الفاقة.. ظاهرة حتمية.. أم متوهمة؟
ناجي شريف بابكر
7 April, 2024
7 April, 2024
ناجي شريف بابكر.. أبريل 7، 2024
يُعرِّفُ إقتصاديو المنشأة أو المايكرو إكونوميكس "الحد المثالي للإنتاج" لدى الوحدات الصناعية بأنه يتمثل في أن تستمر الفابريقة في الإنتاج حتى اللحظة التي تتساوى فيها التكلفة الحدية، وهي الزيادة في التكلفة الكلية التي تحدثها صناعة قطعة إضافية من المنتج" مع السعر أي معدل العائد. ففي إقتصاد المنافسة الحرة معدل العائد يساوي سعر البيع المتاح بالأسواق.. إذ أنه من المفترض في الإقتصاد الحر الذي يخلو من الإحتكار، أن تبقى فيه الأسعار متغيرات مستقلة لا تخضع لسيطرة المنتجين.
لمزيد من التوضيح لهذه الفرضية، يلزمنا أن نعلم أن العملية الإنتاجية في المصانع تتشكل تكلفتها في مدخلات عوامل الإنتاج المستخدمة لإنتاج السلع، كالعمالة البشرية، والوقود والمواد الخام كمدخلات مباشرة للعملية الإنتاجية من جانب، والإتصالات والإيجارات وغيرها من النفقات الإدارية كمنصرفات غير مباشرة من جانب آخر.. مجموع هذه النفقات يمثل التكلفة الكلية للعملية الإنتاجية. فكلما زادت الوحدات المنتجة كلما إحتاج المصنع لمواد خام إضافية بالتالي فإن التكلفة الكلية تتزايد وتتناسب بصفة طردية مع زيادة الكمية المنتجة.
كما أن العائد على العملية الإنتاجية يتمثل في إجمالي الإيرادات التي تحققها المبيعات من السلع المنتجة، وكلما تضاعفت الوحدات المنتجة فمن المنطقي أن يتضاعف العائد من المبيعات.. لكن الحقيقة ليست كذلك طول الوقت.. ففي إقتصاد المنافسة الحرة الخالي من الإحتكار، وعلى الصعيد النظري، فإن المنتجين لا يتحكمون في فرض أسعار منتجاتهم، فهم مقيدون بمعدلات الأسعار المتاحة في السوق، لأن الأسعار كما نعلم تفرضها ديناميكيات العرض والطلب علوا وهبوطا.
كما سبق وأوردنا فيما تقدم، أن التكلفة الكلية تتزايد كلما أقدم المصنع بإنتاج قطعة إضافية من المنتج، لكن بالمقابل فإن الدخل الكلي أو العائد على المبيعات، يتزايد كذلك بمعدل سعر قطعة إضافية واحدة من المنتج تم طرحها بالسوق. وكلما كانت الزيادة الإضافية في التكلفة تقل عن الزيادة الإضافية في العائد، فإن العملية الإنتاجية بخير.. أي أنها تحقق فوائض لصاحب المصنع.. لكن التكلفة الإنتاجية الحدية أي تكلفة القطعة الأخيرة المنتجة لا تتبع نسقا خطيا، فهي تتتبع سلوك دالة من الدرجة الثانية ، أي سلوك منحنى. بحيث أن تكلفة القطعة الإضافية عندما يتقدم الكم المنتج ليقترب من الكم المثالي، فإن التكلفة الكلية تتزايد بمعدلات متراكمة، حتى تصل مرحلة تتعادل فيها التكلفة الحدية، أي تكلفة آخر قطعة منتجة، مع السعر بحيث أن الفائض الدي يحققه عائد البيع للقطعة الواحدة ناقصا تكلفتها الحدية يعادل صفرا.. أي أن الزيادة التي سببها إنتاج تلك القطعة في التكلفة الكلية، أصبح لا يقل عن سعر بيعها كما كان عليه الحال في القطع التي سبقتها في خط الآنتاج.. أي أن العائد الحدي المارجنال ريفنيو قد أصبح يعادل المارجنال كوست، أو التكلفة الحدية.
