيا الدعم السريع بتكوينها القبلي، الملجأ والمقر للتنفيس عن عقدها واحقادها وعنصريتها، ومداعبة طموحاتها السلطوية والمالية. ولو كان الثمن التغاضي عن انتهاكات الدعم السريع التي يندي لها الجبين، وتدميرها للبني التحتية واحتلالها للمرافق المدنية ومنازل المواطنين ونهب ممتلكاتهم، وتشريد اهل العاصمة ودارفور وكردفان (واين ما حلت حل الخراب والنهب والانتهاكات؟). وكل ذلك بحجة التصدي للكيزان، الذين صنعوهم وشاركوهم الجرائم والامتيازات، حتي وصولهم مرحلة الصراع علي السلطة بين الجنرالين المجرمين (الشركاء الاعداء)، وهو ما فجر الحرب.
والسؤال هل هؤلاء المدافعون عن مليشيا الدعم السريع، لا يعلمون حقيقة هذه المليشيات، والتي بحكم تكوينها وقيادتها وممارستها، ليست اكثر من منظومة متخلفة وهمجية، واداة ارهاب للمجتمع ونهب لموارد البلاد، ووكيل لمصالح رعاتها في الخارج؟ اي باختصار مليشيا الدعم السريع بوصفها حالة بدائية موغلة في الرجعية هي حرب علي الحضارة والانسانية. والمقصود الحضارة كقيم واعراف وترقية سلوك وممارسات متمدنة، وليست مبان وتجهيزات عسكرية حديثة. ومن هنا نجد الرابط بين مليشيا الدعم السريع والامارات والحركة الاسلاموية والعصبية الصهيونية. وهي لسوء الحظ اجتمعت كلها في ارض النيلين الخصبة الطاهرة، لتحيل خيراتها لاسلحة دمار، ومواطنيها لفقراء، وحضارتها لاطلال، وفرصها في الحياة لكابوس.
والحال ان الذين يدَّعون البراءة والسذاجة ويحاولون كتابة التاريخ (تزويره) من يوم 15ابريل، ان الفرصة اتيحت لمليشيا الدعم السريع للوقوف مع الثورة، لغسل عار جرائمها في دارفور، ولكنها شاركت في المؤامرة علي الثورة مع شريكها في المكون العسكري، بدايةٍ من المماطلة في تسليم السلطة وفض الاعتصام بوحشية تليق بسلوكياتها، مرورا بالمشاركة القسرية في الحكم، وانتهاءً بالانقلاب علي الفترة الانتقالية في 25 اكتوبر، وطوال الفترة الممتدة من ازاحة البشير حتي الحرب اللعينة الدائرة الآن، لم تتوقف انتهاكات مليشيا الدعم السريع وشريكه في المكون العسكري ضد الثوار لترتفع حصيلة الشهداء فوق 125 شهيد والجرحي بالآلاف، ناهيك من توفي تحت التعذيب في معتقلات الدعم السريع. وكل هذا دون الحديث عن نهب الذهب وافساد الولاءات السياسية بشرئها (الادارات الاهلية) والمَنْ علي السودانيين بالتبرعات، وتوثيق الصلات المشبوهة مع الامارات واسرائيل! اي مليشيا الدعم السريع هي في التحليل النهائي سرطان اصاب جسد البلاد ويقودها للموات. وصحيح ان اي مرض يحتاج للعلاج للحفاظ علي كيان الجسد/البلاد، ولكن المؤكد ان من الحماقة بمكان، دمار البلاد وقتل اهلها للتخلص من المرض المميت. كما لا يمكن استبدال سرطان الدعم السريع بسرطان العسكر والاسلامويين. الشئ الذي يجعل من هذه الحرب، هي حرب علي الشعب والبلاد، قبل ان تكون حرب جنرالين مزيفين من اجل السلطة، وتاليا لن يستفيد منها إلا تجارها.
