العملاق الذي يبكي بلا دموع: لمًن كانت الموردة بتلعب يا المحينة
* كانت للمحينة قدرة على هز الشباك كالزلازل ذات السبعة درجات بمقياس ريختر!
* عندما كُسرت رجله وقف شعر رأس جماهير السودان من الذهول وهي تتابع المباراة عبر المذياع في كل مدن السودان!.
* أغفر لنا ،، أيها العملاق الذي (بكيناه بدموع).
حسن الجزولي
* العصريات في حي الموردة بأم درمان ليست كعصريات باقي أحياء المدينة التي بُنيت من تراب وسُقفت من عدم. ففي حين تخلد أحياؤها وبقية أحياء العاصمة الأخرى لقيلولة الظهيرة، بعد يوم عمل ينتهى في الثانية ظهراً، ريثما تعاود الضنك بعد فترة من الهجوع والتعسيلة على وسادات الأماني العذبة في زمان ولى، كان حي الموردة، وخاصة الجزء الشمالي منه، المتاخم للبوابة وشارع حامد توفيق ومحطة الدايات وحي الهاشماب وفريق ريد، كان يا دوبك ينشط في حركة دائبة أمام بوابات المبنى الرياضي العتيق وعريق، حيث تتزاحم في بواباته جماهير العصرية لكرة القدم التي كانت تجرى في ذاك الوقت، جنباً لجنب مع زحام بائعي الترمس والتسالي وجرادل المياه الباردة وقصب السكر وشختك بختك وجياد السواري، وهكذا يدلف الجمهور لينتظم داخل دار الرياضة بأم درمان لتمتلئ مقاعدها به، ريثما تنطلق شارة مباراة العصرية للضربة الأولى، إعلاناً لبداية الشوط الأول للمباراة، من صفارة أبوجيد يونس أو عبد الله القرقور أو الحاج هاشم، أو يوسف محمد، أو قل خليفة موسى، عبيد عبد الرحمن، عبد الرحمن عكس، أو غيرهم من حكام ذاك العصر الذهبي للكرة السودانية.
* في ذاك العصر الفريد برزت الأندية الرياضية في ذلك الملعب، والذي شهد مباريات دوري الأولى وبطولات كأس البلدية وكأس المعلم. وغيرها من مناسبات اجتماعية ووطنية كتخريج ضباط الديش أو البوليس أو عروض الكشافة وبرامج الاتحاد النسائي السوداني، وخاضت بعض من الأندية الأوروبية التي زارت البلاد مباريات على ملعب دار الرياضة مع الموردة والهلال والمريخ، أشهرها كان الهونفيد المجري وليفربول الإنجليزي وسبارتاك التشيكي، داخل أول استاد رياضي لكرة القدم بالسودان منذ أن أصدر مستر برمبل مفتش مجلس بلدي أم درمان قراره في ثلاثينات القرن الماضي، بتحويل المبنى التاريخي العريق الذي كان مقراً للبنك المركزي التابع لوزارة المالية والاقتصاد الوطني للدولة المهدية، إلى استاد رياضي.
* في ذاك العصر الفريد برز عدد من أشهر وأحرف لعيبة كرة القدم السودانية من الذين صالوا وجالوا داخل دار الرياضة بأم درمان ،، لعيبة من ثقل وطراز كل من حسن العبد، دريسة، برعي، عمرعثمان، صديق محمد أحمد، برعي أحمد البشير، عبد الله عبيد، صديق منزول، ود الزبير، حسن أبو العائلة، حسن عطية، عمر عثمان، عمر التوم، بكري عثمان، حتى نصل لأنجم جيل الستينات أمثال ناس أمين زكي وماجد وجكسا وود الأشول والكوارتي وديم الصغير.
* في ذاك العصر الذهبي ووسط كل أولئك الأفذاذ، سطع اسم سليمان دفع الله المحينة، ابن الجموعية المنتمي للموردة كفريق رياضي عريق وحي أعرق.
* كأي من صبية الحي والعاصمة وأم درمان، تدرج المحينة من صبي جامع للكرات المرتدة لداخل الميدان في بداية خمسينات القرن الماضي، إلى لاعب بالدرجة الثانية، وانتقاله سريعاً لفريق الموردة بعد أن عمدته جماهير مدرجات دار الرياضة، كلاعب فذ واجمعت على مستقبله الباهر في الميادين، حيث كان هذا ديدن جمهور المدرجات بدار الرياضة وقتها، فقد كانت بمثابة (الذواقة) لتأكيد جودة المنتج، وهو ما حدى بالنقاد الرياضيين في أوساط صحفيي تلك الفترة لأن يطلقوا على ذاك الجمهور في أحايين كثيرة بأنه بمثابة (اللاعب رقم 12 ) (والاداري رقم واحد). وها نحن نضيف لذلك (المراقب رقم صفر) في الفترة الأخيرة ،، إن لم يرض بقرارات حكم المباراة، نقول قولنا هذا وذلك بعد تكاثر مأساة خروج الحكام من المباريات التي يديرونها وهم في حماية الشرطة، مما يعد فضيحة لجمهورنا الرياضي وملاعبنا التي لم نرصد فيها أن ذلك كان يتم في ذاك العصر الفريد الذي نتحدث عن رونقه.