من هنا يمكننا الإنتباه لحقيقة هامة جدا، وهي أن الإنتاجية القصوى في الإقتصاد الرأسمالي ندرة كانت أم وفرة، لا ترتبط بالضرورة بالطاقات التصميمية القصوى للماكينات.. بل أن الإنتاج يتوقف عند حد معين، لأسباب لا علاقة لها بالسعات الإنتاجية، إنما يتوقف الإنتاج عند النقطة التي تتعادل فيها الزيادة في تكلفة الإنتاج مع الزيادة المتوقعة من العائد إذا ما قمنا بإضافة قطعة جديدة للكم المنتج.. وذلك لأن التكلفة الإضافية لإنتاج قطعة جديدة كاد أن يتجاوز العائد المنتظر من ورائها..وهو سعر البيع.. الذي لا يتحكم فيه المنتجون. ذلك يقودنا لاكتشاف حقيقة هامة جدا.. ذلك إن الكميات المنتجة من السلع والخدمات والمطروحة في إقتصاد ما، هي أقل بكثير من السعات الإنتاجية للماكينات المتوفرة لدى القطاع الصناعي هناك.
وعودا على بدء، فكما أوردنا فإن واحدة من عوامل الإنتاج التي تضيف للتكلفة الكلية لإنتاج السلع والخدمات في إقتصاد ما، تتمثل في أجور العاملين.. وفي غالب الأحيان فإن إنخفاض أجور العاملين ومقاربتها لحد الكفاف، هي المنتج الأساسي للفقر كظاهرة إجتماعية تبعث على القلق على الصعيد الإنساني، لكنها ظاهرة وفق الفلسفة الرأسمالية خارج سيطرة العملية الإقتصادية، لأن الرأسمالي يلزمه أن يتشدد في تكاليف ساعات العمل حتي يتحكم في التكلفة الكلية لعمليته الإنتاجية.. وأنه رغم أن السعات الإنتاجية في الماكينات بإمكانها أن تنتج المزيد من السلع، لكنه يتحكم في الإنتاج وفق حدود معينة حتى لا يتجاوز فيها الحد المثالي للإنتاج "ذي أوبتيمم بروداكشن ليفيل".
لكن ماذا إذا إرتفعت الأجور؟.. هل سيتسبب ذلك في إفلاس القطاع الصناعي؟ لأن المنتجين لا يتحكمون في معدل الأسعار في ظل إقتصاد تسوده المنافسة الحرة "ذا بيرفيكت كومبيتشن".. بالطبع قد يتسبب ذلك في إنفلات التكلفة بلا شك على الأقل في المدى القصير، لكن ماذا عن المدى الطويل والمتوسط. فإن من شأن زيادة الأجور أن تشكل طفرة في الطلب على السلع والخدمات في مستوى الأسعار السابق "أب وورد شيفت إن ديماند كيرف"، فيؤدي الأمر لموجة تضخم تتزايد فيها الأسعار، وفي هده الحالة أسعار السلع الأساسية "إنفيريار قوودز" كالغذاء والكساء، التي تشكل معظم الطلب لدى الطبقات العاملة. لكن طبقات أخرى من المجتمع ستتقاسم هذا العبء التصخمي في سوق الطلب على السلع الإساسية دون أن ترافق ذلك زيادة في دخولهم القابلة للإنفاق خلاف ما عليه الأمر لدى الشغيلة.