كما لا يمكن قبول سردية الدولة المركزية ودولة 56 وغيرها من السرديات النخبوية الزائفة، التي تعكس مدي التدهور الذي اصاب الوعي ونوعية النخبة التي تتصدر المشهد. لانه لو صح ذلك، لا يمكن توقع ان هدم وتخريب ونهب ما هو قائم، وتشريد المواطنين بخبراتهم ومعارفهم وقيمهم والتحريض عليهم، هو عملية بناء او مقدمة لنهضة. ولكنه يعبر عن قيم البداوة التي تتخفي وراء الدرجات العلمية والفصاحة السياسية واللغات الاجنبية والبدلات الافرنجية، ولكنها كالعادة تحتاج لفائض السلاح ليسند وجهة نظرها ويفرض منطقها بالقوة العارية! اي بصراحة هذه قيم هدم وليس بناء، لان البناء لو صح هو المقصود، فانه يقوم علي الخطط الاستراتيجية والمشاريع القومية، التي تستصحب الميزات التفضلية لكل منطقة، وتقاسم المنافع والتعايش والاحترام المتبادل والحوار الحر والصراع السلمي لتداول السلطة، وتفهم الاوضاع التاريخية في زمانها ومعالجة كل الترسبات والاخطاء الماضية، بمزيد من الحوار والتفاوض (احد انعكاسات التحضر). اي التطلع للمستقبل بافق مفتوح ومتسامح. والسؤال لو المسالة مسألة موارد وتقسيمها، فما أُتيح للدعم السريع من موارد ولقائدها من فرص، لكان كفيل ببناء السودان ككل وليس دارفور وحدها، ولكن الفارق ان القيم البدائية للدعم السريع كالقيم الاسلاموية للكيزان، هي في اصلها قيم حربية، وتاليا تنزع للنهب وحيازة الغنائم. اي تصادر ما هو قائم فوق الارض وموجود تحتها، وليس لها تصور للعمران او متسع من الصبر والوعي والحساسية المجتمعية، حتي تنصرف للتنمية او خدمة المواطنين او بناء الدول. وهو ذات السبب الذي يجعل مسالة السلطة بالنسبة لها قضية مركزية، لانها تؤمن بالتراتبية، او بتعبير آخر الحياة بالنسبة لها قائمة علي القوة والسيطرة والسطوة وليس المشاركة والمساواة والحرية. والحال كذلك، يصبح الحديث عن الديمقراطية نفاق ليس إلا. لكل ذلك اكبر خدمة يقدمها هؤلاء المستشارون لقائد الدعم السريع، لو صح انه يستجيب لاستشارتهم (وهو امر غير متوقع بحكم تركيبته)، وقبلها لانفسهم حتي لا يشاركون الكيزان ذات الجرائم والصفات التي يتبرأ منها الاسوياء. هو الدعوة لايقاف الحرب، والاعتراف بالجرائم والانتهاكات، ومحاسبة الجناة، وارجاع المنهوبات، وتوظيف ما تبقي من موارد الدعم السريع في تنمية دارفور (الاستثمار فيها اولي من اثيوبيا وكينيا وغينيا)، وحل هذه المليشيات، والاعتذار عن مواقفهم السابقة، ومن ثم الانخراط مع الآخرين في مشاريع سياسية من ارضية مدنية وليست عسكرية.
اما جيشنا الهمام، فقد كشفت هذه الحرب مدي ضعفه، وعدم جاهزيته للحرب، وقبل ذلك الاستهتار بامانة الامن القومي بعد ان سمح لمليشيا الدعم السريع بتقاسم القوة والسيطرة والنفوذ. وذلك غالبا يعود لثلاثة اسباب، اولها انخراطه في الانقلابات العسكرية وسيطرته علي السلطة بامتيازاتها المهولة، الشئ الذي اضعف الروح العسكرية والاحترافية المهنية. ثانيها، خضوعه لتحكم القائد الانقلابي، ومن ثمَّ تحوله الي اداة في يد الطغاة للبقاء في السلطة. ثالثها، قابليته للاختراق من قبل القوي السياسية المؤدلجة التي بدورها تحرفه عن وظيفته، وتخصصها لمصلحتها. وكل ذلك كرس لعقيدة وصائية تركت اثرها علي دوره في الدولة وتاثيره في المجتمع. وكان من اكبر كوارثها استدامة الاستبداد وملازمته للفساد، الشئ الذي ادي لتعطيل المسار الديمقراطي، وتخريب الحياة السياسية والخدمة المدنية والانشطة الاقتصادية والتنموية، والتردي في كافة اوجه الحياة، بعد ان صادرها بتغوله علي الفضاء المدني، وفي المجمل اعاقة بناء الدولة حديثة. وهذا ناهيك عن عسكرة السلطة التي افرزت حركات مسلحة مناوئة له، وقد عملا بصورة مشتركة علي تدمير البيئات المحلية والبنية التحتية، وتفكيك النسيج الاجتماعي واشاعة الاحقاد والعنصرية والمناطقية. وما زاد الطين بلة ان الدولة معظم تاريخها تمت ادارتها بطريقة فردية اعتباطية، تحاكي ضحالة خيال وامكانات قادتها من نوعية النميري والبشير والبرهان. والحال كذلك، هل يمكن الاستغراب ان يتطلع حميدتي ومناوي وهجو وترك وكل من هب ودب لقيادة الدولة الهاملة؟!