* كان تعميد جمهور دار الرياضة للمحينة قد تواصل بعد أن أثبت جدارته، لا لكي ينضم للفريق القومي والذي كان يسمى وقتها (الأهلي السوداني) فحسب، بل ليتم تتويجه ملكاً مقدراً يحسب له الف حساب في خانة الوسط، التي مثلت فيها رجلاه الاثنتان التي كان يجيد اللعب بهما، بحرفنة عجيبة هزً الشباك، كهاف ماشي، ضمن أخطر أرجل لاعبي ذلك الزمن في هزهم للشباك، هزاً تهتز معه جنبات المدرجات الرياضية كالزلازل ذات السبعة درجات بمقياس ريختر. ففي ذاك العصر الفريد كانوا يحكون عنه الطريف من الحكايات في مدرجات دار الرياضة بأم درمان، حينما قالوا أن المحينة سجل ذات مبارة هدفاً رائعاً برأسه في شباك الخصم، وعندما تمت معاتبة أحد لاعبي الدفاع الذي كان من المفترض التصدي للمحينة، دافع قائلاً: (أسوي ليهو شنو؟ والله العظيم نطيت لحد ما شفت ليكم عم الشقليني سايق الترماج في شارع الظلت برة في الشارع)، والشقليني هو أشهر سائقي خط الترام في تلك الفترة بين المحطة الوسطى أم درمان والخرطوم.
* ذات عصر جميل باستاد أديس أبابا بداية ستينات القرن الماضي، وبين جماهير اكتظ بها الاستاد الفخم في قلب العاصمة الأثيوبية، ومع رزاز مطر استوائي منعش في تلك العصرية ذات السحب الداكنة، وقد شارفت المبارة بين الفريق الأهلي السوداني وغريمه الأثيوبي على نهاياتها، فإذا بعبد المطلب ناصر دريسة لاعب الهلال والفريق القومي ينفرد بالمرمى بعد تمريرة قلً أن تجود بها الملاعب من زميله المحينة، فيتقدم (دريسة) نحو مرمى الفريق الأثيوبي لتأكيد لقبه كـ (رجل للثواني) قبل أن يحرز الهدف اليتيم الذي يتوج به السودان منتصراً في تلك المباراة، ولكن تأبى المأساة إلا أن تحل لتفسد روعة النصر والمباراة في أنفاسها الأخيرة، حيث ترتد هجمة كروية يتصدى لها دفعة واحدة كل من المحينة وزميله حبشي، ليقع كل منهما أرضاً، فيهوى حبشي باندفاعته على الأرض من فوق رجل المحينة، فيصيبه بكسر في الساق، يستلقي المحينة على الأرض وهو يتلوى، وحبشي يقف مذهولاً أمامه في محاولة لاستنهاضه ،، لاستنهاض همته الرياضية والكروية، وهو – بالطبع لا يقصد تعطيلها أو إذائها – يقع المحينة على الأرض، ليقف شعر رأس جماهير السودان من الذهول وهي تتابع المباراة عبر المذياع في كل مدن السودان، وكذا تفعل الجماهير الأثيوبية مذهولة وقد تملكها الاعجاب من براعة اللاعب الفذ سليمان المحينة كلاعب مطبوع، فيطير نبأ الاصابة بكل رطانات أفريقيا من مراسلي أنباءها، ويعم النبأ الأوساط الرياضية، وهو يتصدر صحفهم وإعلامهم بالمينشيتات العريضة.
* عند هبوط طائرة الخطوط الجوية السودانية - بكل بهائها في ذلك الزمن - على مطار الخرطوم، تستقبل الجماهير المحتشدة فريقها العائد بالنصر، وتخص بالتحية والتقدير والمحبة بطلها الكروي سليمان دفع الله المحينة، الذي يترجل من سلم الطائرة محمولاً على نقالة طبية والجبص الأبيض يغطي كامل الرجل المعطوبة، التي كانت قبل ساعات ساحرة وماهرة وباهرة وعلى مدى سنوات داخل أرض الملاعب.
* إن هي إلا فترة قصيرة يغادر بعدها المحينة إلى لندن طلباً للعلاج لمدة أكثر من ثلاثة أشهر، ولكن يأتي تقرير الأطباء البريطانيين النهائي صادماً ومؤسفاً، بأن لا رجعة للمحينة للملاعب مرة أخرى بعد تلك الحادثة المأساوية.
* تمر السنوات وتكر كر المسبحة، تتعاقب الأجيال، ويرث الملاعب آخرون، وإدارات الأندية كذلك تمتلئ مقاعدها الوثيرة بإداريين آخرين، لهم شركاتهم القابضة وتجارتهم الرابحة، ولهم ياقاتهم البيضاء وأربطة العنق الأنيقة والعطور الباريسية الفواحة والسيارات الفارهة وتسريحات الرأس، التي قال عن باروكات شعرها حبيبنا الشاعر أمل دُنقل ما قال، كما تمتلئ الملاعب بجماهير تحل محل تلك التي كانت تستمتع بتمريرات المحينة وزملاء المحينة، وهكذا ورويداً رويداً يتغير الزمان، فيتحول (المحينة) ليعيش (محنته) الأبدية.
