الفكر.. الغناء وأطياف السلام..! بقلم: إبراهيم جعفر
رئيس التحرير: طارق الجزولي
21 August, 2022
21 August, 2022
قصَّة قصيرة
غارقاً في شيءٍ ما، كان ينظرُ للنّيلِ أمامهُ وكان الصّمتُ يحفُّ المكانَ، ما بعضِ الأصواتِ الهادئةِ التي لا تخلو من النغم الموسيقيّ الهادئِ لطائرٍ يمرحُ بين غصنٍ وآخرْ، عربةٌ تجري على الجّسرِ الذي على بعدِ عدّةِ أمتارٍ منه، اثنان يضحكان ضحكةً ما بعد أن يُشيرُ أحدهما بإصبعهِ إلى شيءٍ ما.. وهو؟!.. ماذا بهِ؟
أصهيلُ الضّوءِ في الأعماقِ انبعث..؟ جاءته فكرةٌ مدهشةْ.. ثمّ قام وذهبَ يتجوّل.. شمّ رائحةَ طعامٍ تفوحُ من مكانٍ ما.. (آهٍ.. تُرى لماذا تبعثُ فيَّ هذه الرائحةُ التقزّز!!).. وصرخ من أعماقِ القلب.. (لماذا نحيا بالطعام.. هذا الشيء الكريه.. لماذا لا نحيا بدونهِ؟.. لماذا؟.. ثمّ (طعام) تمتم.. (ما أسخف هذه الكلمة!).. ثمّ عادَ للنّهرِ.. شعرَ بثِقلِ جسدهِ وشعرَ بكراهيّةٍ شديدةٍ نحو أعضاءِ جسدهِ بدأتْ بأسنانهِ (ويشعرُ أنذه يدري لماذا!).. (آهٍ.. يا أسناناً تذكّرني بأنّي لا أزالُ حيواناً.. محضْ حيوان.. ماذا أفادني الزّمنْ؟ فأنا، مهما طال الزمن، لا أزالُ كما أنا). وشعر بقوّةٍ، وهو ينظر لجسده كمن يراهُ لأوّلِ مرّةٍ، بأنّه حيوان.. انتابتهُ موجةُ حرقةٍ وحزنٍ غريب.. ظهرتْ طفلةٌ اسمها "زهرة".. حملقَ فيها فيها في شوقٍ وبنظراتٍ عميقةٍ وغريبةْ..
ثمّ.. (أريدٌكَ با جسدي أن تذهبَ للجّحيم.. أريدُكَ مصهوراً.. أريدُكَ مقهوراً ومعدوماً..)
ثمّ.. (يا مملكةُ العقلِ الأبديّة، أضُمّكِ في أعماقي..)
نظر إلى حجرٍ خشنٍ مرميٍّ على جانبٍ ما وقربهِ بقايا عظامٍ اكتشف لساعته أنّها لحيوانٍ صغيرٍ لدغهُ ثعبانٌ سامٌّ فماتَ لساعتهِ، كما أخبرهُ أحدُ الناسِ بهدوءِ من لا يكترث.. تساءل:- (ما فائدةَ أن آتي.. ثمّ أحيا.. أفعلُ شيئاً ما.. ثمّ أذهب.. أذهب؟.. لماذا؟! وكيفَ؟! وكيف تنتهي من الإنسانِ رغبةُ آخرٍ في الحياة..!! وهكذا ببساطة، كشيءٍ لا معنى له، أجيءُ وأقذفُ في العالم.. ثمّ أذهب.. ما معنى هذا؟! ولماذا يتمُّ..؟!)
زهرةٌ ما بدت له من بعيد، مزدانةٌ ألوانُها. وجودٌ آخرٌ كانت هي تحيا فيه غيرُ هذا الوجود، بها لونُ البنفسجِ، مُتفتّحةٌ. شعر بشيءٍ من مشاعرِ المحبّةِ تغمر القلب.. ثمّ (الوردة تفتّح نشوانه والزّهرة تناغم جيرانا*) هكذا غنّى.. ما الغناء؟.. (أسراب الغيد اسراب شايلين احباب احباب**). إزداد الشّعورُ الجّميلُ بالتناغمِ مع الكونِ، بالسّلامِ داخلَ نفسهِ.. (يا أطيافُ السّلامِ كيف جئتِ لهذا الإنسانِ الغارقِ في اليأسِ.. كيفَ جئتِ لهُ كالمعجزة؟!)
وانطلق بُغنّي.. بغني.. يُغنّي.. (نُوّار الرّوض يا زينة للكون والدّنيا حزينة***).. (مالي أُبالي بالنهايةِ وقلبي يغنّي.. كفى أنّهُ يغنّي. فليصمتُ الكونَ ويسمع..).
وأدركَ وأتتهُ انتفاضةُ الإدراك، تلك القشعريرةُ الجّميلةُ، تلكَ الرّعشةُ الغامضةُ في القلبِ، وذلك الذهول المُحبّب، ذلك الغيابُ المُحبّب عن العالم..