المهم الجيش بدل الاعتراف بالاخطاء والاعتذار عنها والتوبة عن التورط في السلطة من غير وجه حق ومن دون مؤهلات، ومن ثمَّ السعي لايقاف الحرب مع مليشيا الدعم السريع، والدخول معه في تفاوض جاد وصادق يحافظ علي كيان الدولة وحياة المواطنين. وهو تفاوض يقف علي راس اجندته ضرورة الخروج من الحياة السياسية والاقتصادية، والالتفات لتكوين جيش احترافي، يستفيد من الاخطاء، الماضية التي اوصلتنا لهذه الحرب التي تهدد بقاء الدولة. نجده ينخرط كما سلف، في ذات سردية الكيزان المتماهية مع اطماع الجنرالات، بتخوين السياسيين واعتقال النشطاء المعارضين للحرب، والتحريض علي مواصلة الحرب، بوهم هزيمة الدعم السريع والتخلص من كابوسه للابد. وذلك للاستفراد مرة اخري بالسلطة ولاستباحة ما تبقي من موارد الدولة، ومصادرة حريات وحقوق بقية المواطنين. وكأن لسان حال الكيزان وكبار الجنرالات الذين لا ينسون ولا يتعلمون (يا فيها يا نطفيها). والحال كذلك، الجيش المؤدلج قدوة لمليشيا الدعم السريع، التي اقتفت اثره وحاكت دوره وانشطته، ولو انها اقل مؤسسية (عائلية) وتفتقر للانضباط والتقيد باخلاقيات الحروب. واحتمال هذا ما يفسر ان الحرب بينهما عدمية، تستهدف استئصال الآخر، وهذا بدوره ما يُصعِّب وقف الحرب من جانب، وصعوبة الوصول لنقاط وسط اذا ما تم تفاوض بينهما، من جانب.
والحال ان ما يجب التاكيد عليه، هو وقوع الشعب رهينة لاسوأ الحروب، بين اسوأ الجنرالات والمؤسسات وفي اسوأ الظروف الاقليمية (المتآمرة) والدولية (المتباطئة). وفي مثل هكذا اوضاع بالغة السوء، وتدعو المواطنين للفرار من اجل النجاة، ناهيك ان تتوافر مساحة للتفكير او فرصة المحاولة لمعالجة كارثة الحرب وتداعياتها. يبدو ألا حيلة لنا إلا الاسترشاد بصمود الثوار وبصيرة شعاراتهم التي تشكل مشروع رافعة سياسية يلتف حولها المدنيون، بعد تخليصها من العاطفة الثورية بطموحاتها الجامحة، ومساومة السياسيين وتسليمهم للعسكر. وهو ما يعني تنزيل الشعارات في شكل برامج واقعية تتلاءم مع التطورات الجارية علي الارض. وعلي راس ذلك ايقاف الحرب، حتي يتسع هامش السياسة للحركة وطرح التصورات والبدائل. او اقلاه تدارك ما يمكن تداركه بعد السقوط في قاع جديد ابعد مدي واشد ظلام من القاع السابق. ليثبت حقيقة هي بمثابة قانون داخلي حكم مسيرتنا السياسية، وهي ضياع الفرص الثورية في المماحكات والصراعات ومحاولة التكسب السياسي علي حساب الصالح العام. لا يضيع الفرص فحسب، ولكنه يصنع واقع آخر اسوأ من الواقع قبل الثورة، ويعقد المشاكل بصورة مضاعفة، ومن ثمَّ ينتج اوضاع جديدة لم تكن في الحسبان، لتحكم المشهد الجديد، من غير استعداد للتعامل معها. لنصبح رهينة دائرة مفرغة من مواقف مفارقة وطروحات متعنتة ورؤي متكلسة، في مقابل واقع متغير وقضايا مستجدة حتي تقع الكارثة. ومن ضمنها كارثة الحرب الاخيرة بكل خسائرها وتعقيداتها وتداعياتها غير المعلومة، وهو ما يستوجب طروحات (استراتيجيات) جديدة، وتعديل في الاولويات (ليس المطالب)، وقبل كل شئ الاعتراف بالواقع، والقدرة علي التعاطي معه مهما كانت مراراته. وبما في ذلك التسامي علي الجراح رغم فداحتها، وليس المسارعة لطرح المطالب القصوي (مثل العدالة) كاولوية. ومرة اخري يبدو اننا ايضا في حاجة للاسترشاد بنماذج مشابهة كرواندا وجنوب افريقيا. ولكن المشكلة تكمن في اين نجد الحكماء؟ واذا وجدناهم من يستمع لهم؟!
