السودان العبودية وآفاق التحرر ” 3 – 4″
العقل السياسي السوداني كما وصفه الدكتور منصور خالد " أنه قد أدمن الفشل" و ظل الفشل مصاحبا له طوال مسيرته التاريخية، دون أن ينتفض من ثباته، و يحاول أن يخرج من الشرنقة التي وضع فيها باختيار أصحابه. فالعقل السياسي السوداني المطروح في الساحة السياسية، هو عقل شاخ و عجز عن تجديد ذاته، من خلال قراءة متأنية لمخرجات الفكر بتياراته المختلفة، فالقوى التقليدية عجزت أن تطور نفسها و تخرج من دائرة المصالح الأسرية و المكاسب الحزبية لأنها تعتقد أن المجتمع ثابت لا يتغير، و القوميون العرب بعضهم دفن نفسه في مقبرة جمال عبد الناصر، و لم يرى في تطور الفكر غير قانون الإصلاح الزراعي التي أنهت شبه الاقطاع في المجتمع، و نسيت أن البرجوازية لها حقوق ومصالح تدفع في اتجاه التغيير، و المجموعة البعثية الأخرى أكتفوا بكتابات ساطع الحصري و مشيل عفلق و منيف الرزاز، و محفظوا من الشعارات الثورية، و التي فشلوا في تنزيلها علي الأرض، و أدمنوا جدلا عقيما هل تتقدم الوحدة علي الديمقراطية أم الأولوية للاشتراكية. أما الشيوعيون السودانيون الاستالينيون الذين يقبضون علي مفاصل الحزب مازالت أداة استقطابهم للشباب البيان الشيوعي لماركس و انجليز الذي صدر عام 1848م إلي جانب تبني الفكر الارثوذكسي الماركسي و مشروع الثورة الثورة الوطنية الديمقراطية الذي صدر في مؤتمرهم الرابع قبل سبعة عقود، و لم يستطيعوا أن يغيروا فيه حرفا، ظل كما كتبه عبد الخالق محجوب. و الحركات الثورية التي أتخذت من البندقية أداة للتثقيف العسكري و لكنها لا لم تقرأ عن الديمقراطية إلا بضع شعارات حفظتها دون معرفة مدلولاتها، كل هؤلاء لهم يمثلون أشكالية حقيقية للديمقراطية و عقبات أمام ترسيخها في المجتمع. إلي جانب المؤسسة العسكرية التي وراء كل دمار السودان و فشله.
أن الإشكالية السياسية ليس في بقايا الطائفية التي تسعى لكي تتمدد داخل الطبقة الوسطى، كما تمددت في فترة مؤتمر الخريجينن، و لكن الإشكالية نفسها في الطبقة الوسطى التي عجزت أن تجيب على الأسئلة التي كانت قد طرحتها في مجلتي " الفجر و النهضة" لأن الإيجابة علي الأسئلة سوف يجعلها تغوص في بحور الفكر و المعرفة، و هي تعتقد هذا طريق طويل و شاق و محفوف بالمكاره و غير معروفة نتائجه، و طريق السلطة سريع العائد لذلك يجعلها ترتمي في أحضان الطائفة حيث الجماهير الجاهزة. أن عزوف الطبقة الوسطى عن الفكر هو الذي جعلها تواجه تحديات صعبة عجزت أن تتجاوزها. و تبنت الشعارات المرحلية دون أن تسندها مرجعيات فكرية.
يقول اسامة الغزالي حرب في كتابه " الأحزاب السياسية في العالم الثالث" عن إشكالية الطبقة الأوسطى في الشرق الأوسط " هذه الطبقة، مثلها مثل القوى الاجتماعية في الشرق الأوسط ، تتمزق بفعل انقسامها و توتراتها الداخلية. و هي انقسامات تنجم عن عوامل القرابة، و العرق، و الدين، و المنصب، و الأصل الاجتماعي. و الأصل الجغرافي بين الحضر و الريف، و كذلك عن الخلفية الدراسية. و طبقا لهابرن، هناك ثلاثة مظاهر للصراع داخل الطبقة المتوسطة الجديدة: و تتمحور في الأتي الصراع بين العناصر التي تتولي المسؤوليات بالفعل، و تحتل المناصب _ التمييز الذي يطرحه هالبرن بين العناصر الأحدث و العناصر الأقدم من تلك الطبقة أي ( صراع الأجيال) _ تكوين الطبقة من عناصر جديدة، لا تستند إلي مكانة موروثة أو فرص متاحة و أنما إلي تجميع لأفراد منفصلين" و هي المسببات للصراع في الطبقة الوسطى السودانية، لكن لم يذكر الغزالي الأجيال الجديدة التي تكون حاملة لأفكار جديدة نتجت عن دراسة الواقع الاجتماعي و السياسي، و هي الأجيال التي بدأت تتمرد علي الواقع السياسي التقليدي القائم الآن في السودان، و كون موقفا مناهضا للحزب، باعتبارها أرث قديم من مخلفات القرن الماضي، و قد فشلت في إدارة صراعاتها بسبب العقليات التي عجزت أن تطور ذاتها و تطلع علي منتجات الفكر الحديث.