* لقد تابعت الأوساط الرياضية ومجتمعات العاصمة وأم درمان، أنباء تدهور الحالة الصحية والاجتماعية والأوضاع المأساوية التي كان يعيش فيها ساحر رياضي أمتع الجماهير لعقود وطرب الناس لفنه الكروي، كافة المشجعين من الأندية الأخرى، صغيرها وكبيرها من الذين كانوا يطربون لمهارته، وظل الفقر والعوز يحيطان بحياته، فظل يهيم على الطرقات بلا راعي أو عطوف أو كريم يحسن إليه، تلفظه حواري الموردة من زقاق لآخر ومن ظل ينزوي لآخر يتمدد، ومن تحت شجرة تخترقها أشعة شمس حارقة لأخرى لا تحتمل هي الأخرى ولو جليس وحيد تحتها. ورغم تناقل بعض الصحف والدوريات ومحاولات بعض الأوفياء انقاذ ما يمكن انقاذه، ترحماً وبراً بنجم كان يسطع في قامة المحينة، إلا أن المأساة تكبر وتتسع، في ظل مسؤولين في دولة سخيفة جاحدة بشعة طاردة مؤذية ضنينة غير عطوفة ولا يهمها ذلك في كثير أو قليل، تسحب أيادي العطاء من أمام مستحقيها من أولاد بلد ظلوا يقومون ويجلسون على كيفهم وحيثما شاؤا، ولا تبسطها إلا لمن تعتقد أنهم المستحقون في أوساطها ومريديها وحدهم، فينطبق عليها وعليهم مثال عطاء من لا يملك لمن لا يستحق.
حين تراها – الدولة العجيبة وغريبة - لا تبخل بعطاياها للفريق القومي المصري، فتمنح بسخاء لكل من لاعبيه مبلغاً محترماً من مال الشعب السوداني إضافة لسيارة آخر موديل أيضاً، وحين تراها تسمح بالبذخ والمسخرة في أوساط منظمات شبابية وطلابية تابعة لها فيتم إهدار أموال الشعب السوداني في شراء السيارات الفاخرة بملايين الجنيهات، وحين تراها الدولة المكبرة صباحاً ومساءً (هي لله هي لله ،، لا للسلطة ولا للجاه)، ورغم ذلك يشاهد الناس القصور والعمارات المتطاولة في البنيات واقتطاع المساحات الكبيرة من الساحات الشعبية، بينما المحينة يعيش داخل بيت أقرب لأقفاص الدجاج البلدي وفراش نومه وملبسه عبارة عن أسمال وخرق بالية، بينما هو وأمثاله يتضورون جوعاً ومسغبة وإهمالاً وضياعاً، حتى لحظة رحيله بصمت في نهار غائظ من نهارات الأسبوع الماضي، فهل أن ذلك سيسدل الستار عن مأساة تظل شاخصة بكل تداعياتها أمام سلطة وسطوة وحكومة بكل وزاراتها ومؤسساتها ومكاتبها الجميلة ومقارها الأنيقة ومقاعدها الوثيرة وبداخلها رجال ونسوة يسبحون بحمده نهاراً جهاراً؟ ،، لا ،، فمأساة المحينة ورهطه الجميلين ستظل شاخصة بسبابتها نحو هؤلاء الكذبة، الفجرة آكلي السحت وأموال اليتامى وأبناء السبيل، طاعنة ومطاعنة بظنون في نخوتهم ورجولتهم ونسونتهم وخصالهم وطباعهم وعاداتهم وتقاليدهم التي يقولون عنها أنها تليدة، ومن خصال الإيمان وأخوة الاسلام.
عند هبوطه محمولاً على نقالة طبية من داخل الطائرة التي أقلته من أثيوبيا وأرجله داخل الجبص الطبي وهو يتبسم لجمهوره، كتبت إحدى صحف ذاك الزمان بالمينشيت العريض وهي تدعو لمزيد من التآذر معه: المحينة ،، العملاق الذي (يبكي بلا دموع).
وكذا نخال الوضع وهو محمول على آلة حدباء لمثواه الأخير بمقابر أحمد شرفي في ظهيرة يوم وفاته وكأن لسان حالنا جميعاً يردد بخجل وحسرة: سليمان يا ود دفع الله المحينة ،، أغفر لنا ،، أيها العملاق الذي (بكيناه بدموع).
لك الرحمة والمغفرة ولتعذرنا يا كابتن ،، فبينما كانت الموردة حقاً بتلعب (بإخلاص) ،، كان البعض منا ولا يزال ،، بلعب (بالوطن)!.
___________
* عن صحيفة الميدان
elgizuli@hotmail.com