واخيرا
لا يمكن لشخص يقف وراء حميدتي المجرم او يتبع البرهان الكاذب، وبعد ذلك يزعم انه مستنير او اخلاقي او وطني او او او يحزنون، إلا اذا اكتسبت هذه المسميات مدلولات اخري، او يعاني حالة انفصام تجعله يخلط بين الانحرافات والمكاسب الذاتية وبين الاتساق والموضوعية.
وعموما ليس هنالك ادل علي هملة هذه البلاد وبؤس اهلها، من انها ظلت ولما يقارب نصف قرن، رهينة في البداية لتطلعات المنحرف الترابي، وفي النهاية لطموحات الجاهل حميدتي. ودمتم في رعاية الله.
abdullahaliabdullah1424@gmail.com
مدخل
في السودان الهامل، كلما انفرجت نافذة امل، اطلت علي الخراب. وكلما اينعت زهرة عاجلها الموات.
ظننا وبعض الظن سذاجة، ان منبر ادس ابابا، سيكون بداية جادة لحل احجية المعضلة السودانية، التي تحولت الي حرب عدمية ومأساة انسانية ودمار للبنية التحتية، علي ايدي جنرالات جهلاء وجبناء يفتقدون للوعي والمروءة.
ومبعث الظن ان الولايات المتحدة وبما تمتلكه من مقدرات ونفوذ وتاثير، وبعد فشل منبر جدة. توقعنا ان تنخرط في الترتيب لمبادرة جادة، تتشاور فيها مع اطراف الازمة من جهة، والقوي الداخلية والاقليمية من جهة. ومن ثمَّ تضع الخطوط العريضة التي تفضي لايقاف الحرب، والشروع في عملية سياسية تستفيد من اخطاء الفترة الماضية. اي ان يتحول المنبر الي مجرد اخراج لاتفاق متكامل، وليس مجرد تظاهرة اعلامية وتكرار لذات الوجوه والمشاريع الفاشلة. ودونما ادني حساسية لعامل الزمن وكارثية الحرب التي تجري بين جيش ومليشيا بكامل اسلحتهما وعنفهما، وسط مناطق آهلة بالسكان. وكأنما المجتمع الدولي في انتظار رواندا او بوسنة جديدة، حتي يستقيظ ضميره ويتحرك بالسرعة والجدية المطلوبة. والمعلوم ان الجنرالات بقدر استقواءهم علي العزل، بقدر خوفهم من الاقوياء، مما يسهل مهمة الضغوطات الخارجية متي ما كانت حقيقية.
اما في جانب القوي المدنية فقد توقعنا من قوي الحرية والتغيير وغيرها من المكونات المدنية (رغم صعوبة الحركة والتواصل وتسميم الحرب للنفوس والبيئة السياسية). ان تستفيد من سلبيات ما قبل الحرب، وتتداعي لبناء تحالف عريض لا يعمل من اجل ايقاف الحرب فحسب، وانما امتلاك مشروع سياسي قابل للتطبيق علي الارض، وقادر علي استقطاب دعم القوي الدولية، وقبل ذلك يسحب شرعية الحرب المدعاة من الطرفين.
وبدل عن كل ذلك، تفاجأنا بان لمصر منبر موازٍ لدول الجوار، لحل ذات المعضلة! وهو ما يفرض السؤال، اذا فشل منبر ادس في توحيد المبادرات و حصر الاجندة، هل يقوي علي حل المعضلة؟ وهو ما يقود للتساؤل حول ماذا كانت تفعل امريكا والسعودية طوال الفترة الماضية بعد فشل منبر جدة، ان لم تتواصل مع دول الجوار والدول الاقليمية المؤثرة علي الطرفين المتقاتلين؟! والحال كذلك، يبدو ان منبر ادس يحتاج لمنبر آخر لاقالة عثرته وهو لم يبلغ الفطام بعد. وهذا ان دل علي شئ فهو يدل علي قلة الاكتراث وانعدام الجدية، وترك المواطنين السودانيين يواجهون مصيرهم القاتم، رغم الجعجعة والتصريحات والتهديدات الفشنك من جانب الولايات المتحدة. وهي للاسف نفس اعلانات مناصرة الثورة بالكلام فقط، وهي بالطبع لم تسمن وتغني من جوع.
