الشفشفة: كان دار ابوك خربت شيل لك منها شلية (2-2)
د.عبد الله علي ابراهيم
16 December, 2024
16 December, 2024
عبد الله علي إبراهيم
ملخص
هذه الشفشفة ممارسة في هذه الحرب لم تستقل بتحرٍّ خاص فيها لمعرفة أوثق بنظام "الإنقاذ" الذي هو ليس أطول عهود الحكم في دولة 1956 إذا شئت فحسب، بل مكّن بنيات في الدولة والسياسة والثقافة ستبقى معنا لزمن طويل.
رفعت دولة الإنقاذ يدها عن ولاية المال العام بوجوه فصارت دولة لصوصية لا فاسدة كما ذاع.
كان بعض منسوبيها من أزاح عنها الستار بقوة. كان رئيس تحرير جريدة "الأحداث" عادل الباز قلماً سنيناً في الكشف عن لصوصية نظام هو منه. ففي مقالته "... شرعنة الفساد"، عدّد أهوال الفساد في بنك السودان الذي غَفل عن شركات الدواء بلا رقيب تنهب المليارات باسم استيراد الدواء ولا دواء. فتتسرب ملايين الدولارات إلى الخارج لأن البنك لم يراجع حصائل الصادرات. كما أذن للناهبين الاستيلاء على تريليونات الجنيهات من البنوك التجارية في مرابحات صورية وخداع. فانتفعت من ذلك التفريط شركات بأسماء وهمية ومزيفة. وفي مقالة أخرى كشف عن انفلات الشركات الحكومية التي قام عليها من سماهم "ثلة من خلصاء الحزب الحاكم"، وهم وزراء أقوى من وزير المالية حتى إن وزارته لم تعُد لها الولاية على شركاتهم. فإيراداتها تخص الوزارة، أو على الأدق، تخص الوزير وتحت تصرفه المباشر، مما عرف بـ"التجنيب"، أي إن إيرادات الوزارة وشركاتها تؤول إلى الوزارة نفسها لا تلقى منها وزارة المالية قرشاً أحمر. ومدح البشير نهج التجنيب ذلك في كلمة شهيرة، فزار يوماً وزارة ما ووجدها حسنة السمت والأثاث، فقال لتجنبوا جميعاً حين علم أن ذلك البهاء كان بمال مجنب.
ومن خصائص "دولة اللصوص"، تحول السلطة فيها إلى ثروة، وسبق لمثل من دارفور أن أصاب هذا المعنى بقوله "حكم في ساق ولا مال في خناق"، أي إنه إذا خُيّر المرء بين أن يكون ذا سلطة "حكم" ولو قل مقدارها "للساق"، أو أن يكون غنياً يبلغ ماله حد عنقه طولاً فأولى به أن يختار الأولى السلطة. فالسلطة، في خاتمة المطاف، هي مورد المال الذي لا ينقطع. وسلطان القلم هذا ما كاشف به الإسلامي ووزير الصناعة في دولة الإنقاذ موسى كرامة، زملاءه في جلسة من مجالس شوراهم، فقال إن القلم في "الإنقاذ" هو مصدر غنى جماعات منهم. فبالقلم تسجل شركات وتوقع عطاءات وتمنح فيزات وما شاء. فالقلم، عليه، ثروة ومصدر ثروة، وعرج على الشركات وانفلاتها عن لجام الدولة، فقال إن الوزير (واستخدم هنا اسمه) يسجل شركة حكومية مملوكة لوزارة الصناعة، ثم تسجل هذه الشركة شركة أخرى ملاكها أولاد الوزير وبناته. فيقوم الوزير بتحويل عطاءات شركة وزارته إلى شركة ابنه أو ابنته أو هما معاً. وتكسب مالاً من عملة صعبة يتراكم في الخارج. فيقول الوزير بعد ذلك لأبنائه عودوا بذلك المال للسودان بعد تسجيل شركة أجنبية. وما جاءت تلك الشركة إلى السودان حتى حصلت على ميزات المستثمر الأجنبي. فإذا عرضت الحكومة بعض أملاكها للبيع اشترتها هذه الشركة الأجنبية. وهكذا أخذ المال المسروق من الدولة دورته، بدأ بشركة حكومية ثم شركة خاصة بالوزير، ثم شركة أجنبية تشتري ممتلكات الحكومة. وقال إن الشركات الحكومية التي تستبيح المال العام هكذا بلغت 413 شركة ما بين عامي 2013 و2014.