فكّرَ.. فكّرَ فأدركَ أنّهُ (ليس أعظمَ من القرد).. وهذه هي الجّملةُ التي قفزت إلى رأسهِ وتذكّر أنه، ذاتَ يومٍ ممطرٍ عندما كان في أوّلِ شبابهِ، قد قرأها في كتابٍ لجبران خليل جُبران.
وغنّى.. غنّى (الزّهور بسمت لينا****).. غنّى.. غنّى.. فمن حيثُ لا يدري، كأنّ وحياً كالمعجزةِ هبطَ عليهِ، امتلأ شعوراً ومعنىً واختفى سؤالُهُ (لماذا نحيا؟) خلفَ عتمةِ النّسيان.. غنّى.. غنّى فعاشَ وامتلأ بالمشاعر، امتلأ بالحياة.. كيف بعثَ الغناءُ فيهِ كلَّ هذا؟
ياه.. وانبعثت كلمةٌ كأنّها انحفرت في فؤاده كان قد قرأها في قطعةِ ورقٍ صغيرةٍ، التقطها من الارض وهو يمرُّ بشارعٍ ما، مُهملةً كالنّفاية.. لاينظر إليها أحد.. وتعجّبَ (كيف لا ينظر إليها أحد وفيها هذه الكلمة!)
وانبعثت كلمةٌ واضحةٌ، واثقةٌ، مرتعشةٌ، رائعةٌ لا يدري كيف كانت لا تزالُ تحيا بداخله وهو كان يخشى أن ينساها:- يخشي أن ينساها تحت ضغط العالمِ والأحداث:- (الغناء للإنسان هو المخرج).. نعم هكذا..! (الغناء للإنسان هو المخرج). نعم، غنّيتُ فازدهرتْ. (غنّيتُ فاغتنيتْ)..
هكذا همس بقلبِ عرفَ الصّحوَ، وعرفَ الإشراقَ، وعرِفَ، قبلَ ذلكَ، الحزن الجميلَ وعرف الدهشةَ فكانَ حيَاً.. وهمسَ (غنّيتُ فاغتنيتُ). ثمّ قام سائراً بلا هدف (يمشي في اللّيلِ بلا وجهةٍ)، يحدّقُ في الزّهرِ طويلاً.. طويلا..
وفي النّجمِ طويلاً.. طويلا!..
وفي النّهر طويلاً.. طويلا!..
.. (غنّيتُ فاغتنيتْ..)
هكذا همسَ، وهكذا كان يهمسُ ويهمس.
يناير 1977م
حاشية:-
* و ** و*** من أغنية للفنان السوداني صلاح مصطفى.
**** من أغنية للفنان السوداني أحمد الجابري.
khalifa618@yahoo.co.uk
غارقاً في شيءٍ ما، كان ينظرُ للنّيلِ أمامهُ وكان الصّمتُ يحفُّ المكانَ، ما بعضِ الأصواتِ الهادئةِ التي لا تخلو من النغم الموسيقيّ الهادئِ لطائرٍ يمرحُ بين غصنٍ وآخرْ، عربةٌ تجري على الجّسرِ الذي على بعدِ عدّةِ أمتارٍ منه، اثنان يضحكان ضحكةً ما بعد أن يُشيرُ أحدهما بإصبعهِ إلى شيءٍ ما.. وهو؟!.. ماذا بهِ؟
أصهيلُ الضّوءِ في الأعماقِ انبعث..؟ جاءته فكرةٌ مدهشةْ.. ثمّ قام وذهبَ يتجوّل.. شمّ رائحةَ طعامٍ تفوحُ من مكانٍ ما.. (آهٍ.. تُرى لماذا تبعثُ فيَّ هذه الرائحةُ التقزّز!!).. وصرخ من أعماقِ القلب.. (لماذا نحيا بالطعام.. هذا الشيء الكريه.. لماذا لا نحيا بدونهِ؟.. لماذا؟.. ثمّ (طعام) تمتم.. (ما أسخف هذه الكلمة!).. ثمّ عادَ للنّهرِ.. شعرَ بثِقلِ جسدهِ وشعرَ بكراهيّةٍ شديدةٍ نحو أعضاءِ جسدهِ بدأتْ بأسنانهِ (ويشعرُ أنذه يدري لماذا!).. (آهٍ.. يا أسناناً تذكّرني بأنّي لا أزالُ حيواناً.. محضْ حيوان.. ماذا أفادني الزّمنْ؟ فأنا، مهما طال الزمن، لا أزالُ كما أنا). وشعر بقوّةٍ، وهو ينظر لجسده كمن يراهُ لأوّلِ مرّةٍ، بأنّه حيوان.. انتابتهُ موجةُ حرقةٍ وحزنٍ غريب.. ظهرتْ طفلةٌ اسمها "زهرة".. حملقَ فيها فيها في شوقٍ وبنظراتٍ عميقةٍ وغريبةْ..
ثمّ.. (أريدٌكَ با جسدي أن تذهبَ للجّحيم.. أريدُكَ مصهوراً.. أريدُكَ مقهوراً ومعدوماً..)
ثمّ.. (يا مملكةُ العقلِ الأبديّة، أضُمّكِ في أعماقي..)
