السودان في زمن يشابه زمن أوروبا ما بين الحربين العالمتين

 


 

طاهر عمر
8 August, 2023

 

عمر إستقلال السودان سته عقود و يزيد نجدها نفس عقود التيه و الضلال التي عاشتها اوروبا و هي عقود نهاية الليبرالية التقليدية و قد بدات عام 1870 و لم تاخذ نهايتها إلا عام 1929 عام الكساد الاقتصادي العظيم.
لم تنجز النخب السودانية أي شئ يذكر فيما يتعلق بإستيعاب التحول الهائل في المفاهيم. عندما بدأت الليبرالية التقليدية تهتز و قبل سقوطها النهائي كانت هناك هزات و تحولات عميقة قد رصدها علماء الاجتماع و المؤرخيين و الاقتصاديين و لكن حتى تصبح فكرا متبلور أحتاجت لعقود وصلت للستة عقود و بعدها ظهرت محاولات المؤرخيين و خاصة مدرسة الحوليات الفرنسية و قد طلبت من النخب دراسة التاريخ الاقتصادي و التاريخ الاجتماعي لمجابهة التحولات الفكرية الهائلة.
و كان أول من إستجاب للطلب جون ماينرد كينز و قد قدم تفسير للكساد الاقتصادي العظيم بعد أربعة سنوات من حدوثه في النظرية العامة و هذا يشابه حال ثورة ديسمبر و ها هي أربعة سنوات تمر و لم تستطع النخب السودانية أن تقدم نظرية تشرح لنا ما حصل كما فعل كينز مع الكساد الاقتصادي العظيم و كيف قدم تفسير للكساد الاقتصادي العظيم.
و بالمناسبة عجز النخب السودانية عن تقديم تفسير و توضيح لفشلها و عجزها في أن تؤسس لملامح دولة حديثة عقب ثورة ديسمبر المجيدة و ثمنها المدفوع من عرق و دم و دموع الشعب السوداني و قد أسقط أقبح و أبشع نظام و هو نظام الحركة الاسلامية السودانية هذا العجز للنخب السودانية هو كساد موروث من النخب السودانية و متراكم عبر أجيال و عبر زمن طويل قد تخطى القرن أي منذ قيام أتباع أندية مؤتمر الخريجين في السودان و لكن الفرق بينهم و بين النخب الأوروبية في ما بين نهاية الليبرالية التقليدية و بداية الليبرالية الحديثة أن النخب الأوروبية قد فطنت للتحول الهائل في المفاهيم و قابلته بهمة و إجتهاد من أجل تفسير ما حصل.
و هنا يكمن الفرق بين نخب المجتمعات التقليدية و السودان من ضمنها و نخب المجتمعات الحية و يمكنك أيها القارئ أن تتبع خيط تطور الفكر في أوروبا بشكل واضح منذ تقديم ادم اسمث لكتابه ثروة الامم عام 1776 و قد تزامن مع قيام الثورة الصناعية و بعدها بخمسة عقود تجد كيف ظهر فلاسفة و مؤرخون و اقتصاديين يعالجون أثار الثورة الصناعية على المجتمع و نذكر منهم توكفيل صاحب الديمقراطية الامريكية و كان عندما يتحدث عن الديمقراطية يعني أنها قد أصبحت بديلا للفكر الديني و كان ذلك عام 1830
و هكذا يمكنك تتبع تطور الفكر الى لحظة 1880 عندما أحس أرنولد توينبي الكبير بنهاية الليبرالية التقليدية و إنتقد الاستعمار و قد رأي فيه إهمال للطبقات الدنيا في أوروبا و العمال و في نفس الوقت إهدار لموارد الدول التي وقع عليها الاستعما و كان ذلك قبل أن يظهر علينا أمثال عبد الله علي ابراهيم و إستهباله عن دولة ما بعد الاستعمار و بفهم مؤرخ تقليدي يجهل تاريخ الفكر الاقتصادي و النظريات الاقتصادية لذلك جاء حديثه عن دولة ما بعد الاستعمار حديث شيوعي متحجر يضر أكثر مما ينفع.
لأن أرنولد توينبي الكبير و هو عم أرنولد توينبي المؤرخ البريطاني في القرن العشرين قد نقد الاستعمار منذ عام 1883 قبل إستعمار الانجليز للسودان أي حينها كنا مع أوهام مهدية المهدي أي قبل الاستعمار البريطاني بخمسة عشر سنة قبل نهاية المهدية.
