السودان والعبودية وأفاق التحرر ” 4-4″

 


 

 


العبود التي تتحكم في السودان هي عبودية ناتجة من سيطرة الأرث الثقافي المتوارث عبر السلطات المختلفة في السودان، و العبودية المستمرة هي عبودية تجعل النخبوي السوداني طائعا مختارا في إلغاء استعمال عقله في القضايا التي تواجهه، و يتنازل لآن هناك من يستطيع أن يفكر بديلا عنه، في اعتقاد أن ذلك يكسبه أحترام من يعتقد أنهم سوف يتفضلون عليه بوظيفة، دون أن يكون مطالب أن يحمل مواصفاتها، و لا يملك الخبرة الواجبة التي تؤهله ليشغل الوظيفة، فقط أن يكون له القدرة علي كسب الرضى لمن يحقق له ذلك، إذا كان زعيما حزبيا أو شيخ طريقة أو زعيم طائفة أو من القيادات الأهلية أو قائد لحركات مسلحة، أو رجل دين مقرب للسلطة. فالسياسة في السودان لا تطالب الشخص بمؤهلات معرفية و ثقافية، أنما تنفيذ ما يطلب منه و سعيه لكسب الرضى. و هذا السلوك ليس قاصرا علي قوى تقليدية حتى القوى الحديثة في المجتمع أن كانت أحزابا سياسية يمينية أو يسارية و حتى حركات مسلحة، فالكل في حالة أنجذاب لذات الثقافة العبودية، رغم إدانة الجميع لها، لكنها تمثل السلوك العام.
و الذين يحاولون نفض اليد من هذه الثقافة لا يأتون بجديد، بل يبدلونها بعبودية جديدة لها ذات القوة الثقافية، لأن العقل كأداة خالقة للإبداع قد تم تعطيلها، و أصبح الشخص هو نفسه أداة لآخر استلبه ثقافيا و يوظفه لتحقيق رغبات خاصة. فأغلبية النخب السياسية السودانية تحولت لأدوات في دوائر مختلفة " طائفية – قبلية – أثنية – مناطقية – عسكرية - حزبية" و هي مؤسسات لا تساعد الشخص لكي يتحرر من الموروث الثقافي العبودي، بل تزيد في تكبيله عبر أعراف و تقاليد عديدة، و الغريب أن الشخص لا يجد تناقضا في أن يرفع شعارات الحرية و في ذات الوقت أن يكون أداة تنفيذية فقط يعطل عقله طائعا مختارا. لذلك تجد الحرية التي تعتبر البيئة الصالحة لأعمال العقل قد يختل مفهومها. و هي إشكالية ليست حديثة بل عانت منها النخبة منذ تفتحت عينيها علي التعليم الحديث الذي أدخله الانجليز في السودان. و الحرية كانت قضية مطروح علي مائدة الحوار بين النخب في ثلاثينيات القرن الماضي. و في ذلك كتب الصحافي عرفات محمد عبد الله مقالا بعنوان " في الاتحاد و حرية الراي" في مجلة الفجر في 16 يونيو عام 1934م يقول في متنه " الحرية ضد العبودية، و حرية الرأي بإطلاقه من الأغلال التي تقيد العقل و تحول بينه و بين ما خلق من أجله من تفكير، و يكاد الناس يجمعون، نظريا علي الأقل بأن كفالة هذه الحرية فرض علي المجتمع، رغم أمتلاء بطون التاريخ بذكر شهدائها كما أن في التاريخ الحديث صفحات بيضاء لرجال وقفوا في سبيل القوة الغاشمة، في وجه الأثرة و الأنانية و المطامع الذاتية حتى قضوا كادوا يقضون علي وصمة التاريخ القديم و الحديث و هي استرقاق لأخيه الإنسان" رغم أن عرفات كان يكتب بالرمز، و يقصد حرية الوطن من المستعمر، و هي قضية لا تختلف عن قضية التحرر من الموروث الثقافي الاجتماعي، الذي كبل الشخص بالعديد من المحرمات التي اقعدت العقل عن الإنطلاق، و جعلت العديد من الكوابح التي أوقفت عملية الإبداع في المجتمع، و ربما تكون هي نفسها واحدة من أسباب أن تعتمد النخب السياسية علي الشفاهية دون التدوين، لذلك تجد أن النخب السياسية لم تستفيد من تجارب الماضي، لأن عدم التدوين تجعل العقل عرضة للنسيان، و التدوين يجبر البعض علي التذكر و التحليل مما يساعد علي الاستفادة من تجارب الماضي.