مصطلح الشفشفة
تعارف السودانيون على تسمية ما يقوم به المواطن من نهب ما تقع عليه يده في أيامنا هذه بـ"الشفشفة"، وهي في الغالب من "شف" التي هي "بص" أو "غش" عند غيرنا، أي أن يختلس الطالب النظر إلى ورقة إجابة زميله وينقلها غير مجتهد إلى ورقة إجابته. وفي لغة السودانيين مع ذلك لفظ أدل على مثل ذلك النهب وهو "شلع"، أي أن تنزع الشيء رأساً على عقب لا يبقى منه ولا النذر. وظهر قبل أيام فيديو لبعض مواطني الظواهر السلبية وقد نزعوا سقف أحد البيوت عن آخره وجعلوا مادته أكواماً لترحيلها إلى الأسواق التي انفتحت لهذه التجارة.
ولا نعرف عبارة سودانية انطبقت على مثل هذا التشليع في مثل قولنا "إذا خربت دار أبوك شيل لك منها شلية"، وهذا درك في محاق البلد لم تتداركه محاولات سبقت لتنزيه المال العام من لصوصه. فجرجرت دولة الإنقاذ رجليها طويلاً من دون أخذ فاسديها بقوة. ومع شيوع الفساد الفادح اضطرت في أصيلها عام 2018 إلى إعلان حملة باسم حرب "القطط السمان" بافتتاح مقر للجنة للتحقيق في ثرائهم تابعة لـ"جهاز الأمن والمخابرات". وقال الرئيس عمر حسن البشير آنذاك الذي كان يلزم كل متهم لرجال دولته ونسائها بالفساد أن يبرز الأدلة على صدقه، مخاطباً حفل الافتتاح أنه مهموم بمكافحة الفساد باعتباره "سوساً ينخر في عضد الدولة والمجتمع ويخلق طبقات طفيلية" ومؤكداً أن تلك الحرب عليهم لن تتوقف حتى تحقق أهدافها. وسقطت حكومته من دون تحقيق أي شيء مما وعدت.
وأقرب ما يكون التشليع، كعمل معارض، إلى التفكيك الذي جاءت به ثورة عام 2018 أي تفكيك دولة الإنقاذ بقانون هو قانون تفكيك نظام الإنقاذ (2019) الذي أراد رد الاعتبار للمال العام بالكشف عن بؤر الفساد في ذلك النظام ومحاسبتها، وأجهضت القوى المضادة للثورة تلك الخطة بقدر ما أصابها من سوء أدائها هي نفسها الذي غلبت عليه شعواء المعارضة بدلاً من رصانة الحكم، فنفرت كثيرين ممن أحسنوا الظن بها في أول الأمر، ثم وقع انقلاب أكتوبر (تشرين الأول) عام 2021 على الحكومة الانقلابية الذي لم يكتفِ بتعطيل عمل لجنة التفكيك فحسب، بل سلط القضائية فألغت كل مقررات اللجنة بجرة قلم. وقامت الحرب وتهافتت الدولة، وخرج "المواطن السلبي" بالشفشفة يأخذ "شلية" من دار أبيه الخربة.
وهذه الشفشفة ممارسة في هذه الحرب لم تستقل بتحرٍّ خاص فيها لمعرفة أوثق بنظام "الإنقاذ" الذي هو ليس أطول عهود الحكم في دولة 1956 إذا شئت فحسب، بل مكّن بنيات في الدولة والسياسة والثقافة ستبقى معنا لزمن طويل. وليست الشفشفة القائمة في يومنا سوى "تفكيك" عاقب له وللبلد "صامولة صامولة"، وهي العبارة التي اشتهرت من على لسان وجدي صالح عضو لجنة التفكيك المنحلة. وإذا حملتنا العبارة قلنا "سرق سرق سراق" على أني أعرف أنه شر عم.
ibrahima@missouri.edu
ملخص
هذه الشفشفة ممارسة في هذه الحرب لم تستقل بتحرٍّ خاص فيها لمعرفة أوثق بنظام "الإنقاذ" الذي هو ليس أطول عهود الحكم في دولة 1956 إذا شئت فحسب، بل مكّن بنيات في الدولة والسياسة والثقافة ستبقى معنا لزمن طويل.
