الصراع السياسي على فكرة غائبة

 


 

 

إذا كانت العلوم الاجتماعية تؤسس فيها المعرفة على منهج علمي يرصد الظاهرة و متابعتها، و وضع الفرضيات و قراءة هذه الفرضيات على سياق المنهج البحثي و كذلك العلوم التطبيقة تستخدم ذات المنهج العلمي الذي يدرس الظاهرة و يتابعها عبر التجارب و التطبيق، أما السياسة تؤسس على الفكرة، و كيفية تنزيل الفكرة للواقع، بهدف الوصول للنتائج التي تؤدي للأستقرار السياسي و النهضة بهدف أن يعيش الناس الحياة الكريمة و الترفيه. لكن الغريب في الأمر أن الصراع في سودان تغيب عنه الفكرة.
أن العقل السياسي بعد الاستقلال أهمل الفكرة تماما، رغم أن الفكرة هى التي جعلت القوى السياسية تحقق الاستقلال. و كان يجب عليهم أن يحافظوا عليها، لكي تنقلهم من حالة التحرير لمرحلة التعمير. لكن فشل العقل السياسي أن ينجز مرحلة الانتقال. حيث فتنتهم السلطة. و تبنوا فكرتها لكي تملأ الفراغ السياسي الذي يخلفونه، و ظل الصراع مستمرا من أجل السلطة، و تعثرت عجلة الديمقراطية، لآن السلطة أدخلت لاعبا جديدا ( الجيش) استطاع أن يجعل ميزان القوى يميل لصالحه. الغريب في الأمر: أن العقل السياسي لم يستطيع استيعاب العلاقة بين العسكريين و المدنيين، من خلال التجارب المختلفة التي مرت على الدولة، حيث كانت الأحزاب تحرض عناصرها داخل المؤسسة العسكرية بعمل انقلاب، ثم تختلف معها حول من يسيطر على السلطة، و تنهزم القوى المدنية، لسببين الأول ميل ميزان القوى للعسكرين باستخدامهم الأداوات العسكرية. الثاني لأنها تعجز أن تقنع الشارع أن يقف معها في هذا الصراع، و الغريب في الأمر أنها تخرج من المعركة خاسرة تنظيميا و معنويا، و لكنها لا تقييم تجربتها، و لا تستفيد منها تاريخيا، و تقع مرة أخرى في ذات الأخطاء ثلاث و رباع.
بعد عزل البشير بالقوة العسكرية التي تقبض عليها اللجنة الأمنية، كان المتوقع: بعد التوقيع على (إعلان الحرية و التغيير) أن تجلس كقوى متحالفة رغم أنها تختلف في توجهاتها السياسية أن تجلس و تتوصل إلي اتفاق الحد الأدنى ( المشروع السياسي للفترة الانتقالية) التي تشكل خارطة طريق، و تحاسب علي ضوئها القوى السياسية، لكنها للأسف أنها أهملت الفكرة، و تبنت فكرة السلطة التي جاءت بمصطلح ( المحاصصات) و هي فكرة تنتج دائما عوامل الصراع المستمر. فالسلطة التي تجمع تيارات مختلفة، و قوى متباينة مدعاة للصراع، خاصة تتحكم فيها المصالح الحزبية و الشخصية. الأمر الذي جعلها تصل أيضا لمساومة سياسية مع العسكر عبر اتفاق تم رعايته من الخارج. و تظل الفكرة في دائرة السلطة، الأمر الذي أفرز كل هذه الأزمات.
و كما يقول المفكر ديفيد هيوم: أن الإبداع العقلي هو الوصول للفكرة الإيجابية في صناعة المستقبل. و الفكرة سوف تتداع لها الأفكار الأخرى. أي أنها لا تقف في حدودها؛ و لكنها تفرز أفكار توسع دائرة الفكرة، لكي ترسم ملامح مشروع الفكرة المستقبلي. فهل العقل السياسي السوداني يعيش الآن حالة من الجمود؟ أم أن العقل قد تم توظيفه في قضايا هامشية أو مصالح خاصة تظهره بمظهر القدرات المتواضعة غير القادرة على استنباط الحلول؟
الآن البلاد تعيش في أزمات تقبض بخناق بعضها البعض، دون أن تتفتق على فكرة تستطيع أن تنقل البلاد لعتبة جديدة. ظل العقل السياسي يركن للمنهج التبريري حتى لا يعترف باخطائه، و غير قادر على إدراك تناقضات الواقع، لكي يستطيع أن يقدم تحليلا صائبا يفتح منافذا لدخول الهواء النقي الذي يساعد على تحريك هذه العقول في الاتجاه الصحيح.
و إذا نظرنا لواقعنا بعين فاحصة، و مراقبة الساحة السياسية نجد أن الغائب ( الفكرة و المفكر) لآن دور المفكر أن يحدث أختراق في الجدل السياسي الدائر الذي لا يقدم حلولا لكي يخلق واقع جديد للتفكير، من خلال طرح أسئلة جديدة في المجتمع، لكي تنقل الناس لمربعات متقدمة. هذا الغياب له أثارا سالبة في الساحة السياسية، أنه يكرر الموضوعات بشكل يؤدي إلي الملل، و يخلق حالة من الاستقطاب الحاد التي يغيب فيها دورالعقل، و تصبح الاتهامات و الخروج على الموضوعية مسألة عدمية، تنتج العنف اللفظي بين المتحاورين. الأمر الذي يخلق وعيا زائفا في المجتمع غير مستند على حقائق و لا معلومات صحيحة.
أن الساحة السياسية لكي تخرج من أزمتها تحتاج لطريقة جديدة في التفكير، هي في حاجة أن تسقط كل حمولاتها التاريخية من الإرث الثقافي السياسي الذي خلف تراكمات من الفشل. أن الرهان على الأجيال الجديدة ليس من باب صغر أعمارهم، و لكن أن يأتي هؤلاء بطريقة مخالفة للتفكير الذي كان سائدا و مايزال مستمرا بعثراته، جيل يفكر خارج الصندق الذي تمت صناعته منذ الاستقلال و مايزال باق يحمل كل إشكاليات الأجيال السابقة و فشلها، جيل ينطلق من منصات المعرفة و المناهج العلمية لكي يغير حتى لغة الخطابات السياسية السائدة. و ننتظر. نسأل الله التوفيق.

zainsalih@hotmail.com

 

آراء