كتب الدكتور برهان غليون في كتابه " أغتيال العقل" يقول في أحدى فقراته عن "جدل الثقافة و السلطة" يقول فيها " يعكس النمط الثقافي السائد في حقبة محددة و لدى جماعة محددة طبيعة و درجة الاستقرار الاجتماعي و احتمالات تطوره أيضا. و هو يجسد إذن آلية توحيد الجماعة، و يمثل مستوى تطور التركيبة الاجتماعية. و يمكن للنماذج الثقافية التي تنتقل من نسق ثقافي إلي نسق ثقافي أخر أن تؤثر سلبا أو إيجابا علي توازن هذا الأخير، و يمكنها في بعض الحالات أن تهزه من الأساس" و يشير برهان غليون لمجتمع متجانس ذو ثقافة واحدة، لكن الواقع الثقافي في السودان هو متنوع الثقافة، و هذا التنوع تعرض لهزات عديدة أدت إلي حروب و نزاعات بسبب انعدام المواعين الديمقراطية، و تقليص مساحة الحرية التي تجعل الحوار بين المجموعات الثقافية يتم بصورة سلسة لكي يخلق واقعا جديدا، و أيضا هو نتاج لتلك الحوارات بين المجموعات المختلفة و المتنوعة، أي أن يجعل عملية التماذج الثقافي تتم دون أن تخلق تأثيرات سالبة. و السبب في انعدام الحوار هو النخب نفسها التي تعتقد أن أهم طريق للحفاظ علي مصالحها الذاتية أن تصادر أدوات الحوار.
أن الموروث الثقافي السياسي دائما يحاول أن يخلق تحديات جديدة في المجتمع، و يعود ذلك أن النخب لا تنظر للقضايا بكلياتها. مثالا لذلك الحوار الذي حدث في جوبا بين الجبهة الثورية و الحكومة، نجد أن القضايا التي تطرق لها الحوار هي قضايا من صميم عمل المؤتمر الدستوري و تتطلب مشاركة كل القوى السياسية، حتى يتم توافق وطنى حولها، و تمنع فتح ملفاتها مرة أخرى، لكن فضلت النخبة المشاركةفي الحوار فتحها دون انتظار المؤتمر الدستوري لعلمها أن العسكر القابضين علي مفاصل السلطة ليس لهم رغبة في التعامل مع الأحزاب السياسية بسبب الصراع بينهما و عمليات الضرب تحت الحزام الجارية، هذه تؤكد أن العديد من النخب لا تنظر للقضة بالأفق الوطني العام. و القضية الأخرى مطالبة الحلو بالدعوة لفصل الدين عن الدولة " اعتماد العلمانية" رغم أن القوى السياسية قد استطاعت أن تعالج تلك القضية عام 1994م في " مؤتمر نيروبي لمعالجة لقضية الدين و الدولة" حيث تبنت فكرة " الدولة المدنية التي لا تقبل أي قوانين تتعرض مع حقوق الإنسان و القوانين الصادرة من الأمم المتحدة. ثم تضمن أدرج الاتفاق ضمن اتفاق مؤتمر القضايا المصيرية عام 1995م في أسمرا، هذا المؤتمر يمثل إرثا للحركة الشعبية، كان يجب علي الحلو أن يطلق منه، لأن الحركة الشعبية ساهمت في صياغته، لكن الحلو تجاوزه لكي يرفع سقوف مطالبه لكي يحقق مكاسب لحركته، و في نفس يؤكد علي خياره المفارق لرفقاء الدرب السابقين، و عبد الواحد الذي يتحدث عن مؤتمر عام داخل السودان دون أن يتقدم خطوة واحدة للامام، ما يوضح حالة التناقض في العقل السياسي السوداني الذي يعقد ولا يحل.
و في فقرة أخرى لغليون في ذات الكتاب يقول فيها " أن الصراعات الاجتماعية لا يمكن إلا أن تعبر عن نفسها و تعكس ذاتها من خلال هذه الانماط المتميزة و القيم المختلفة المرتبطة بها و علي أساسها يحاول فريق اجتماعي أن يؤكد هيمنته أو يوسعها علي حساب الفريق الآخر. فهو يسعى إلي مد حقل نفوذه أو تقوية قبضته في النظام الاجتماعي بالعمل علي المبالغة في أهمية النمط الأساسي الذي تماهي معه سياسيا أو دينيا أو أخلاقيا أو عمليا. و هو يضفي علي هذا النمط في مواجهة الأنماط الآخرى طابعا شموليا إنسانيا أو علميا، يجعل منه مركز توازن النسق الثقافي بأكمله" أن التنوع الثقافي في السودان لم تستطيع النخبة السياسية ان تزظفه توظيفا سياسيا ثقافيا يكون بيئة خلق و إبداع، و في ذات الوقت تسويقه كثقافة إبداعية مرتبطة بالفنون لتخلق منه أداة لخلق حوارات مناطقية لدول الجوار التي تحادد السودان، بل استفادت منه بعض الدول لكي تجعله أداة لخلق نزاعات داخل السودان ليصبح كرت ضغط تحاول أن تقايض به، و هذا يعود للنظرة القاصرة للنخب السياسية. و إذا نظرنا لثقافات الدول التي تجاور السودان تجد أن الثقافة الوجدانية تلعب دورا كبيرا في العلاقات الشعبية مع تلك الدول لكن النخبة السودانية عجزت عن استغلالها، لأنها لا تنظر أبعد من موقع قدميها، التي تتحصر في المصالح الشخصة و المناطقية. أن ثقافة العبودية المتحكمة في في العقل السياسي يجب النظر إليها بواقعية لفتح حوار حولها في كيفية معالجتها. و نسأل الله حسن البصيرة.

zainsalih@hotmail.com

 

آراء