ما أريد قوله هو أنك تستطيع تتبع الفكر منذ قيام الثورة الصناعية و صراع المفكرين في الغرب و أيهم كان على دراية بتفسير ما يحدث و لكن في السودان لا يمكنك تتبع تطور الفكر بل تجدهم شيوعيين و كيزان كلهم في مستوى واحد نفس الملامح و الشبه في وهم تقديم حلول نهاية شيوعي سوداني يؤمن بنهاية التاريخ و إنتهاء الصراع الطبقي و كوز لاجئ للغيب يريد أن يكون خارج التاريج بل يحكم على التاريخ.
و هكذا تدور الدوائر و كل عام و الفكر ينحط بين النخب السودانية و إذا تتبعت فكرهم على مستوى أفراد كمفكرين لا تجد من يقدم تفكير يسير في خط مع ما يحدث في العالم فتجد أمثال عبد الله علي ابراهيم يحتفل مع الكيزان بشمعة إنقلابهم الأولى و تجد غيره يدافع عن الطيب زين العابدين و المحبوب عبد السلام و الأفندي و يقولون لك أنهم قد أنتقدوا الحركة الاسلامية و هنا يكون حديث النخب كلام ساكت كما نقول.
و هكذا تجد طريق الفكر في السودان لم يبدأ بعد إذا ما قارناه بالفكر في أوروبا منذ قيام الثورة الصناعية و كيف تجد الفكر المندثر و الفكر الذي ما زال مستمر و يفتح على المستقبل بل البعيد في تطوير المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد كنتاج لتطور الثورة الصناعية و نجدها قد أفرزت فكرة الضمان الاجتماعي حيث نجده في أوروبا واضح المعالم مقارنة بما في الولايات المتحدة نسبة لتاريخها الاجتماعي و تاريخها الاقتصادي في امريكا نجد تجذر فكرة الضمان الاجتماعي أقل مما هو عليه في الدول الاوروبية.
و لكن ما زال هم في بال الناخبين و قد رأينا محاولات أوباما في مسالة طرح العلاج المجاني كما هو عند الأوروبيين و هذا ما لا نجده في حيز النخب السودانية منذ قيام مؤتمر الخريجيين و الى اليوم لا يتحدثون عن المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد و فكرة الضمان الاجتماعي و حتى اليوم و بعد سقوط الكيزان لم يقدم أي حزب من أحزاب السودان فكر يتحدث عن المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد حيث يكون العلاج المجاني و التعليم المجاني و حد أدنى للدخل للطبقات الفقيرة.
لا تجد حزب واحد قد قدم لنا تصوّر للدخل القومي في السودان و فلسفة توزيعه لأننا نعرف أن فلسفة إعادة توزيع الدخل أصعب من مسألة خلق الثروة نفسها و هنا يكمن مفهوم المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد.
مسألة مفهوم المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد هي الرافعة الفكرية الوحيدة التي تجعلنا نفارق موروث الكساد الفكري الذي تركته نخب السودان الفاشلة لأن فكرة المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد هو الأفق الوحيد الذي يجعل علاقة الفرد مباشرة بالدولة و ليس كما هو سائد الآن حيث نجد علاقة الفرد بالطائفة الدينية أو علاقته بالادارة الأهلية أو زعامات الطرق الصوفية.
و هذا ما يجعل النخب السودانية تطرب لخطاب الهوية في شقيها العرقي و الديني بدلا من فكر الحرية التي تفتح الطريق لمفهوم المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد و هذا ما يجعل النخب لا تستطيع تقييم تطورها الفكري فتجد المؤرخ التقليدي السوداني يجهل تاريخ الفكر الاقتصادي و النظريات الاقتصادية و بالتالي لا تخطر بفكره مسألة المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد و كيفية ترسيخها و بدورها ترسخ ديمومة الديمقراطية لأن مما يساعد على ديمومة الديمقراطية هو ترسيخ مفهوم أن الديمقراطية تعطي أولية للتعليم المجاني و العلاج المجاني و إعادة توزيع الدخل للأسر ذات الدخل المنخفض.