من شأن زيادة أسعار المنتجات الأساسية أن تعدل في معطيات منحنى الإنتاج على المدى البعيد والمتوسط، إذ ستزداد التكلفة الكلية بسبب تضاعف بند الأجور، وبسبب إنعكاس التضخم ولو بمعدل أقل، على تكلفة مدخلات الأنتاج، لكن الزيادة في أسعار المنتجات من السلع الأساسية تخلق وضعا إيجابيا في منحنى العملية الإنتاجية، بحيث يسمح الوضع الجديد بزيادة الكم المنتج بكميات تفوق ما كان متاحا في السابق، إذ تنزلق نقطة التعادل ما بين السعر والتكلفة الحدية قليلا إلى اليمين بالتوازي مع المحور السيني، ليتسنى إنتاج سلع أكثر قبل النقطة التي يلتقي فيها مننحنى التكلفة الحدية مع معدل الأسعار. يتيح الوضع الجديد إنتاج المزيد من السلع والخدمات بالتحديد في السلع الأساسية، يتمكن فيه العاملون من الحصول على سلع إضافية بسبب الزيادة في أجورهم تتفوق نسبيا منفعتها على ما أحدثه الأمر من التضخم.. إن من شأن ذلك أن يخفف من الأوضاع القاسية والمعاناة التي تكابدها الطبقات ذات الدخل المتدني.. دون أن يقعد ذلك بالعملية الإنتاجية ودون أن يتطلب نفقات رأسمالية، إذ أن الإنتاج كما أسلفنا لم يتجاوز بعد الطاقات التصميمية لماكينات القطاع الصناعي.
أول نقد سيكون عليّ أن أتوقعه على ما أورته بهذا المنشور ربما يتركز على أن الأعباء التضخمية التي يفرضها هذا المنحى ستغسل كل المكاسب التي تتحقق للعاملين من خلال زيادة القيمة الإسمية لأجورهم، والرد عليه يتمثل في المنطق الذي إستخدمته ورقة كارل ماركس في الرد على سبنسر في ندوة النادي الحغرافي بلندن.. وهي أن مثل هذا النقد يجانب الصواب. لسببين:
أولهما: بالنظر للطبيعة الإستهلاكية للطبقات الأقل دخلا فإن الطلب يتركز بصفة أساسية في السلع الغذائية والمنسوجات، وبالطبع فإن الأثرياء يشاركونهم في إنفاق جزء من دخولهم على السلع الأساسية التي ستقع عليها طائلة التصخم. إن الأثرياء سيشاركون في تحمل عبء ليس بالقليل من الضغوط التضحمية بمقدار نسبتهم المتفوقة في الطلب على السلع الأساسية. بالإضافة لذلك فإن تراجع القيمة الحقيقية لدخولهم القابلة للإنفاق الناتج عن التزايد النسبي لإنفاقهم على السلع الأساسية ربما يساهم في تحجيم الطلب الكلي على الأسواق الأخرى خلاف أسواق السلع الأساسية. وبلغة الإقتصاد البحت فإن التغير المتوقع في التكلفة الحدية للمنتجات من السلع الأساسية، الناتج من زيادة وحدة واحدة في متغير الأجور يُفترض فيه أن يفوق الصفر وأن يقل في نفس الوقت عن الواحد الصحيح. وهذه الجزئية توضح أن العبء الذي تضيفه تعديلات الأجور على محسوبة مدخلات الإنتاج ينعكس برافعة أقل على العملية الإنتاجية.
ثانيهما: أن زيادة أسعار السلع الأساسية ستتسبب في رفع العائد على الإستثمار في القطاع الصناعي المتعلق بإنتاج السلع الأساسية بما يفوق العائد على الإستثمار في خلافه أي في قطاع إنتاج سلع الرفاهية والسلع الرأسمالية، مما يتسبب في زيادة العرض الإئتماني لصالح المنتجين في قطاع إنتاج السلع الأساسية، وبالتالي تراكم الإستثمارات في السلع الأساسية في المدى المتوسط والبعيد بما يتسبب تدريجيا في إزدهار أسواقها وجاذبيتها للعمالة ورأس المال.
إذا ما كان هناك أي إحتمالات لصحة فرضية هذا المنشور، فسيكون عليّ أن أستغل هذه السانحة بأن أعلن أن الفقر والفاقة ليستا ظاهرتان حتميتان في الإقتصاد الرأسمالي، بل أنه بالإمكان تلافيهما والتخفيف من وطأتهما، دون إحداث خسائر باهظة في حق الرأسماليين أو حتى القطاعات الأخرى من الطبقة الوسطى. بل أكثر من ذلك فإن بإمكان ذلك مضاعفة العدالة والسلام الإجتماعي وإتاحة المجال لمجتمعات أكثر تعافيا في حرصها على التوافق والأمن والسلام الإجتماعي.