رفعت دولة الإنقاذ يدها عن ولاية المال العام بوجوه فصارت دولة لصوصية لا فاسدة كما ذاع.
كان بعض منسوبيها من أزاح عنها الستار بقوة. كان رئيس تحرير جريدة "الأحداث" عادل الباز قلماً سنيناً في الكشف عن لصوصية نظام هو منه. ففي مقالته "... شرعنة الفساد"، عدّد أهوال الفساد في بنك السودان الذي غَفل عن شركات الدواء بلا رقيب تنهب المليارات باسم استيراد الدواء ولا دواء. فتتسرب ملايين الدولارات إلى الخارج لأن البنك لم يراجع حصائل الصادرات. كما أذن للناهبين الاستيلاء على تريليونات الجنيهات من البنوك التجارية في مرابحات صورية وخداع. فانتفعت من ذلك التفريط شركات بأسماء وهمية ومزيفة. وفي مقالة أخرى كشف عن انفلات الشركات الحكومية التي قام عليها من سماهم "ثلة من خلصاء الحزب الحاكم"، وهم وزراء أقوى من وزير المالية حتى إن وزارته لم تعُد لها الولاية على شركاتهم. فإيراداتها تخص الوزارة، أو على الأدق، تخص الوزير وتحت تصرفه المباشر، مما عرف بـ"التجنيب"، أي إن إيرادات الوزارة وشركاتها تؤول إلى الوزارة نفسها لا تلقى منها وزارة المالية قرشاً أحمر. ومدح البشير نهج التجنيب ذلك في كلمة شهيرة، فزار يوماً وزارة ما ووجدها حسنة السمت والأثاث، فقال لتجنبوا جميعاً حين علم أن ذلك البهاء كان بمال مجنب.
ومن خصائص "دولة اللصوص"، تحول السلطة فيها إلى ثروة، وسبق لمثل من دارفور أن أصاب هذا المعنى بقوله "حكم في ساق ولا مال في خناق"، أي إنه إذا خُيّر المرء بين أن يكون ذا سلطة "حكم" ولو قل مقدارها "للساق"، أو أن يكون غنياً يبلغ ماله حد عنقه طولاً فأولى به أن يختار الأولى السلطة. فالسلطة، في خاتمة المطاف، هي مورد المال الذي لا ينقطع. وسلطان القلم هذا ما كاشف به الإسلامي ووزير الصناعة في دولة الإنقاذ موسى كرامة، زملاءه في جلسة من مجالس شوراهم، فقال إن القلم في "الإنقاذ" هو مصدر غنى جماعات منهم. فبالقلم تسجل شركات وتوقع عطاءات وتمنح فيزات وما شاء. فالقلم، عليه، ثروة ومصدر ثروة، وعرج على الشركات وانفلاتها عن لجام الدولة، فقال إن الوزير (واستخدم هنا اسمه) يسجل شركة حكومية مملوكة لوزارة الصناعة، ثم تسجل هذه الشركة شركة أخرى ملاكها أولاد الوزير وبناته. فيقوم الوزير بتحويل عطاءات شركة وزارته إلى شركة ابنه أو ابنته أو هما معاً. وتكسب مالاً من عملة صعبة يتراكم في الخارج. فيقول الوزير بعد ذلك لأبنائه عودوا بذلك المال للسودان بعد تسجيل شركة أجنبية. وما جاءت تلك الشركة إلى السودان حتى حصلت على ميزات المستثمر الأجنبي. فإذا عرضت الحكومة بعض أملاكها للبيع اشترتها هذه الشركة الأجنبية. وهكذا أخذ المال المسروق من الدولة دورته، بدأ بشركة حكومية ثم شركة خاصة بالوزير، ثم شركة أجنبية تشتري ممتلكات الحكومة. وقال إن الشركات الحكومية التي تستبيح المال العام هكذا بلغت 413 شركة ما بين عامي 2013 و2014.
