الغوص في المجاري !!
منى أبو زيد
7 October, 2011
7 October, 2011
كتاب الصحف المصرية الذين أقرأ لهم بانتظام أدهشوني عندما تركوا أعمدة مقالاتهم بيضاء، والسبب مبادرة صحفية باسم "الأعمدة البيضاء"، دعا إليها كتاب وصحفيون، احتجاجاً على تدخل السلطة العسكرية في ما تنشره الصحف، بالمصادرة حيناً، ووقف النشر أحياناً آخر ..!
قبل أن يترك كاتبي المفضل "بلال فضل" عموده أبيضاً من غير سوء، كان يُطمئن ثوار مصر بأن وعكتهم صحية إلى زوال، ويحدثنا عن العلل الصحية التي تصيب الثورات عادة، مستشهداُ بمقتطفات من كتاب (روح الثورات) لعالم الاجتماع الفرنسي جوستاف لوبون، ومحذراً كل ثوري محترم من الرضوخ لحكم العسكر ..!
ما يجري في صحافة مصر اليوم، من استعادة دورها المفقود في التأثير على السلطة وفي الشارع، ذكرني بحديث هنريك أبسن، الكاتب المسرحي العظيم عن الفرق بين مقالات أميل زولا ونصوصه هو .. كان أبسن يقول: (زولا يغوص في المجاري ليستحم فيها، بينما أنا أغوص فيها لتنظيفها)، هكذا اختزل بإتقان جوهر الفرق بين دور الصحفي الذي يكتب عن الواقع بصدق، والأديب الذي يحوله إلى فن ..!
وكلما لاح ضوء الصحافة الحرة، ذُكرتْ مقالات زولا الذي عرض مستقبله المهني للخطر عندما كتب مقالته الشهيرة (أني أتهم) والتي كانت رسالة إلى رئيس الجمهورية، نشرتها أهم الصحف الباريسية في صفحتها الأولى، على الرغم من كونها تتهم أعلى قيادات الجيش الفرنسي بمعاداة السامية وتكبيل العدالة، ذلك أنها حكمت على ضابط يهودي بالسجن المؤبد ظلماً بعد أن تم اتهامه زوراً بالتجسس، وقد كان هذا قبل أن تغير مقالة زولا مجرى المحاكمة جذرياً وإلى الأبد ..!
فانقسم الشعب الفرنسي بأكمله بين مؤيد ومعارض، وتم اتهام زولا بالتشهير،وقدم لمحاكمة جنائية، وحكم عليه بالسجن، ففر من البلاد وعاد إليها بعد سقوط الحكومة التي أدانته .!.
وكان من آثار مقالته تلك أن عرضت الحكومة الجديدة على الضابط اليهودي المظلوم عفواً مقابل اعترافه بالذنب أو أن تعاد محاكمته فقبل العفو رغم براءته خوفاً من الإدانة ظلماً من جديد .. لكن الصحافة الحرة أكلمت رسالتها وتمت تبرئة الرجل بعد سنوات من إطلاق سراحه.. وبقيت مقالة زولا في أرشيف الصحافة العالمية شاهداً على دور السلطة الرابعة ..!
وكل هذا جميل .. لولا أن كتاباً جديداً قد صدر في فرنسا قبل بضعة أسابيع، يتناول التحولات الكبرى التي طرأت على الصحافة، ويقول لأصحاب هذه المهنة أنتم مهددون بالجلوس في بيوتكم لأن الصحف لم تعد مصدراً آمناً لأكل العيش ..!
الصحافة – بحسب مؤلف الكتاب، الصحفي ورئيس التحرير السابق – لم تعد وسيلة إعلام جماهيرية بعد أن أصبح الجمهور نفسه هو الوسيلة الإعلامية، فالمواطن اليوم هو مصدر المعلومة وهو وسيلة إيصالها، وهو المتلقي أيضاً، إن لم يكن على صفحات الجرائد ففي عالم الانترنت الذي أصبح لا يصنع الثورات فقط، بل يحرسها أيضاً ..!
منى أبو زيد
munaabuzaid2@gmail.com