الصيام مفتاح لمشاهدة الآيات واكتشاف كفاءة الذات

 


 

 

د. السر أحمد سليمان

ارتبطت عبادة الصيام في الإسلام بشهر رمضان؛ قال الله عزّ وجلّ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون}[البقرة:185].
فالصيام مرتبط بشهر رمضان، وإكمال عدة هذا الشهر صوما ليس أمرا صعبا على المسلم كما هو معلوم، بل هو يسر، ومستوجب للشكر كما ورد في الآية أعلاه، ولذلك فإنّ الصيام عبادة مرتبطة بالعلم بالكونيات من جانب؛ ومن جانب آخر ارتبط شهر رمضان بتغيير عادات الإنسان من خلال عملية الصيام. وسوف نبين ذلك فيما يلي:
الصيام ومشاهدة الآيات:
يتم تحري ظهور هلال رمضان بعد آخر يوم في شعبان، كما هو معلوم في البلدان الإسلامية. وهناك نقاشات كثيرة حول هذا الموضوع، وهناك نقاشات أيضا عن الطرق والأدوات التي ينبغي أن تستخدم في تحري رؤية هلال رمضان، أو من خلال حسابات إكمال شعبان ثلاثين يوما؛ بناء على التوجيه النبوي:
"صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فإنْ غُبِّيَ علَيْكُم فأكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ". (صحيح البخاري).
وهذا الأمر يشير إلى أنّ المسلم ينبغي ألا يكون منفصلا عن الكون وآياته، بل عليه أن يتعامل معها بإقبال كبير وألا يكون معرضا عنها أبدا، لأنّ التعامل مع الآيات الكونية مرتبط بالإيمان؛ قال الله عزّ وجلّ في سورة يوسف:
{وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُون (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُون (106)}.
والتعامل مع الآيات الكونية ينبغي أن يتم بعلم عميق وحساب دقيق؛ وخاصة التعامل مع الشمس وضيائها؛ والتعامل مع القمر ونوره ومنازله، كما قال الله عزّ وجلّ:
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون}[يونس:5].
ومع أنّ علماء المسلمين في السابق قد اهتموا بعلوم الآيات الكونية ونبغ فيهم كم كبير من الأعلام في مجالات الفلك والفضاء كأبي جعفر الطوسي وأبي ريحان البيروني وثابت بن قرة وغيرهم؛ إلا أنّنا نلاحظ فراغا كبيرا وتخلفا مريرا في العصور المتأخرة والعصر الحالي في مجالات علوم الفضاء والفلك لدى المجتمعات المسلمة.
ولهذا ينبغي ألا نفصل الصيام عن العلم بالآيات الكونية والبحث فيها، وبهذه المناسبة ينبغي أن يتم تكثيف الجهود الدعوية والتعليمية والبحثية في مجال الكونيات، وأن يتم دعم هذا المجال بكل ما يتطلبه من مقومات، وأن تنشأ له البرامج التعليمية والمراكز العلمية البحثية، وأن يتم نشر ثقافة علوم الكونيات، ويستقطب لها النابهين من الطلبة من أجل تطويرها والكشف عن دقيق آياتها للاستفادة منها، لأنّها مسخرة لمصلحة الإنسان كما قال الله عزّ وجلّ:
{اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَار (32) وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَار (33)} [سورة إبراهيم].
الصيام واكتشاف كفاءة الذات:
عندما يشرع المسلم في الصيام، ويتخلى عن تناول طعامه وشرابه والمفطرات الأخرى التي كان يفعلها في الأوقات المعهودة، ويستطيع أداء الصلوات المفروضة في أوقاتها، ويستطيع أداء صلاة القيام والتهجد بالليل، ويستطيع أن يقرأ القرآن كله أو أجزاء منه، وتكون لديه القابلية لمساعدة الآخرين، مع استمراره في عمله ومهنته العادية يشعر وكأنّه قد اكتشف شخصية أخرى لذاته، وكأنّ هناك وقت جديد أضيف لوقته السابق!
ويتساءل من أين لي بهذه الطاقات، ومن أين لي بهذا الوقت لإنجاز كل هذا؟ فقبل أيام لم أكن أشرع في عمل إلا بعد أن أتناول إفطاري! وكنت لا أستطيع أن أقرأ وجها من المصحف لأني أشعر بأنه لا وقت لي! فمن أين لي بكل هذا؟