إنتهى..
nagibabiker@gmail.com
يُعرِّفُ إقتصاديو المنشأة أو المايكرو إكونوميكس "الحد المثالي للإنتاج" لدى الوحدات الصناعية بأنه يتمثل في أن تستمر الفابريقة في الإنتاج حتى اللحظة التي تتساوى فيها التكلفة الحدية، وهي الزيادة في التكلفة الكلية التي تحدثها صناعة قطعة إضافية من المنتج" مع السعر أي معدل العائد. ففي إقتصاد المنافسة الحرة معدل العائد يساوي سعر البيع المتاح بالأسواق.. إذ أنه من المفترض في الإقتصاد الحر الذي يخلو من الإحتكار، أن تبقى فيه الأسعار متغيرات مستقلة لا تخضع لسيطرة المنتجين.
لمزيد من التوضيح لهذه الفرضية، يلزمنا أن نعلم أن العملية الإنتاجية في المصانع تتشكل تكلفتها في مدخلات عوامل الإنتاج المستخدمة لإنتاج السلع، كالعمالة البشرية، والوقود والمواد الخام كمدخلات مباشرة للعملية الإنتاجية من جانب، والإتصالات والإيجارات وغيرها من النفقات الإدارية كمنصرفات غير مباشرة من جانب آخر.. مجموع هذه النفقات يمثل التكلفة الكلية للعملية الإنتاجية. فكلما زادت الوحدات المنتجة كلما إحتاج المصنع لمواد خام إضافية بالتالي فإن التكلفة الكلية تتزايد وتتناسب بصفة طردية مع زيادة الكمية المنتجة.
كما أن العائد على العملية الإنتاجية يتمثل في إجمالي الإيرادات التي تحققها المبيعات من السلع المنتجة، وكلما تضاعفت الوحدات المنتجة فمن المنطقي أن يتضاعف العائد من المبيعات.. لكن الحقيقة ليست كذلك طول الوقت.. ففي إقتصاد المنافسة الحرة الخالي من الإحتكار، وعلى الصعيد النظري، فإن المنتجين لا يتحكمون في فرض أسعار منتجاتهم، فهم مقيدون بمعدلات الأسعار المتاحة في السوق، لأن الأسعار كما نعلم تفرضها ديناميكيات العرض والطلب علوا وهبوطا.
كما سبق وأوردنا فيما تقدم، أن التكلفة الكلية تتزايد كلما أقدم المصنع بإنتاج قطعة إضافية من المنتج، لكن بالمقابل فإن الدخل الكلي أو العائد على المبيعات، يتزايد كذلك بمعدل سعر قطعة إضافية واحدة من المنتج تم طرحها بالسوق. وكلما كانت الزيادة الإضافية في التكلفة تقل عن الزيادة الإضافية في العائد، فإن العملية الإنتاجية بخير.. أي أنها تحقق فوائض لصاحب المصنع.. لكن التكلفة الإنتاجية الحدية أي تكلفة القطعة الأخيرة المنتجة لا تتبع نسقا خطيا، فهي تتتبع سلوك دالة من الدرجة الثانية ، أي سلوك منحنى. بحيث أن تكلفة القطعة الإضافية عندما يتقدم الكم المنتج ليقترب من الكم المثالي، فإن التكلفة الكلية تتزايد بمعدلات متراكمة، حتى تصل مرحلة تتعادل فيها التكلفة الحدية، أي تكلفة آخر قطعة منتجة، مع السعر بحيث أن الفائض الدي يحققه عائد البيع للقطعة الواحدة ناقصا تكلفتها الحدية يعادل صفرا.. أي أن الزيادة التي سببها إنتاج تلك القطعة في التكلفة الكلية، أصبح لا يقل عن سعر بيعها كما كان عليه الحال في القطع التي سبقتها في خط الآنتاج.. أي أن العائد الحدي المارجنال ريفنيو قد أصبح يعادل المارجنال كوست، أو التكلفة الحدية.
