الغرق في نهر النيل!! (مذكرات زول ساي)!!

 


 

 

 

 

كان من الممكن أن يكون ذلك اليوم يوم عمل عادي جداً جداً في مكتب المحاماة المتواضع الذي كنت املكه وأديره في سوق مدينة الحفير في شمال السودان والذي كان مجاوراً لفرن صديقي عبود (يعني كنت شبعان عيش حار!)، لكن حدث شيء جعل ذلك اليوم يوماً غير عادي على الإطلاق! عندما ذهبت إلى محكمة الحفير في أحد أيام عام 1995 للترافع بخصوص دعوى مدنية قابلت المحامي والصديق أنس دليل من سكان جزيرة منوارتي في قاعة المحكمة وكان قد حضر خصيصاً مع موكليه بسيارة بوكس من أجل الترافع في بلاغ جنائي، انتهت الجلسة التي تخصني فلملمت أوراقي وعدت إلى مكتبي بعد أن قمت بزيارة خاطفة إلى قسم الشرطة وتبادلت النكات والضحكات مع صديقي العسكري الفاتح الشايقي!

بعد ساعة توقف بوكس أمام مكتبي ودخل محامي منوارتي إلى مكتبي وقال لي بلهجة حميمية آمرة (يازول قفل مكتبك هسه وارح معاي الجزيرة)، لم يكن لدى جلسات أخرى في ذلك اليوم الممل الرتيب، فسارعت بإغلاق مكتبي وتحركنا بالبوكس حتى وصلنا بمحازاة جزيرة منوارتي، ومن هناك ركبنا مركب ووصلنا إلى منزل محامي منوارتي، كانت الجزيرة قطعة من الجنة وكان الاستقبال وكرم الضيافة في منزل محامي منوارتي غير عادي بحيث شعرت أنني قد حضرت إلى منزلي أهلي وأنني سيد بيت عديل كده ولست ضيفاً بأي حال من الأحوال!

بعد الغداء وأخذ قسط من الراحة، ركبنا مركباً آخر وعبرنا إلى منوارتي شرق، ثم قمنا بجولة تفقدية فيها وعند السابعة مساء ومع حلول الظلام عدنا إلى المرسى لنستقل المركب ونعود إلى جزيرة منوارتي لننام فيها، لم نجد أي مركب في الشاطيء، سألت محامي منوارتي بدهشة، أين المركب؟!، فرد قائلاً: (علينا الانتظار حتى يحضر مركب ناس الدفاع الشعبي) قلت له بحسم: (يا زول أنا ما بركب مركب ناس الدفاع الشعبي حتى لو جا هسه) ثم بسرعة خلعت ملابسي وقمت بلفها على رأسي ونزلت للنيل في الظلام وشرعت في السباحة، صاح محامي منوارتي من خلفي (يازول إنتا مجنون واللا شنو؟!) ، لم التفت له ولم اتوقف بل واصلت السباحة في النيل تحت جنح الظلام قاصداً جزيرة منوارتي ! على خلاف تيار النيل الأبيض الضعيف، فوجئت بتيار نهر النيل القوي جداً جداً، وبعد صراع طويل وقوي مع الأمواج وسباحة على الظهر لمدة طويلة وصلت إلى شاطي جزيرة منوارتي لكن التيار القوي جرفني لمسافة بعيدة جداً جداً من منزل محامي منوارتي! تسلقت إلى القيف وسقطت عدة مرات بسبب هشاشة النباتات التي كنت أحاول التمسك بها للصعود إلى القيف، في نهاية المطاف صعدت إلى القيف، قصدت أحد المنازل ، قابلني شيخ كبير ودعاني لتناول طعام العشاء لكنني قلت له إنني ضيف في الجزيرة ونازل في منزل محامي منوارتي وأنني ضللت الطريق وفي حاجة لمن يوصلني لمنزل محامي منوارتي، نادى الشيخ إبنه الذي أوصلني إلى منزل محامي منوارتي بعد مسيرة طويلة على الاقدام على طول الشاطيء، عندما دخلت منزل محامي منوارتي جلست على الأرض الرملية حتى لا يتسخ السرير لأنني كنت مثل سمكة البلبوط المغطاة تماماً من قمة رأسها إلى ذيلها بالطين الأسود اللزج، حضر أحد الشباب وتحدث معي وأنا جالس على الأرض فأخبرته عن المجازفة النيلية الليلية الرهيبة وقلت له: أنا لا أعرف ماذا فعل محامي منوارتي بعد أن نزلت أنا إلى النيل وسبحت في الظلام! أسرع الشاب إلى شاطيء النيل، ووجد محامي منوارتي، الذي انقذه مركب الدفاع الشعبي من الغرق، يبحث مع أفراد الدفاع الشعبي عن جثتي بين أمواج النيل وهو يذرف الدمع السخين على الضيف المسكين الذي غرق في النيل، صاح الشاب في محامي منوارتي: (ياخي الزول البتفتشو لي جنازتو دا قاعد في بيتكم هناك)!

في صباح اليوم التالي جهزت تقرير شفهي عن غرق محامي منوارتي ولد الجزيرة ونجاحي كضيف غريب في عبور النيل في الظلام ونشرته بالعدل والقسطاس بين سكرتيرات مكاتب المحاماة في أرقو فانتشر الخبر بسرعة البرق وعم القرى والحضر، ومنذ ذلك اليوم كنت كلما قابلت محامي منوارتي أقول له (ياخي أنا داير أمشي معاك جزيرة منوارتي) فكان يرد على بحسم: (لا، الليلة أنا ما ماشي منوارتي، الليلة أنا ماشي كرمة)! من المؤكد أن مغامرة جزيرة منوارتي قد وطدت صداقتي بمحامي منوارتي، فبعد مغادرتي لمكتب المحاماة السعودي في الرياض بالمملكة العربية السعودية وذهابي للعمل في دولة قطر، وفي عام 2005 تحديداً وأثناء وجودي في الدوحة القطرية، اتصل بي المحامي السعودي الذي كنت أعمل لديه سابقاً وطلب مني استقدام محامي سوداني شاطر جداً للعمل في السعودية وعندها تذكرت مجازفة عبور النيل في الظلام وتذكرت محامي منوارتي الذي اعتبره ودون أي مجاملة من أذكى وأظرف المحامين السودانيين واتصلت به ومن ثم انتقل من منوارتي الصغيرة للعمل بالمحاماة في المملكة العربية السعودية الكبيرة، يعني غرقو في النيل طلع بي فائدة!

فيصل الدابي/المحامي

menfaszo1@gmail.com
///////////////////

 

آراء