و هذا يفتح الباب للشعب لمعرفة معنى الحق في الحقوق و بالتالي يعرف الفرق الشاسع بين الديمقراطية و الدكتاتوريات و قبح النظم الشمولية مثل النازية و الفاشية و الشيوعية و حكومات ما ينتج من الخطاب الديني سواء كان كيزاني أو طائفية الصادق المهدي و الميرغني التي لم تتحدث أبدا عن حد أدنى للدخل للأسر الفقيرة بل أسواء من ذلك أنهم ينتظرون من هذه الأسر الفقيرة أن تتبرع للأمام و الختم.
و بالتالي عندما تسقط ديمقراطية أحزاب الطائفية لا تجد من يدافع عنها لأنها لم تقدم تعليم مجاني و لا علاج مجاني و لا حد أدنى للدخل للأسر الفقيرة و هذا الحد الادنى للدخل يكون نتاج تنمية سياسية و تنمية اقتصادية تؤدي لزيادة الدخل القومي و تنعكس في إرتفاع مستوى المعيشة.
و هذا كله بسبب غياب فلسفة ترسّخ لمفهوم المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد و هي نتاج فكر ليبرالي تتضح فيه فكرة غائبة تماما من ساحة فكرنا و هي أن الغاية من المجتمع هو الفرد مع إفتراض عقلانيته و أخلاقيته و هنا في مجتمعنا السوداني التقليدي نجد أن الفرد ليس غاية في حد ذاته لذلك تجد المثقف التقليدي و المؤرخ التقليدي و علماء الاجتماع التقليديين يهتمون بطرح الهوية و ليست أدبيات الحرية.
و قد رأينا كيف كان ضلال النخب السودانية في طرح الهوية لدرجة قد أسسوا لها مدارس غابة و صحراء و عودة لسنار و ابادماك و غيرها من الأوهام التي لا تعطي أي أهمية للفرد كغاية في حد ذاته و هذا الفكر الهووي الصاخب هو الذي ضيّق مساحة تطور الفكر الليبرالي الذي يطرح فكر أنثروبولوجيا الليبرالية و يفتح الطريق لفهم يؤدي لترسيخ و ديمومة الديمقراطية.
بل فتح الطريق لسيطرة أعدى أعداء الحرية و هما الكيزان و فكرهم فكر اللجؤ الى الغيب و سيطرة فكر الشيوعي السوداني المتحجر بايديولوجية متحجرة قطعت الطريق على النخب السودانية و محاولة ترسيخ فهم جديد الى الفكر الليبرالي و هو فكر منفتح على اللا نهاية يضع علم الاجتماع كبعد معرفي في صميم الديالكتيك.
و هذا هو سر أن الرأسمالية تخرج من أزماتها و إختناقاتها كل مرة أكثر قوة و لكن عند نخبنا السودانية المحاصرة بجهل الشيوعي السوداني و قد رسّخ فكر يبشع بالرأسمالية في نظر المثقف التقليدي السوداني و لم يخرج من هذه الدوامة إلا الدكتور منصور خالد بعد فوات الأوان عندما قال كان هناك وهم جماعي للنخب في إعتقادها أن أقرب طريق للتنمية هو طريق الحزب الواحد و الفكر الاشتراكي و هذا غير صحيح.
و منصور خالد لولا نباهته و إختلافه عن النخب السودانية التقليدية لما وصل الى نقد مسيرته و وهمه في الاشتراكية و الحزب الواحد و قبح الشموليات. من هنا أدعو النخب السودانية الى الإهتمام بالفكر الليبرالي و كيف ينظر الى أن الديمقراطية بديلا للفكر الديني وفقا للنشؤ و الإرتقاء حيث فارقت البشرية كل من فكر العرق و الدين و كذلك نجد ان الفكر الليبرالي ينظر للفرد كغاية لأن الفرد له غايته و هي قيمة القيم و هي الحرية.
