اللعب بالنار!! «1» … بقلم: الطيب مصطفى

 


 

الطيب مصطفى
8 November, 2010

 

زفرات حرى

لا أدري ماذا أقول، فقد جفَّت حلوقنا وألسنتنا وبُحّ صوتنا ونفد مدادنا أو كاد ونحن نؤذن في مالطا السودان التي ترفض أن تستبين النصح بالرغم من أن الله الرحيم يرسل إليها النذير تلو النذير لعلها تنتصح قبل فوات الأوان.
يأتي النذير هذه المرة من منطقة الزمالي الحدودية في ولاية سنار التي اعتدى عليها الجيش الشعبي ودخل أرض الشمال واشتبك مع القوات المسلحة السودانية يوم السبت الماضي بالرغم من أن تلك المنطقة ليست من المواقع الخمسة الملتهبة التي يثور الجدل حولها ورغم ذلك ترفض الحركة ترسيم الحدود قبل الإقدام على الاستفتاء وتوافق الحكومة التي تعلم تمام العلم أن موافقتها تعني وضع عود الثقاب المشتعل على برميل من البارود شديد الانفجار.
إذا كان ذلك هو الحال في منطقة ليست محل نزاع ولا يزال الجنوب والشمال تابعين «اسمياً» لدولة واحدة اسمها السودان فكيف يصير الحال عندما تنفصل الدولتان بدون أن ترسَّم حدودهما ويعلم شعباهما إلى أيٍّ منهما يتبعان؟!
إن الموافقة على الاستفتاء قبل الترسيم تعني إعلان الحرب ولا أدري والله لماذا الاستهانة بهذا الأمر وتسليم أمريكا التعهدات المكتوبة بأن الترسيم لن يكون شرطاً للاستفتاء؟!
ثمة نقطة أخرى لماذا يا تُرى لا تحرص الحركة على ترسيم الحدود بينما يطالب المؤتمر الوطني على استحياء بالترسيم ولماذا يكون التنازل دائماً ومنذ نيفاشا هو قدر الوطني والفوز بالغنيمة من نصيب الحركة؟!
أهم من هذا وذاك... لماذا ياتُرى تختلف قيادات المؤتمر الوطني حول هذه القضية الخطيرة بين صقور يرفضون الانصياع لضغط الإدارة الأمريكية تجنباً لحرب طاحنة يمكن أن تنجم عن الاستفتاء قبل إجراء ترسيم الحدود وحمائم تستهين بهذا الأمر وتعطي التعهدات المكتوبة لأمريكا بموافقتها على الاستفتاء بدون أن تشترط الترسيم؟! ما هو وقْع خبر النزاع الحدودي في سنار على هؤلاء الذين يقبضون الآن على زمام الأمور ويُمسكون بملفات التفاوض حول أبيي وبقية القضايا العالقة بما فيها ترسيم الحدود والمواطنة؟!
بربكم ما الذي يجعل المؤتمر الوطني يختار الحمائم في مواجهة باقان أموم أكثر صقور الحركة الشعبية عناداً ومكراً وحقداً على الشمال وشعبه؟!
إن مما يفقع المرارة أن من يتحاورون مع باقان أموم يصدقون الرجل عندما يجلس إليهم ويخدِّرهم بكلام معسول يقول فيه بأن الحركة تقدِّر التنازلات التي قدَّمها البشير للحركة بانسحابه من الجنوب بالرغم من أنه لم يكن مهزوماً!! ثم يصدقون مرة أخرى عندما يقول إن «سقوط المؤتمر الوطني لن يؤدي إلى انهيار الشمال بينما يؤدي سقوط الحركة الشعبية إلى انهيار دولة الجنوب»!! ذلك القول الذي فطر قلوب «الناس الحُنان» وجعلهم «ينبهلون» في تقديم التنازلات رأفةً بالحركة وباقان أموم!!