من هنا يمكننا الإنتباه لحقيقة هامة جدا، وهي أن الإنتاجية القصوى في الإقتصاد الرأسمالي ندرة كانت أم وفرة، لا ترتبط بالضرورة بالطاقات التصميمية القصوى للماكينات.. بل أن الإنتاج يتوقف عند حد معين، لأسباب لا علاقة لها بالسعات الإنتاجية، إنما يتوقف الإنتاج عند النقطة التي تتعادل فيها الزيادة في تكلفة الإنتاج مع الزيادة المتوقعة من العائد إذا ما قمنا بإضافة قطعة جديدة للكم المنتج.. وذلك لأن التكلفة الإضافية لإنتاج قطعة جديدة كاد أن يتجاوز العائد المنتظر من ورائها..وهو سعر البيع.. الذي لا يتحكم فيه المنتجون. ذلك يقودنا لاكتشاف حقيقة هامة جدا.. ذلك إن الكميات المنتجة من السلع والخدمات والمطروحة في إقتصاد ما، هي أقل بكثير من السعات الإنتاجية للماكينات المتوفرة لدى القطاع الصناعي هناك.
وعودا على بدء، فكما أوردنا فإن واحدة من عوامل الإنتاج التي تضيف للتكلفة الكلية لإنتاج السلع والخدمات في إقتصاد ما، تتمثل في أجور العاملين.. وفي غالب الأحيان فإن إنخفاض أجور العاملين ومقاربتها لحد الكفاف، هي المنتج الأساسي للفقر كظاهرة إجتماعية تبعث على القلق على الصعيد الإنساني، لكنها ظاهرة وفق الفلسفة الرأسمالية خارج سيطرة العملية الإقتصادية، لأن الرأسمالي يلزمه أن يتشدد في تكاليف ساعات العمل حتي يتحكم في التكلفة الكلية لعمليته الإنتاجية.. وأنه رغم أن السعات الإنتاجية في الماكينات بإمكانها أن تنتج المزيد من السلع، لكنه يتحكم في الإنتاج وفق حدود معينة حتى لا يتجاوز فيها الحد المثالي للإنتاج "ذي أوبتيمم بروداكشن ليفيل".
لكن ماذا إذا إرتفعت الأجور؟.. هل سيتسبب ذلك في إفلاس القطاع الصناعي؟ لأن المنتجين لا يتحكمون في معدل الأسعار في ظل إقتصاد تسوده المنافسة الحرة "ذا بيرفيكت كومبيتشن".. بالطبع قد يتسبب ذلك في إنفلات التكلفة بلا شك على الأقل في المدى القصير، لكن ماذا عن المدى الطويل والمتوسط. فإن من شأن زيادة الأجور أن تشكل طفرة في الطلب على السلع والخدمات في مستوى الأسعار السابق "أب وورد شيفت إن ديماند كيرف"، فيؤدي الأمر لموجة تضخم تتزايد فيها الأسعار، وفي هده الحالة أسعار السلع الأساسية "إنفيريار قوودز" كالغذاء والكساء، التي تشكل معظم الطلب لدى الطبقات العاملة. لكن طبقات أخرى من المجتمع ستتقاسم هذا العبء التصخمي في سوق الطلب على السلع الإساسية دون أن ترافق ذلك زيادة في دخولهم القابلة للإنفاق خلاف ما عليه الأمر لدى الشغيلة.
من شأن زيادة أسعار المنتجات الأساسية أن تعدل في معطيات منحنى الإنتاج على المدى البعيد والمتوسط، إذ ستزداد التكلفة الكلية بسبب تضاعف بند الأجور، وبسبب إنعكاس التضخم ولو بمعدل أقل، على تكلفة مدخلات الأنتاج، لكن الزيادة في أسعار المنتجات من السلع الأساسية تخلق وضعا إيجابيا في منحنى العملية الإنتاجية، بحيث يسمح الوضع الجديد بزيادة الكم المنتج بكميات تفوق ما كان متاحا في السابق، إذ تنزلق نقطة التعادل ما بين السعر والتكلفة الحدية قليلا إلى اليمين بالتوازي مع المحور السيني، ليتسنى إنتاج سلع أكثر قبل النقطة التي يلتقي فيها مننحنى التكلفة الحدية مع معدل الأسعار. يتيح الوضع الجديد إنتاج المزيد من السلع والخدمات بالتحديد في السلع الأساسية، يتمكن فيه العاملون من الحصول على سلع إضافية بسبب الزيادة في أجورهم تتفوق نسبيا منفعتها على ما أحدثه الأمر من التضخم.. إن من شأن ذلك أن يخفف من الأوضاع القاسية والمعاناة التي تكابدها الطبقات ذات الدخل المتدني.. دون أن يقعد ذلك بالعملية الإنتاجية ودون أن يتطلب نفقات رأسمالية، إذ أن الإنتاج كما أسلفنا لم يتجاوز بعد الطاقات التصميمية لماكينات القطاع الصناعي.