ولكن ما يجعل الماساة اقرب للمسخرة والتآمر القذر، انه في الفترة التي ينعقد فيها المنبر، سافر احد عيال دقلو الي تشاد، للقاء قادة الحركات المسلحة! وقبلها قدمت الامارات دعم ومساعدات مليارية وزيارات استخباراتية لتشاد، لاتخاذها مركز تمويل وتشوين للدعم السريع كما ورد في الاخبار. وهو ما يعني زيادة اوار الحرب وتدمير ما لم يتم تدميره وقتل من لم يتم قتله، وكأن كل هذا الدمار والقتل لا يكفي وهم يبحثون عن المزيد.
وهو ذات التوقيت الذي يتصاعد فيه خطاب الاسلامويين التحريضي، الذي يتماهي مع طموحات جنرالات الجيش في تسعيِّر الحرب لحسمها سريعا، حتي يتم القضاء علي الدعم السريع عن بكرة ابيه. وكأن ذلك متاح رغم مرور ثلاثة اشهر من الفشل والخراب والقتل والانتهاكات بكافة انواعها، وعدم وجود بوادر لانتصار الجيش، ومع سيطرة الدعم السريع علي الارض فعليا في العاصمة حيث مركز السلطة والدولة. وللاسف نحن نجهل المقصود بالحسم، الذي يعقب خطأ استراتيجي قاتل ومهدد للامن القومي، من نوعية تكوين مليشيا موازية للجيش وبذات الامكانات العسكرية والقدرات الاقتصادية والعلاقات الخارجية. إلا اذا كان المقصود بالحسم تهديم الدولة علي راس ساكنيها! وهو ما ينطبق علي مزاعم مليشيا الدعم السريع، التي استسهلت السيطرة علي السلطة، بكلفة انقلاب عسكري دموي، علي جيش ظل مسيطر علي البلاد منذ الاستقلال.
اي الكيزان والجيش يصنعون الدعم السريع لمحاربة الشعب والدفاع عن مصالحهم، وعندما يختلفان وتتعارض مصالحهما، يصران ان يدفع ذات الشعب المقموع الثمن مرتين. وهما يُزيدان مرة بالوطنية واخري بالديمقراطية. بل وبكل قوة عين يعيرون الآخرين مرة بالخيانة ومرة بالكوزنة!
اما ما يدعو للدهشة الممزوجة بالحسرة، ان ما يجري من اهتمام وحرص مزعوم لوقف الحرب ومعالجة المعضلة السودانية، يعاني من ذات الاعراض التي قادت للاستقطاب الحاد، الذي ادي بدوره للحرب. والحال كذلك، كأن منبر ادس يعبر عن قوي الاتفاق الاطاري، لترد عليه مصر بمنبر يعبر عن قوي الانقلاب. وكأن الحرب بعنفها وتصاعد وتيرتها واستمرارها وكلفتها الباهظة لا تعني شيئا. او هي مجرد اعلان عن مدي همجية وبربرية وبدائية مليشيا الدعم السريع، التي اثبتت انها اكثر تفاهة وحقد واستعداد للتخريب والنهب والاستباحة، بما يفوق حدود كل تصور. وبقاء الجيش معتصم بمقراته، والاصح بعضها، وكأنه قنع من الغنيمة بالاحتفاظ بهما!
اما قصة ان مليشيا الدعم السريع تخوض الحرب دفاعا عن الثورة والديمقراطية والانتخابات والهامش وغيرها من الاكاذيب والخطرفات، التي يستند عليها ما يسمي مستشارون وكتاب ومناصرون للدعم السريع، الذين تكاثروا كالفطريات بعد الحرب، فهي لا تعدو كونها ابتذال وتهافت، تكشف قبل كل شئ حقيقة هؤلاء المرتزقة الجدد او (النخب الارتزاقية). التي وجدت في ميلشيا الدعم السريع بتكوينها القبلي، الملجأ والمقر للتنفيس عن عقدها واحقادها وعنصريتها، ومداعبة طموحاتها السلطوية والمالية. ولو كان الثمن التغاضي عن انتهاكات الدعم السريع التي يندي لها الجبين، وتدميرها للبني التحتية واحتلالها للمرافق المدنية ومنازل المواطنين ونهب ممتلكاتهم، وتشريد اهل العاصمة ودارفور وكردفان (واين ما حلت حل الخراب والنهب والانتهاكات؟). وكل ذلك بحجة التصدي للكيزان، الذين صنعوهم وشاركوهم الجرائم والامتيازات، حتي وصولهم مرحلة الصراع علي السلطة بين الجنرالين المجرمين (الشركاء الاعداء)، وهو ما فجر الحرب.