والإجابة تكمن في أنّنا لا نكتشف ذواتنا، ولا نعرف مدى كفاءاتنا وفعالية ذواتنا، فكأنّما الصيام هو مفتاح لاكتشاف كفاءة الذات، وكأنّما الصيام هو المحرر للإنسان من قيود الوهم والعادات التي تعوقه عن الفاعلية في الأداء والإنجاز، وهو الموقظ للإنسان للانطلاق واستثمار الإمكانات الضخمة التي لديه.
وكفاءة الذات هي مفهوم سايكلوجي يشير إلى مجموعة الأحكام التي يعتقدها الفرد عن إمكاناته، والتي بموجبها يستطيع أن يقرر مدى قدرته على إنجاز مهمة ما، ومدى مقدرته على المثابرة لتحدي الصعاب لكي ينجز مهمة من المهام.
ومع أنّ مفهم كفاءة الذات في علم النفس الحديث يشير إلى جوانب محددة من شخصية الفرد وتظهر من خلالها مستويات الكفاءة، إلا أنّ هذا المفهوم ومن خلال الصيام يتسع لإظهار جوانب أخرى لم يتطرق إليها علم النفس الحديث.
والجوانب التي تتضمنها كفاءة الذات في علم النفس تشمل ثلاثة أنواع هي:
• أولا: الكفاءة الذاتية العقلية المعرفية التي ترتبط بالأفكار التي تؤثر على الفردي في تحديد رؤيته للأشياء ووضعه للأهداف، وتقييمه لقدراته، وتطلعاته وطموحاته.
• • ثانيا: الكفاءة الذاتية العاطفية الانفعالية التي ترتبط بالمشاعر والعواطف ومدى المقدرة على الإحساس بها وتوظيفها وضبطها والتحكم فيها لإنجاز المهام بدون خوف ولا قلق ولا توتر ولا تردد ولا خجل. فيكون الفرد هادئا عندما يتطلب الأمر هدوءا ويكون متحفزا ونشطا عندما يتطلب الأمر شيئا من ذلك.
• • ثالثا: الكفاءة الذاتية السلوكية، والتي ترتبط بالأنشطة والتفاعلات الاجتماعية والإمكانات التواصلية مع الآخرين بفاعلية وإيجابية.

والملاحظ أنّ الصيام تظهر معه الكفاءة في الجانب الروحي الذي يجعل الفرد نشيطا على العبادات، وقادرا على أدائها؛ ولذلك تزدحم المساجد بالمصلين، ويقفون الساعات الطوال يسمعون القرآن وهم قيام، وينشطون في فعل الخيرات يتمثلون سيرة النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في الحديث: "كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أجودَ الناسِ بالخيرِ، وكان أجودَ ما يكون في شهرِ رمضانَ حتى ينسلِخَ، فيأتيه جبريلُ فيعرضُ عليه القرآنَ، فإذا لقِيَه جبريلُ كان رسولُ اللهِ أجودَ بالخيرِ من الرِّيحِ الْمُرسَلَةِ". (صحيح البخاري).
وبناء على الكفاءة الذاتية الروحية يصبح إشباع الحاجات عند المسلم مختلفا عن التصور الذي وضعه ابراهام ماسلو في الهرم الشهير الذي يجعل إشباع الحاجات العضوية هو الأساس والقاعدة التي ينطلق منها الإنسان لإشباع الحاجات الأخرى.
فالكفاءة الذاتية الروحية تجعل إشباع الحاجات العضوية من طعام وشراب وجنس في آخر الترتيب، وتجعل إشباع الحاجات الروحية مقدمة على ذلك ولها الأولوية فيكف الفرد عن كل تلك الحاجات العضوية ويصوم عنها من أجل الطاعة والتقوى، كما ورد في الحديث القدسي: "يقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: الصَّوْمُ لي وأنا أجْزِي به، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وأَكْلَهُ وشُرْبَهُ مِن أجْلِي، والصَّوْمُ جُنَّةٌ". (صحيح البخاري).
والكفاءة الروحية التي يكشفها الصيام ترتقي بالإنسان مراقي رفيعة، ففي العشر الأواخر من رمضان يتكثف الجهد التعبدي، إلى الاعتكاف في المساجد، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم: "كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وأَحْيَا لَيْلَهُ، وأَيْقَظَ أهْلَهُ". (صحيح البخاري).
ولذلك تنمو الكفاءة الروحية مع الصيام إلى أن يصل المسلم إلى مرتبة صوم القلوب عما سوى الله تعالى كما يقول الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين عن أسرار الصيام: "فصوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية، وكفه عما سوى الله عز وجل بالكلية. ويحصل الفطر في هذا الصوم بالفكر فيما سوى الله عز وجل واليوم الآخر، وبالفكر في الدنيا إلا دنيا تراد للدين، فإنّ ذلك من زاد الآخرة، وليس من الدنيا. حتى قال أرباب القلوب: من تحركت همته بالتصرف في نهاره لتدبير ما يفطر عليه كتبت عليه خطيئة، فإنّ ذلك من قلة الوثوق بفضل الله عز وجل وقلة اليقين برزقه الموعود، وهذه رتبة الأنبياء والصديقين والمقربين ولا يطول النظر في تفصيلها قولا ولكن في تحقيقها عملا، فإنّه إقبال بكنه الهمة على الله عز وجل وانصراف عن غير الله سبحانه وتلبس بمعنى قوله عز وجل: {... قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُون} [الأنعام : 91].

نسأل الله أن يبلغنا رمضان وأن يعيننا على صالح الأعمال، وكل عام وأنتم بخير.
د. السر أحمد سليمان
أستاذ علم النفس بجامعة حائل
السعودية

sirkatm@hotmail.com

 

آراء