بمكر وخداع و«بلطجة» قام باقان بعدها بالانتقال من أبيي التي ما انعقد اللقاء إلا من أجلها بعد أن رفض كل توسلات محاوريه من المؤتمر الوطني ليحدثهم بعد أن ألان قلوبهم «الحنينة» ليحدثهم عن جنوبيي الشمال الذين لا حول لهم ولا قوة فما كان من محاوريه إلا أن استحسنوا «كلامه السمح» على حد تعبير أحد المفاوضين بالرغم من أنه لم يقدم لهم كلمة طيبة حول أبيي التي صار الضيوف من دينكا نوك هم أهل المنزل بينما صار أهل البيت هم الغرباء الذين يسعون لاستعطاف الدينكا ليمنحوهم الحق في التصويت!! إنها نيفاشا التي لا تنقضي عجائبُها!!
تحدث هذا الأخ الذي شرح لنا جلسة الحوار مع باقان وأشهد بأنه رجل طيب يتحلى بأخلاق رفيعة وتدين عميق لكن متى كانت هذه هي المؤهلات المطلوبة في المفاوضين خاصة ممن يحاورون رجلاً في شراسة وغدر ومكر وحقد شيطان رجيم مثل باقان؟!
إنها نفس الروح التي أفضت إلى نيفاشا.. الروح التي تتحدث عن أن نيفاشا حققت السلام للشمال وأوقفت نزيف الحرب لكن هؤلاء ينسون أن نيفاشا أوقفت نزيف الدم بذات القدر بالنسبة للجنوب بعد أن نقلت الحركة وجيشها الشعبي إلى الشمال وهما اللذان كانا عاجزين عن دخول مدن الجنوب الكبرى كما نقلت القوات المسلحة السودانية إلى الشمال بعد أن أخلت الجنوب تماماً للحركة وجيشها الشعبي!!
هؤلاء الطيبون يحسنون الظن بباقان ويقولون إن كلامه «سمح» بالرغم من أنهم يعلمون ما ينطوي عليه من حقد جعله يقول قبل شهرين إنهم «سيحطمون الشمال» بل إن الرجل هو نذير الإثنين الأسود وكان مع عرمان أكثر المشاكسين طوال الفترة الانتقالية وهل نسي الناس حصار المجلس الوطني ومقاطعة مجلس الوزراء وقيادة المعارضة والعمل ليل نهار من أجل إسقاط نظام المؤتمر الوطني وإقامة تحالف جوبا وغير ذلك من الكيد الذي حفل به تاريخ الرجل الذي هدد قبل سبعة أشهر من توقيع نيفاشا بأنها ستقضي على دولة الجلابة بما يعني أنها ستُفضي إلى قيام مشروع السودان الجديد الذي يستهدف هُوية هذه الأمة ودينها وشريعتها.
تساءلت قبل قليل.. لماذا تختلف قيادات المؤتمر الوطني حول هذه القضايا؟! خذ مثلاً بروف إبراهيم غندور الذي لا حول له ولا قوة بالرغم من أنه الأمين السياسي للمؤتمر الوطني.. غندور حتى الأمس القريب يحذر من إجراء الاستفتاء قبل ترسيم الحدود بينما من يُمسكون بالملفات من وراء ظهره يكتبون التعهدات ويقدمون المواثيق لأمريكا بأن الاستفتاء قائم في موعده!!
سأعرض لما قاله غندور مرة أخرى لكن قبل ذلك دعونا نضحك قليلاً، ضحك الموجوع المهرود الكبد، فقد حملت إلينا الأنباء أن أوباما جدَّد العقوبات على السودان «الشمالي» عاماً آخر!!
هل تعلمون بماذا ردت وزارة الخارجية؟!.. اقرأوا بربكم فقد قالت: «لا فُض فوها» «الإدارة الأمريكية تفتقر للإرادة السياسية والشجاعة الكافية التي تمكِّنها من اتخاذ قرار حاسم بشأن الإسهام الإيجابي في دفع القضايا السودانية باتجاه الحل»!!
إذا كان ذلك رأي الحكومة السودانية في الإدارة الأمريكية فلماذا إذن قال قائلها إن الإدارة الأمريكية ستفي هذه المرة بوعودها بإلغاء العقوبات الأمريكية؟! ثم لماذا تسمح لمبعوث أوباما بأن «يبرطع» في السودان كما لو كان حاكماً عاماً على البلاد ويرفض مقابلة رئيس الجمهورية؟!.. مبعوث الرئيس الأمريكي يرفض مقابلة الرئيس السوداني بالرغم من أن مدخله إلى السودان ينبغي أن يكون من خلال رئيس البلاد!!