والسؤال هل هؤلاء المدافعون عن مليشيا الدعم السريع، لا يعلمون حقيقة هذه المليشيات، والتي بحكم تكوينها وقيادتها وممارستها، ليست اكثر من منظومة متخلفة وهمجية، واداة ارهاب للمجتمع ونهب لموارد البلاد، ووكيل لمصالح رعاتها في الخارج؟ اي باختصار مليشيا الدعم السريع بوصفها حالة بدائية موغلة في الرجعية هي حرب علي الحضارة والانسانية. والمقصود الحضارة كقيم واعراف وترقية سلوك وممارسات متمدنة، وليست مبان وتجهيزات عسكرية حديثة. ومن هنا نجد الرابط بين مليشيا الدعم السريع والامارات والحركة الاسلاموية والعصبية الصهيونية. وهي لسوء الحظ اجتمعت كلها في ارض النيلين الخصبة الطاهرة، لتحيل خيراتها لاسلحة دمار، ومواطنيها لفقراء، وحضارتها لاطلال، وفرصها في الحياة لكابوس.
والحال ان الذين يدَّعون البراءة والسذاجة ويحاولون كتابة التاريخ (تزويره) من يوم 15ابريل، ان الفرصة اتيحت لمليشيا الدعم السريع للوقوف مع الثورة، لغسل عار جرائمها في دارفور، ولكنها شاركت في المؤامرة علي الثورة مع شريكها في المكون العسكري، بدايةٍ من المماطلة في تسليم السلطة وفض الاعتصام بوحشية تليق بسلوكياتها، مرورا بالمشاركة القسرية في الحكم، وانتهاءً بالانقلاب علي الفترة الانتقالية في 25 اكتوبر، وطوال الفترة الممتدة من ازاحة البشير حتي الحرب اللعينة الدائرة الآن، لم تتوقف انتهاكات مليشيا الدعم السريع وشريكه في المكون العسكري ضد الثوار لترتفع حصيلة الشهداء فوق 125 شهيد والجرحي بالآلاف، ناهيك من توفي تحت التعذيب في معتقلات الدعم السريع. وكل هذا دون الحديث عن نهب الذهب وافساد الولاءات السياسية بشرئها (الادارات الاهلية) والمَنْ علي السودانيين بالتبرعات، وتوثيق الصلات المشبوهة مع الامارات واسرائيل! اي مليشيا الدعم السريع هي في التحليل النهائي سرطان اصاب جسد البلاد ويقودها للموات. وصحيح ان اي مرض يحتاج للعلاج للحفاظ علي كيان الجسد/البلاد، ولكن المؤكد ان من الحماقة بمكان، دمار البلاد وقتل اهلها للتخلص من المرض المميت. كما لا يمكن استبدال سرطان الدعم السريع بسرطان العسكر والاسلامويين. الشئ الذي يجعل من هذه الحرب، هي حرب علي الشعب والبلاد، قبل ان تكون حرب جنرالين مزيفين من اجل السلطة، وتاليا لن يستفيد منها إلا تجارها.
كما لا يمكن قبول سردية الدولة المركزية ودولة 56 وغيرها من السرديات النخبوية الزائفة، التي تعكس مدي التدهور الذي اصاب الوعي ونوعية النخبة التي تتصدر المشهد. لانه لو صح ذلك، لا يمكن توقع ان هدم وتخريب ونهب ما هو قائم، وتشريد المواطنين بخبراتهم ومعارفهم وقيمهم والتحريض عليهم، هو عملية بناء او مقدمة لنهضة. ولكنه يعبر عن قيم البداوة التي تتخفي وراء الدرجات العلمية والفصاحة السياسية واللغات الاجنبية والبدلات الافرنجية، ولكنها كالعادة تحتاج لفائض السلاح ليسند وجهة نظرها ويفرض منطقها بالقوة العارية! اي بصراحة هذه قيم هدم وليس بناء، لان البناء لو صح هو المقصود، فانه يقوم علي الخطط الاستراتيجية والمشاريع القومية، التي تستصحب الميزات التفضلية لكل منطقة، وتقاسم المنافع والتعايش والاحترام المتبادل والحوار الحر والصراع السلمي لتداول السلطة، وتفهم الاوضاع