مصطلح الشفشفة
تعارف السودانيون على تسمية ما يقوم به المواطن من نهب ما تقع عليه يده في أيامنا هذه بـ"الشفشفة"، وهي في الغالب من "شف" التي هي "بص" أو "غش" عند غيرنا، أي أن يختلس الطالب النظر إلى ورقة إجابة زميله وينقلها غير مجتهد إلى ورقة إجابته. وفي لغة السودانيين مع ذلك لفظ أدل على مثل ذلك النهب وهو "شلع"، أي أن تنزع الشيء رأساً على عقب لا يبقى منه ولا النذر. وظهر قبل أيام فيديو لبعض مواطني الظواهر السلبية وقد نزعوا سقف أحد البيوت عن آخره وجعلوا مادته أكواماً لترحيلها إلى الأسواق التي انفتحت لهذه التجارة.
ولا نعرف عبارة سودانية انطبقت على مثل هذا التشليع في مثل قولنا "إذا خربت دار أبوك شيل لك منها شلية"، وهذا درك في محاق البلد لم تتداركه محاولات سبقت لتنزيه المال العام من لصوصه. فجرجرت دولة الإنقاذ رجليها طويلاً من دون أخذ فاسديها بقوة. ومع شيوع الفساد الفادح اضطرت في أصيلها عام 2018 إلى إعلان حملة باسم حرب "القطط السمان" بافتتاح مقر للجنة للتحقيق في ثرائهم تابعة لـ"جهاز الأمن والمخابرات". وقال الرئيس عمر حسن البشير آنذاك الذي كان يلزم كل متهم لرجال دولته ونسائها بالفساد أن يبرز الأدلة على صدقه، مخاطباً حفل الافتتاح أنه مهموم بمكافحة الفساد باعتباره "سوساً ينخر في عضد الدولة والمجتمع ويخلق طبقات طفيلية" ومؤكداً أن تلك الحرب عليهم لن تتوقف حتى تحقق أهدافها. وسقطت حكومته من دون تحقيق أي شيء مما وعدت.
وأقرب ما يكون التشليع، كعمل معارض، إلى التفكيك الذي جاءت به ثورة عام 2018 أي تفكيك دولة الإنقاذ بقانون هو قانون تفكيك نظام الإنقاذ (2019) الذي أراد رد الاعتبار للمال العام بالكشف عن بؤر الفساد في ذلك النظام ومحاسبتها، وأجهضت القوى المضادة للثورة تلك الخطة بقدر ما أصابها من سوء أدائها هي نفسها الذي غلبت عليه شعواء المعارضة بدلاً من رصانة الحكم، فنفرت كثيرين ممن أحسنوا الظن بها في أول الأمر، ثم وقع انقلاب أكتوبر (تشرين الأول) عام 2021 على الحكومة الانقلابية الذي لم يكتفِ بتعطيل عمل لجنة التفكيك فحسب، بل سلط القضائية فألغت كل مقررات اللجنة بجرة قلم. وقامت الحرب وتهافتت الدولة، وخرج "المواطن السلبي" بالشفشفة يأخذ "شلية" من دار أبيه الخربة.
وهذه الشفشفة ممارسة في هذه الحرب لم تستقل بتحرٍّ خاص فيها لمعرفة أوثق بنظام "الإنقاذ" الذي هو ليس أطول عهود الحكم في دولة 1956 إذا شئت فحسب، بل مكّن بنيات في الدولة والسياسة والثقافة ستبقى معنا لزمن طويل. وليست الشفشفة القائمة في يومنا سوى "تفكيك" عاقب له وللبلد "صامولة صامولة"، وهي العبارة التي اشتهرت من على لسان وجدي صالح عضو لجنة التفكيك المنحلة. وإذا حملتنا العبارة قلنا "سرق سرق سراق" على أني أعرف أنه شر عم.
ibrahima@missouri.edu