و بالتالي تصبح معادلة الحرية و العدالة هي التي تسوق مسيرة الانسانية في تراجيديتها الى ما لا نهاية. عكس فكر الشيوعية السودانية التي لا تختلف عن فكر الكوز الذي يزعم أنه يستطيع تقديم حلول نهائية في ماضي ذهبي و بالتالي نقول للنخب السودانية وجب إنتباهكم لحيل الشيوعي السوداني الذي يصور لكم بشاعة الفكر الليبرالي و يوهمكم بالفكر الشيوعي الشمولي و قد إنتبه لقبحه مفكري العالم منذ عقود و هم كثر نذكر منهم حنا أرنت و ريموند أرون و إدغار موران و كلود لوفرت و غيرهم كثر و لم نجد أدبياتهم في ساحتنا لأن الشيوعي السوداني نجح في زرع وهم للنخب السودانية الفاشلة أن الرأسمالية فاشلة و نسى أن الفكر الليبرالي يتطابق مع تاريخ البشرية في محاكاتها للطبيعة بعيدا عن الايمان بالمطلق في زمن النسبي و العقلاني الذي يجسده الفكر الليبرالي و يجافيه فكر الكوز و الشيوعي السوداني في ايمانهما بالمطلق.
في وقت نجد فيه أن الفكر الليبرالي يحاكي تاريخ البشرية الطبيعي و هي تمر بإختناقات و لكنها تخرج منها أكثر قوة و لهذا كانت و ستظل الليبرالية ما يناسب مسيرة البشرية التي تسوقها معادلة الحرية و العدالة.
نرجع لعنوان المقال حال السودان يشبه حال أوروبا في زمن ما بين الحربين حيث كانت أوروبا تنتظر نهاية فكر الليبرالية التقليدية و بداية فكر الليبرالية الحديثة و هذا ما يحصل اليوم في السودان أننا نشهد زمن نهاية غياب فكر يجسد الإهتمام بالمسؤولية الاجتماعية نحو الفرد و هذا لا ينتهي إلا بإختفاء أحزاب اللجؤ الى الغيب أي أحزاب المرشد و الامام و الختم و كذلك إختفاء فكر مطلق يقوده الشيوعي السوداني مجسد بنسخة متكلسة تجسد الأبوية المستحثة في ساحة الفكر السودانية.
و من هنا ندعو النخب السودانية لفكر جديد الغاية فيه الفرد كما تشهد على ذلك ظاهرة المجتمع البشري و لا سبيل الى ذلك بغير أدب جديد يرسخ لمفموم يكمن فيه معنى أنثروبولوجيا الليبرالية حيث يصبح الدين شأن فردي و ينتهي زمن عجز النخب السودانية حيث يظهر عجزها في أن يدافع فيه غير الكوز عن الكوز بأدب التوفيق الكاذب و هنا نجد لا فرق بين الأفندي و كمال الجزولي و لا فرق بين الحاج وراق و المحبوب عبد السلام و لا فرق بين محمد ابراهيم نقد و الطيب زين العابدين في قصة كيف كانوا يخططون لتقيم المشاريع الفكرية في السودان المحنبس بين الشيوعي و الكوز.
و هذا يختلف عن كيف رفض ريموند أرون فكر سارتر و كيف فارق ألبرت كامي أوهام سارتر و كيف إختلف كلود ليفي اشتروس مع فكر سارتر كمدافع عن الشيوعية و هي تمثل أبشع أنواع النظم الشمولية و كيف إختلف ريموند أرون مع ألتويسر.
لهذا ندعو النخب السودانية لإعادة النظر من جديد و قراءة تاريخ الفكر الليبرالي الذي يجسد و يفسر تاريخ البشرية و هي تسير وفقا لمعادلة الحرية و العدالة. غياب معادلة الحرية و العدالة كروح للفكر الليبرالي من الساحة السودانية يفتح الطريق لمغامر مثل حميدتي و تربية كيزان مثل البرهان لقطع طريق أعظم ثورة و هي ثورة ديسمبر و كله بسبب أن النخب السودانية لم تلاحظ كيف يتطور الفكر و يتقدم في خط مستقيم و يسير الى الامام رغم ظهور الاختناقات و الازمات التي يمر عبرها الفكر الليبرالي و يخرج منها أكثر قوة.
على النخب السودانية أن تغادر محطة الشيوعي السوداني الذي لا يرى غير الوجه المتوحش من الرأسمالية و على فكرة أن وجه النيوليبرالية المتوحشة قد عالجه مفكرين ليبراليين بفكر جديد يفتح الطريق لإستمرار الفكر الليبرالي لأنه يمثل تاريخ البشرية الذي لا يتوج بنهاية التاريخ كما تتوهم الشيوعية السودانية في نسختها المتكلسة بل تسوقة معادلة الحرية و العدالة و هي تمثل روح التاريخ الذي لا يتوج بل تاريخ مفتوح الى ما لا نهاية و هذا هو الحل الوحيد لمفارقة غائية و دينية و لاهوتية النسخة المتخشبة من الشيوعية السودانية.

taheromer86@yahoo.com
////////////////////

 

آراء