التاريخية في زمانها ومعالجة كل الترسبات والاخطاء الماضية، بمزيد من الحوار والتفاوض (احد انعكاسات التحضر). اي التطلع للمستقبل بافق مفتوح ومتسامح. والسؤال لو المسالة مسألة موارد وتقسيمها، فما أُتيح للدعم السريع من موارد ولقائدها من فرص، لكان كفيل ببناء السودان ككل وليس دارفور وحدها، ولكن الفارق ان القيم البدائية للدعم السريع كالقيم الاسلاموية للكيزان، هي في اصلها قيم حربية، وتاليا تنزع للنهب وحيازة الغنائم. اي تصادر ما هو قائم فوق الارض وموجود تحتها، وليس لها تصور للعمران او متسع من الصبر والوعي والحساسية المجتمعية، حتي تنصرف للتنمية او خدمة المواطنين او بناء الدول. وهو ذات السبب الذي يجعل مسالة السلطة بالنسبة لها قضية مركزية، لانها تؤمن بالتراتبية، او بتعبير آخر الحياة بالنسبة لها قائمة علي القوة والسيطرة والسطوة وليس المشاركة والمساواة والحرية. والحال كذلك، يصبح الحديث عن الديمقراطية نفاق ليس إلا. لكل ذلك اكبر خدمة يقدمها هؤلاء المستشارون لقائد الدعم السريع، لو صح انه يستجيب لاستشارتهم (وهو امر غير متوقع بحكم تركيبته)، وقبلها لانفسهم حتي لا يشاركون الكيزان ذات الجرائم والصفات التي يتبرأ منها الاسوياء. هو الدعوة لايقاف الحرب، والاعتراف بالجرائم والانتهاكات، ومحاسبة الجناة، وارجاع المنهوبات، وتوظيف ما تبقي من موارد الدعم السريع في تنمية دارفور (الاستثمار فيها اولي من اثيوبيا وكينيا وغينيا)، وحل هذه المليشيات، والاعتذار عن مواقفهم السابقة، ومن ثم الانخراط مع الآخرين في مشاريع سياسية من ارضية مدنية وليست عسكرية.
اما جيشنا الهمام، فقد كشفت هذه الحرب مدي ضعفه، وعدم جاهزيته للحرب، وقبل ذلك الاستهتار بامانة الامن القومي بعد ان سمح لمليشيا الدعم السريع بتقاسم القوة والسيطرة والنفوذ. وذلك غالبا يعود لثلاثة اسباب، اولها انخراطه في الانقلابات العسكرية وسيطرته علي السلطة بامتيازاتها المهولة، الشئ الذي اضعف الروح العسكرية والاحترافية المهنية. ثانيها، خضوعه لتحكم القائد الانقلابي، ومن ثمَّ تحوله الي اداة في يد الطغاة للبقاء في السلطة. ثالثها، قابليته للاختراق من قبل القوي السياسية المؤدلجة التي بدورها تحرفه عن وظيفته، وتخصصها لمصلحتها. وكل ذلك كرس لعقيدة وصائية تركت اثرها علي دوره في الدولة وتاثيره في المجتمع. وكان من اكبر كوارثها استدامة الاستبداد وملازمته للفساد، الشئ الذي ادي لتعطيل المسار الديمقراطي، وتخريب الحياة السياسية والخدمة المدنية والانشطة الاقتصادية والتنموية، والتردي في كافة اوجه الحياة، بعد ان صادرها بتغوله علي الفضاء المدني، وفي المجمل اعاقة بناء الدولة حديثة. وهذا ناهيك عن عسكرة السلطة التي افرزت حركات مسلحة مناوئة له، وقد عملا بصورة مشتركة علي تدمير البيئات المحلية والبنية التحتية، وتفكيك النسيج الاجتماعي واشاعة الاحقاد والعنصرية والمناطقية. وما زاد الطين بلة ان الدولة معظم تاريخها تمت ادارتها بطريقة فردية اعتباطية، تحاكي ضحالة خيال وامكانات قادتها من نوعية النميري والبشير والبرهان. والحال كذلك، هل يمكن الاستغراب ان يتطلع حميدتي ومناوي وهجو وترك وكل من هب ودب لقيادة الدولة الهاملة؟!
