الشعب السوداني… واحتضار صوت النبض الحقيقي

 


 

 

كتب الدكتور عزيز سليمان أستاذ السياسة والسياسات

يعيش السودان اليوم لحظة تاريخية مفصلية، لحظة كشفت عن هشاشة النخب السياسية وتضخم الأنا لدى أرباب السلطة، الذين باتوا يرون أنفسهم حراسًا على عقل الأمة، دون أن يدركوا أن هذا العقل قد تشكل وعيه عبر دهور من الألم، والحرمان والنزوح والحرب والنزيف الدامع. الشعب السوداني، بمأساته الممتدة من دارفور إلى النيل الأزرق ومن الخرطوم إلى المنافي، هو المعلم الحقيقي في مدرسة الصمود والتحدي، بينما الساسة لا زالوا يغزلون من "طق الحنك" أوهامًا على نول السخرية
في كل زاوية من زوايا المشهد السوداني، تتراءى لنا مأساة هؤلاء الساسة الذين جاءت بهم رياح ثورة ديسمبر العظيمة. كانت الثورة فرصة ذهبية لإعادة صياغة عقد اجتماعي جديد يُلهم العالم بروح التغيير. لكن، كما قال الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو: "الأقوياء دائمًا يفعلون ما يستطيعون، بينما الضعفاء يظل عليهم أن يعانوا." هكذا رأينا قادة السياسة في السودان وقد أدمنوا اللعب على وتر السلطة، متجاهلين صوت الشعب الذي ظل يتردد عاليًا عبر مواكب الثوار وهتافات الميادين.
هؤلاء الساسة، الذين تقاذفتهم موجات الثورة كأوراق خريف لا تعرف لها قرارًا، لم يروا في الديمقراطية سوى وسيلة لتحقيق مآربهم الشخصية. أين ذهب ذلك الحلم الكبير الذي حمله الشباب السوداني في صدورهم وهم يهتفون: "حرية، سلام، وعدالة"؟ بل أين تلك البرامج التي وُعد بها الناس لتحويل السودان إلى نموذج حي لدولة مدنية تقف على ركائز العدالة والمساواة؟ تحول المشهد إلى ما أسماه أفلاطون بـ*"المدينة التي يحكمها الجهال."*
خذوا مثالًا: كيف أن البعض ممن صعدوا إلى السطح بعد الثورة صاروا أسرى لخطاب الشعبوية، بينما ارتدت طموحاتهم إلى مجرد مناوشات على كراسي السلطة، وكأنهم تناسوا دماء الشهداء التي روت ميادين الثورة. إنها خيبة أمل كبيرة أن ترى من كانوا في الصفوف الأمامية يتحولون إلى خصوم للمبادئ التي ثاروا من أجلها.
ومع ذلك، يظل السؤال: كيف يمكن استعادة صوت الشعب السوداني إلى المشهد؟ الإجابة ليست في العودة إلى تلك النخب التي فقدت بوصلة المبادئ، بل في خلق "طريق ثالث" يقوم على الديمقراطية المجتمعية. هذا الطريق يستمد قوته من القاعدة الشعبية، من أولئك الذين عانوا وناضلوا وواجهوا صلف الحكام. طريق يحاكي ما طرحه الفيلسوف الألماني هابرماس حول "الفضاء العام" الذي يصبح فيه المواطنون شركاء حقيقيين في صنع القرار، لا مجرد متفرجين على مسرحية يكتب نصها الطغاة.
يجب أن نتعلم من تجارب العالم، من غاندي في الهند الذي قاد شعبه إلى الحرية عبر قوة المجتمع، ومن نيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا الذي جعل من شعبه شريكًا حقيقيًا في بناء الدولة. الديمقراطية الحقيقية ليست صناديق انتخاب تُملأ بأصوات مغشوشة، بل هي مشاركة الناس في تحديد مصائرهم، وهذا ما افتقدته التجربة السودانية منذ بواكيرها ونعومة اظفارها.
السودان اليوم يحتاج إلى نهضة فكرية وثقافية وسياسية تعيد للشعب حقه في أن يكون الحَكَم الأول والأخير على مصيره. إن تجاهل هذا الوعي الشعبي المكتسب عبر سنوات الألم هو خيانة عظمى، لأن الشعب السوداني اليوم، كما وصف نيتشه الإنسان المتمرد، هو "القادر على قلب الطاولة على آلهة الكذب"
فلنُعِد للسودانيين صوتهم، ولنجعل من السودان نموذجًا لدولة تحتفي بوعي الشعب لا بغطرسة الساسة. فالمستقبل، وكما يقول التاريخ، لا يُصنع في قصور الحكام، بل في أزقة الناس وحناجرهم.

quincysjones@hotmail.com

 

آراء