أول نقد سيكون عليّ أن أتوقعه على ما أورته بهذا المنشور ربما يتركز على أن الأعباء التضخمية التي يفرضها هذا المنحى ستغسل كل المكاسب التي تتحقق للعاملين من خلال زيادة القيمة الإسمية لأجورهم، والرد عليه يتمثل في المنطق الذي إستخدمته ورقة كارل ماركس في الرد على سبنسر في ندوة النادي الحغرافي بلندن.. وهي أن مثل هذا النقد يجانب الصواب. لسببين:
أولهما: بالنظر للطبيعة الإستهلاكية للطبقات الأقل دخلا فإن الطلب يتركز بصفة أساسية في السلع الغذائية والمنسوجات، وبالطبع فإن الأثرياء يشاركونهم في إنفاق جزء من دخولهم على السلع الأساسية التي ستقع عليها طائلة التصخم. إن الأثرياء سيشاركون في تحمل عبء ليس بالقليل من الضغوط التضحمية بمقدار نسبتهم المتفوقة في الطلب على السلع الأساسية. بالإضافة لذلك فإن تراجع القيمة الحقيقية لدخولهم القابلة للإنفاق الناتج عن التزايد النسبي لإنفاقهم على السلع الأساسية ربما يساهم في تحجيم الطلب الكلي على الأسواق الأخرى خلاف أسواق السلع الأساسية. وبلغة الإقتصاد البحت فإن التغير المتوقع في التكلفة الحدية للمنتجات من السلع الأساسية، الناتج من زيادة وحدة واحدة في متغير الأجور يُفترض فيه أن يفوق الصفر وأن يقل في نفس الوقت عن الواحد الصحيح. وهذه الجزئية توضح أن العبء الذي تضيفه تعديلات الأجور على محسوبة مدخلات الإنتاج ينعكس برافعة أقل على العملية الإنتاجية.
ثانيهما: أن زيادة أسعار السلع الأساسية ستتسبب في رفع العائد على الإستثمار في القطاع الصناعي المتعلق بإنتاج السلع الأساسية بما يفوق العائد على الإستثمار في خلافه أي في قطاع إنتاج سلع الرفاهية والسلع الرأسمالية، مما يتسبب في زيادة العرض الإئتماني لصالح المنتجين في قطاع إنتاج السلع الأساسية، وبالتالي تراكم الإستثمارات في السلع الأساسية في المدى المتوسط والبعيد بما يتسبب تدريجيا في إزدهار أسواقها وجاذبيتها للعمالة ورأس المال.
إذا ما كان هناك أي إحتمالات لصحة فرضية هذا المنشور، فسيكون عليّ أن أستغل هذه السانحة بأن أعلن أن الفقر والفاقة ليستا ظاهرتان حتميتان في الإقتصاد الرأسمالي، بل أنه بالإمكان تلافيهما والتخفيف من وطأتهما، دون إحداث خسائر باهظة في حق الرأسماليين أو حتى القطاعات الأخرى من الطبقة الوسطى. بل أكثر من ذلك فإن بإمكان ذلك مضاعفة العدالة والسلام الإجتماعي وإتاحة المجال لمجتمعات أكثر تعافيا في حرصها على التوافق والأمن والسلام الإجتماعي.
إنتهى..
nagibabiker@gmail.com