المهم الجيش بدل الاعتراف بالاخطاء والاعتذار عنها والتوبة عن التورط في السلطة من غير وجه حق ومن دون مؤهلات، ومن ثمَّ السعي لايقاف الحرب مع مليشيا الدعم السريع، والدخول معه في تفاوض جاد وصادق يحافظ علي كيان الدولة وحياة المواطنين. وهو تفاوض يقف علي راس اجندته ضرورة الخروج من الحياة السياسية والاقتصادية، والالتفات لتكوين جيش احترافي، يستفيد من الاخطاء، الماضية التي اوصلتنا لهذه الحرب التي تهدد بقاء الدولة. نجده ينخرط كما سلف، في ذات سردية الكيزان المتماهية مع اطماع الجنرالات، بتخوين السياسيين واعتقال النشطاء المعارضين للحرب، والتحريض علي مواصلة الحرب، بوهم هزيمة الدعم السريع والتخلص من كابوسه للابد. وذلك للاستفراد مرة اخري بالسلطة ولاستباحة ما تبقي من موارد الدولة، ومصادرة حريات وحقوق بقية المواطنين. وكأن لسان حال الكيزان وكبار الجنرالات الذين لا ينسون ولا يتعلمون (يا فيها يا نطفيها). والحال كذلك، الجيش المؤدلج قدوة لمليشيا الدعم السريع، التي اقتفت اثره وحاكت دوره وانشطته، ولو انها اقل مؤسسية (عائلية) وتفتقر للانضباط والتقيد باخلاقيات الحروب. واحتمال هذا ما يفسر ان الحرب بينهما عدمية، تستهدف استئصال الآخر، وهذا بدوره ما يُصعِّب وقف الحرب من جانب، وصعوبة الوصول لنقاط وسط اذا ما تم تفاوض بينهما، من جانب.
والحال ان ما يجب التاكيد عليه، هو وقوع الشعب رهينة لاسوأ الحروب، بين اسوأ الجنرالات والمؤسسات وفي اسوأ الظروف الاقليمية (المتآمرة) والدولية (المتباطئة). وفي مثل هكذا اوضاع بالغة السوء، وتدعو المواطنين للفرار من اجل النجاة، ناهيك ان تتوافر مساحة للتفكير او فرصة المحاولة لمعالجة كارثة الحرب وتداعياتها. يبدو ألا حيلة لنا إلا الاسترشاد بصمود الثوار وبصيرة شعاراتهم التي تشكل مشروع رافعة سياسية يلتف حولها المدنيون، بعد تخليصها من العاطفة الثورية بطموحاتها الجامحة، ومساومة السياسيين وتسليمهم للعسكر. وهو ما يعني تنزيل الشعارات في شكل برامج واقعية تتلاءم مع التطورات الجارية علي الارض. وعلي راس ذلك ايقاف الحرب، حتي يتسع هامش السياسة للحركة وطرح التصورات والبدائل. او اقلاه تدارك ما يمكن تداركه بعد السقوط في قاع جديد ابعد مدي واشد ظلام من القاع السابق. ليثبت حقيقة هي بمثابة قانون داخلي حكم مسيرتنا السياسية، وهي ضياع الفرص الثورية في المماحكات والصراعات ومحاولة التكسب السياسي علي حساب الصالح العام. لا يضيع الفرص فحسب، ولكنه يصنع واقع آخر اسوأ من الواقع قبل الثورة، ويعقد المشاكل بصورة مضاعفة، ومن ثمَّ ينتج اوضاع جديدة لم تكن في الحسبان، لتحكم المشهد الجديد، من غير استعداد للتعامل معها. لنصبح رهينة دائرة مفرغة من مواقف مفارقة وطروحات متعنتة ورؤي متكلسة، في مقابل واقع متغير وقضايا مستجدة حتي تقع الكارثة. ومن ضمنها كارثة الحرب الاخيرة بكل خسائرها وتعقيداتها وتداعياتها غير المعلومة، وهو ما يستوجب طروحات (استراتيجيات) جديدة، وتعديل في الاولويات (ليس المطالب)، وقبل كل شئ الاعتراف بالواقع، والقدرة علي التعاطي معه مهما كانت مراراته. وبما في ذلك التسامي علي الجراح رغم فداحتها، وليس المسارعة لطرح المطالب القصوي (مثل العدالة) كاولوية. ومرة اخري يبدو اننا ايضا في حاجة للاسترشاد بنماذج مشابهة كرواندا وجنوب افريقيا. ولكن المشكلة تكمن في اين نجد الحكماء؟ واذا وجدناهم من يستمع لهم؟!
واخيرا
لا يمكن لشخص يقف وراء حميدتي المجرم او يتبع البرهان الكاذب، وبعد ذلك يزعم انه مستنير او اخلاقي او وطني او او او يحزنون، إلا اذا اكتسبت هذه المسميات مدلولات اخري، او يعاني حالة انفصام تجعله يخلط بين الانحرافات والمكاسب الذاتية وبين الاتساق والموضوعية.
وعموما ليس هنالك ادل علي هملة هذه البلاد وبؤس اهلها، من انها ظلت ولما يقارب نصف قرن، رهينة في البداية لتطلعات المنحرف الترابي، وفي النهاية لطموحات الجاهل حميدتي. ودمتم في رعاية الله.