بعد انتصار ثورة ديسمبر التي أدارها الشباب و تحمل كل ضرائبها، كان المتوقع و بعد غياب استمر ثلاثة عقود بحكم شمولي باطش أن تخرج الأحزاب السياسية من دورها و تجدد ذاتها و تخرج بندواتها في الهواء الطلق، و تقيم ندواتها و لياليها السياسية لتعلم الأجيال طرق الحوار و قبول الأخر، و تواصل التحامها مع الجماهير التي كانت في أمس الحاجة أن تسمع من قيادات الأحزاب و تتحاور معها، لكن ذلك لم يحصل، و حصرت الأحزاب ذاتها بين جدران و أكتفت بأصدار البيانات السياسية، و البيان لا يخلق حوارا بين الحزب و الجماهير، بل هو رآي لمجموعة محددة من القيادات بعضها أصابه العشي اليلي، غياب الحوار عبر اللقاءات المفتوحة هو الذي جعل الأجيال الجديد تكون الفكرة السالبة تجاه الأحزاب، و جعلهم يقولون أن الأحزاب غير مستوعبة للتغييرات التي حدثت في البلاد، و اعتقدت بعض القيادات أن رآي الشباب في الحزاب هو حرب غير معلنة ضد الحزبية في السودان، تتبناه عناصر الدولة العميقة، و نظرت إليه من زاوية نظرية المؤامرة، و هو اتهام متوقع لأنه ينتسب للثقافة العربية. فالنخبة السياسية لا تريد طريق التفكير الذي يفرض عليها اتباع المنهج النقدي. هي نخبة لا تعرف سوى التبرير، و لا تستطيع أن تحدث تغييرا حتى يطالها التغيير.
و التفكير التقليدي لا يرجع فقط للقيادات التاريخية و الأيديولوجية أيضا العديد من الأجيال الجديدة متأثرة بالتفكير التقليدي، عندما يحاول البعض أتخاذ بعض المواقف في اعتقاد إنها ضد التوجهات العروبية في البلاد. أو لأنها ضد المذهب العقدي للأخر. هناك البعض يؤيد مسألة التطبيع ليس لأنها سوف تجلب مصالح للوطن، أو أنها سوف تفتح أبواب الاستثمار، بل الأغلبية تعتقد أن الموقف السلبي من إسرائيل هو موقف عروبي و هم ليس لهم علاقة بالعروبة. رغم أن الموقف السوداني مع القضية الفلسطينية، هو نفس الموقف السوداني الذي كان مؤيدا للمؤتمر الأفريقي في جنوب أفريقيا ضد نظام الأبرتايد، مثل هذه المواقف ليست في مصلحة البلاد، لأنها قائمة علي حالة نفسية تمليها مواقف أثنية و جهوية. فالصراع السياسي في السودان هو صراع صفري الهدف منه هو أبعاد الأخر محاصرته إقصائه، غاب الحوار و الجدل الفكري بين التيارات المختلفة، و النخب التي تفكر من خلال الجهوية و الأثنية و المناطقية هي نخب لا تملك مشروعا للإصلاح أو النهضة هي تريد أن تعكر الأجواء لكي تكون حاضرة برغباتها الشخصية.
كان المتوقع بعد الثورة؛ أن تأخذ الأحزاب السياسية فكرة الديمقراطية، أن يكون مسعاها كله منصب من أجل نجاح عملية التحول الديمقراطي، و تجمع أغلبية القوى الاجتماعية علي صعيد واحد مناصرة للديمقراطية، لكن قبائل اليسار جميعها أعتقدت أنها فرصتها التي تستطيع بها أن تقبض علي مفاصل السلطة و بالتالي تستطيع أن تبعد الآخرين. و بالفعل استطاعت إغلاقها حتى علي القوى الآخرى التي شاركت في الثورة لكنها لم توقع علي " اعلان قوى الحرية " ثم بعد توقيع الوثيقتين حاولت تستهدف العسكريين، الأمر الذي جعل البعض يبحث عن تحالفات جديدة و يعمل من أجل إضعاف قوى الحرية و التغيير، و قد نجحوا تماما، بل نحجوا في شق وحدة صفهم. و الآن قوى الحرية بشكل عام و اليسار بوجه خاص قد كانوا وراء الفشل الذي صاحب حكومة الفترة الانتقالية. الأمر الذي يؤكد أن فكرة السلطة تشكل أكبرعائقا لعملية التحول الديمقراطي في البلاد، صحيح أن الصراع كما قال ماركس يدور علي السلطة و مؤسسات الدولة، و لكن أي سلطة التي يبحث عنها اليسار، و هو أكثر القوى السياسية في حاجة لمراجعات فكرية لكي تتلاءم أفكاره مع شعارات الديمقراطية التي يرفعها. نسأل الله حسن البصيرة. نواصل
zainsalih@hotmail.com