نظر إلى حجرٍ خشنٍ مرميٍّ على جانبٍ ما وقربهِ بقايا عظامٍ اكتشف لساعته أنّها لحيوانٍ صغيرٍ لدغهُ ثعبانٌ سامٌّ فماتَ لساعتهِ، كما أخبرهُ أحدُ الناسِ بهدوءِ من لا يكترث.. تساءل:- (ما فائدةَ أن آتي.. ثمّ أحيا.. أفعلُ شيئاً ما.. ثمّ أذهب.. أذهب؟.. لماذا؟! وكيفَ؟! وكيف تنتهي من الإنسانِ رغبةُ آخرٍ في الحياة..!! وهكذا ببساطة، كشيءٍ لا معنى له، أجيءُ وأقذفُ في العالم.. ثمّ أذهب.. ما معنى هذا؟! ولماذا يتمُّ..؟!)
زهرةٌ ما بدت له من بعيد، مزدانةٌ ألوانُها. وجودٌ آخرٌ كانت هي تحيا فيه غيرُ هذا الوجود، بها لونُ البنفسجِ، مُتفتّحةٌ. شعر بشيءٍ من مشاعرِ المحبّةِ تغمر القلب.. ثمّ (الوردة تفتّح نشوانه والزّهرة تناغم جيرانا*) هكذا غنّى.. ما الغناء؟.. (أسراب الغيد اسراب شايلين احباب احباب**). إزداد الشّعورُ الجّميلُ بالتناغمِ مع الكونِ، بالسّلامِ داخلَ نفسهِ.. (يا أطيافُ السّلامِ كيف جئتِ لهذا الإنسانِ الغارقِ في اليأسِ.. كيفَ جئتِ لهُ كالمعجزة؟!)
وانطلق بُغنّي.. بغني.. يُغنّي.. (نُوّار الرّوض يا زينة للكون والدّنيا حزينة***).. (مالي أُبالي بالنهايةِ وقلبي يغنّي.. كفى أنّهُ يغنّي. فليصمتُ الكونَ ويسمع..).
وأدركَ وأتتهُ انتفاضةُ الإدراك، تلك القشعريرةُ الجّميلةُ، تلكَ الرّعشةُ الغامضةُ في القلبِ، وذلك الذهول المُحبّب، ذلك الغيابُ المُحبّب عن العالم..
فكّرَ.. فكّرَ فأدركَ أنّهُ (ليس أعظمَ من القرد).. وهذه هي الجّملةُ التي قفزت إلى رأسهِ وتذكّر أنه، ذاتَ يومٍ ممطرٍ عندما كان في أوّلِ شبابهِ، قد قرأها في كتابٍ لجبران خليل جُبران.
وغنّى.. غنّى (الزّهور بسمت لينا****).. غنّى.. غنّى.. فمن حيثُ لا يدري، كأنّ وحياً كالمعجزةِ هبطَ عليهِ، امتلأ شعوراً ومعنىً واختفى سؤالُهُ (لماذا نحيا؟) خلفَ عتمةِ النّسيان.. غنّى.. غنّى فعاشَ وامتلأ بالمشاعر، امتلأ بالحياة.. كيف بعثَ الغناءُ فيهِ كلَّ هذا؟
ياه.. وانبعثت كلمةٌ كأنّها انحفرت في فؤاده كان قد قرأها في قطعةِ ورقٍ صغيرةٍ، التقطها من الارض وهو يمرُّ بشارعٍ ما، مُهملةً كالنّفاية.. لاينظر إليها أحد.. وتعجّبَ (كيف لا ينظر إليها أحد وفيها هذه الكلمة!)
وانبعثت كلمةٌ واضحةٌ، واثقةٌ، مرتعشةٌ، رائعةٌ لا يدري كيف كانت لا تزالُ تحيا بداخله وهو كان يخشى أن ينساها:- يخشي أن ينساها تحت ضغط العالمِ والأحداث:- (الغناء للإنسان هو المخرج).. نعم هكذا..! (الغناء للإنسان هو المخرج). نعم، غنّيتُ فازدهرتْ. (غنّيتُ فاغتنيتْ)..
هكذا همس بقلبِ عرفَ الصّحوَ، وعرفَ الإشراقَ، وعرِفَ، قبلَ ذلكَ، الحزن الجميلَ وعرف الدهشةَ فكانَ حيَاً.. وهمسَ (غنّيتُ فاغتنيتُ). ثمّ قام سائراً بلا هدف (يمشي في اللّيلِ بلا وجهةٍ)، يحدّقُ في الزّهرِ طويلاً.. طويلا..
وفي النّجمِ طويلاً.. طويلا!..
وفي النّهر طويلاً.. طويلا!..
.. (غنّيتُ فاغتنيتْ..)
هكذا همسَ، وهكذا كان يهمسُ ويهمس.
يناير 1977م
حاشية:-
* و ** و*** من أغنية للفنان السوداني صلاح مصطفى.
**** من أغنية للفنان السوداني أحمد الجابري.
khalifa618@yahoo.co.uk