الكرون والطاعون، والموت الزؤام

 


 

 

 

 

تخيّم علي كوكب الأرض سحب داكنة مرعبة، تنذر بشر مستطير كالذي تجشّمته البشرية إبان الفيضانات التسونامية النوحية، وإبان جوائح الطاعون plague، وإبان الحروب الكونية. ولعل البعض يتساءل مهموماً بالموت المحدق بنا كأنه أمر جديد، مع أنه فوق الرقاب منذ الأزل، او كما قال الكاتب الفرنسي الوجودي ألبير كامو: "الموت صنو للحياة، بمثابة عقوبة بالإعدام يحملها الإنسان علي عاتقه منذ مولده، ولا مفر من تنفيذها طال الزمن أم قصر". والذين يتساءلون عن سر الموت، مثل وليام شكسبير قبل أربعة قرون، إنما يردد لسان حالهم كلمات البارد (شكسبير): " Aye,
but to die,
And go we know not where;
To lie in cold obstruction
And to rot!
فتلك هي العقدة والعجب العجاب.
بيد أن الشاعر دكتور جونسون الذي جاء بعد شكسبير بنيف وقرن تناول الموت ببعد فلسفي روحي أكثر عمقاً، مؤكداً أنه سبيل الأولين والآخرين، ولا مفر منه، فلتتجمّل النفس باليقين ورباطة الجأش:
Yet, hope not life from grief or danger free,
Nor think the doom of man revers’d for thee.

ومن هذا المنطلق، كتب البير كامو روايته "الطاعون The Plague" عام 1947 بعيد نهاية الحرب الكونية الثانية، ومسرحها ميناء وهران الجزائرية التي لم يكن بها طاعون آنئذ، رغم أنه تغشّاها في القرن التاسع عشر أيام الاحتلال الإسباني السابق للفترة الاستعمارية الفرنسية، وهي ميناء تعج بالفئران دائماً وأبداً، ولقد مرت عليها العديد من الوبائيات مثل الكوليرا.
غير أن الطاعون المجازي الذي عشعش في مؤخرة دماغ الكاتب هو الاستعمار الاستيطاني الفرنسي الفاشي الفظ، وكان ألبير كامو مثقفاً تقدمياً متفاعلاً مع المضطهدين، عاش في الجزائر وعمل محرراً بصحيفة مناهضة للاستعمار، (مثله مثل فرانتز فانون الكاتب الطبيب الفرنسي من أصول إفريقية الذي ولد وترعرع بجزر المحيط الأطلسي، صاحب " The Wretched of the Earth"). ولما اندلعت الحرب العالمية الثانية ذهب كامو لفرنسا وانخرط في المقاومة السرية بقيادة الجنرال شارل ديقول ضد الاحتلال النازي؛ وما أن وضعت الحرب أوزارها حتى عاد لوهران حيث دبّج روايته المذكورة التي أكسبته جائزة نوبل، وفيها يتحدث عن "عبثية الحياة" عبر سرده ليوميات جائحة الطاعون الافتراضي virtual الذي هبط علي وهران، وأهلها بين مصدّق ومكذّب؛ فتعامل الأغنياء مع الوباء في بادئ الأمر بسخرية وصلف واستخفاف باعتباره مرض الفقراء حصرياً، ولكن بعد هنيهة تساوى الناس جميعاً كصرعى لهذا الداء الوبيل، فارتفعت وتائر التضامن والانفعال بهموم الآخرين، إذ أن المصائب يجمعن المصابين؛ واكتشف شخوص الرواية أن الوت حق قبل وأثناء وبعد الوباء، واستوعبوا الحقيقة الوجودية: إن القيمة الوحيدة الجديرة باهتمامهم هي الصمود ومقاومة البلاء، أي عدم الاستسلام، ومداومة النضال، أياً كانت النتائج. وبالطبع، لا يؤمن كامو بالقدر ولا باليوم الآخر، ولم يخرج من تجربة الطاعون المتخيّل بدروس ميتافيزيقية كدكتور جونسون، ولكنه توصل إلي أن الشيء الوحيد الذي يستحق أن تعيش من أجله هو الثبات والمعافرة ضد انفلات الطبيعة، أو قهر الأنظمة الاستبدادية والفاشية والإمبريالية.
ولقد قفزت هذه الرواية لذهني بعد نصف قرن من قراءتها، إذ أننا نمر بظروف مماثلة لوهران خلال ذلك الطاعون المزعوم؛ ومصيبتنا الحالية ليست من خيال أديب متفلسف، ولكنها حقيقة وجودية شاخصة، تهددنا بالموت الذي يتربص بنا في كل يوم وكل لحظة؛ وترى الناس، مثلما كانوا في وهران، بين مصدق ومكذب ومستهتر وصاحب غرض ومغرور جاهل، وذلك مما سيفاقم الكارثة لا محالة، في ظل المستشفيات البائسة الخاوية، والعجز الضارب في جذور الدولة الكسيحة المعطوبة التى ورثت الحكم من نظام شمولي فاشي دمر البلاد وصيّرها قاعاً صفصفاً وصحراء بلقعاً.
ولكن ما يبعث على الأمل هو قوى الثورة، خاصة جيل الشباب الراكب راس الذي تشرّب الوطنية من خلال معركته الصفرية مع النظام البائد، حتى بلغ أربه الأساس وهو اقتلاعه من جذوره، متمنطقاً بعقيدته الراسخة بأن النضال ضد الظلم والقهر، ضد انفلات الطبيعة أو قهرالأنظمة الاستبدادية، هو قيمة قائمة بذاتها، وتستحق التضحية بالنفوس - التي هي أصلاً ودائع مؤقتة من رب العالمين، كما قال المتنبي: (فالموت آت والنفوس نفائس، والمستعزّ بما لديه الأحمق.)
أوكما قال محمد مهدي الجواهري: (تقحّم، لعنت، فما تشتهي؟ أإلي جدث لم يكن يفضله بيتك المعدم؟) وتلك شبه ترجمة لمقولة كارل ماركس: (إن الكادحين لا يملكون ما يخافون من فقدانه إلا الأغلال التي يرتدونها).
ولقد شكلت كل هذه الرؤي الخيط الرفيع الذي وحّد بين الجماهير الثائرة بكل أصقاع السودان منذ ديسمبر 2018 حتى الآن؛ وثورة بهذا الزخم والتمدد الجغرافي والتنوع الإثني والعنفوان والبعد الصوفي الفلسفي والإصرار والرجولة السودانية المحضة، عصية على الانكسار، وسوف تهزم الكورونا، وستنتصر علي فلول الثورة المضادة وحلفائها المحليين والإقليميين الشامتين الطامعين، وسوف تخرج من كل هذه الأوحال كالسبيبة من العجين، بلا شق او طق. والسلام.

fdil.abbas@gmail.com

 

آراء