اللعب بالنار!! «2»
استدعينا في مقال الأمس اعتداء الجيش الشعبي على منطقة الزمالي بولاية سنار يوم السبت الماضي بالرغم من أنها ليست من المناطق الحدودية الملتهبة التي يدور حولها التفاوض لنقول إن إجراء الاستفتاء قبل ترسيم الحدود عبارة عن لعب بالنار وإيذان بتجدد الحرب ليس من منطقة واحدة كما هو حال نزاع الهند والباكستان حول منطقة كشمير التي تشبه إلى حد كبير مشكلة أبيي. وتساءلنا عن السبب في عدم توحد الرؤية في القضايا الجوهرية والمصيرية داخل الحزب الحاكم بين صقور مبعدين بالرغم من أن الظرف السياسي لا يقتضي غير الصقور الجوارح وحمائم «طيبة» هي التي تتولى اليوم أمر تقرير مصير الشمال وتجلس إلى الشيطان باقان وإلى داعميه من الأمريكان الذين استخدموا مع هذه الحكومة كل أسلحة الدمار الشامل من ترهيب وإذلال وإهانة بلغت درجة استخدام العصا التي ظلوا يهشّون بها على «أغنامهم» فتتمايل يميناً ويساراً في ذلة وانكسار.
بربكم هل من استفزاز أكبر من أن تنصب أمريكا مبعوثاً من لدنها يأمر وينهى ويقابل من يشاء متى شاء ويترفع عن مقابلة رئيس الجمهورية بالرغم من أنه مبعوث رئاسي؟! كيف نسمح لهذا المخلوق وغيره من المسؤولين الأمريكان أن يقابلوا موظفي الرئيس ويعزلوا الرئيس داخل حرم الرئيس؟! أما كفانا إهانة عزلهم للرئيس من اللقاءات الخارجية؟! كيف نتيح لأمريكا ولغيرها أن «تبرطع» داخل أرضنا بهذه الطريقة ولا نشعر ــ مجرد شعور ــ بأن في هذا انتقاصًا لسيادة البلاد؟! ما هو الفرق بين غرايشون وجون كيري ودانفورث ووليامسون وبريمر الذي حكم العراق بعد الغزو الأمريكي للعراق؟!
إنني أسأل أولاً المجاهدين أصحاب الشهيد علي عبدالفتاح: أين أنتم يا من كنتم تواجهون أمريكا بخيلها وخيلائها وتقهرون الأعداء القادمين من تلقاء الشرق والجنوب وتمنعون قرنق من أن يطمع ــ مجرد طمع ــ في عاصمته جوبا التي دخلها بعد ذلك عن طريق التفاوض بل دخل الخرطوم فاتحاً في أول معركة يحقق فيها العدو نصراً بلا حرب بعد أن كان مهزوماً مقهوراً.
أين نحن اليوم والأنجاس يجوسون خلال الديار من أيام العزة تلك التي كنا نتغنى فيها ونتحدى: «الطاغية الأمريكان ليكم تدربنا» تلك الأناشيد التي سخر منها أحد المفاوضين من حمائمنا في لقاء جمعهم قبل أيام بالقطاع الصحي بالمؤتمر الوطني؟!
لقد أضحى رضا أمريكا فردوساً أعلى بالنسبة لبعضنا نلهث في سبيله ونُذل ونُهان ونحبو ونتضرع ونتهجد... أشرك بعضُنا أمريكا بالله العزيز حتى ظنوا أن عندها مفاتح الغيب وأنه ما يكون من نجوى ثلاثة إلا وهي رابعتهم ولا خمسة إلا وهي سادستهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا وهي معهم أينما كانوا وأن سعادة الدنيا والآخرة لا تتحقق إلا برضاها وأن رفع عصاها عنا يستحق أن نبذل له كرامتنا ونمرِّغ له أنفنا في التراب!!
يحدث ذلك بالرغم من أنها لم تُخفِ عداءها لنا وظلت تُلحق بنا الإساءة وتهدِّدنا من داخل أرضنا وتأمرنا وتوجِّهنا وها هي تعلن على رؤوس الأشهاد أنها تجدِّد العقوبات عاماً آخر فماذا بقي للحمائم الذين منّونا بأن أمريكا «جادة هذه المرة»!!
لماذا تصر أمريكا وابنتها المدللة الحركة الشعبية على إجراء الاستفتاء بدون أن تُرسَّم الحدود بالرغم من علمها أن ذلك يعتبر قنبلة موقوتة بل أكثر؟! لماذا يُفصل بين دولتين لا أحد يعرف حدودهما.. دولتين تضمر إحداهما الشر للأخرى مستعينة بدول لا يشك «حمار» في أن لديها أجندة شريرة تجاه الشمال؟! بل لماذا تحشر أمريكا نفسها حتى في ازدواجية المواطنة ويطالب مبعوثُها ومن الخرطوم في نفس اليوم الذي جدّدت فيه عقوباتها بأن يُمنح الجنوبيون حق الإقامة في الشمال بالرغم من علمه أن ذلك يعتبر سابقة لم تتكرر في التاريخ؟!
اقرأوا بربكم مانشيت صحيفة الحركة الشعبية والحزب الشيوعي «أجراس الحرية» يوم الثلاثاء الماضي: «غرايشون يطالب الخرطوم بعدم انتزاع حق المواطنة من الجنوبيين حال الانفصال»!!
بربكم من الذي أعطى هذا الحقير الحق في أن يطالب بما طالب به ولمصلحة من ولماذا يريد ذلك وبأي وجه أو مبرر يفعل؟!
من تُراه جرّأ هؤلاء الأنجاس علينا غير تخاذلنا وانكسارنا وهواننا على أنفسنا؟! من تُراه نزع منا مجرد الشعور بأن كرامتنا تُهدر وسيادتنا تُنتهك وعزتنا تُمرَّغ في التراب؟! أين نحن اليوم وكيف كنا قبل نيفاشا؟!
هل تعلمون أن «أجراس الحرية» صدرت قبل عدة أشهر «قبل الانتخابات» بمانشيت يقول إن جيندي فريزر مساعدة وزيرة الخارجية للشؤون الإفريقية أيام الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن صرحت بأن أحد من يتولون التفاوض اليوم ــ وأشارت إلى اسمه صراحة ـ هو رجل أمريكا في السودان؟!
دعونا لا نصدقها.. لكن ألا ينبغي أن نأخذ حذرنا ونستبعد ـ لمجرد الشك ـ من ثار حوله كلام؟!
بربكم ما الذي جعل حواء السودان تعقم لدرجة أن نفس الوجوه التي ورّطتنا في نيفاشا التي نطعم من زقومها اليوم هي التي تتولى أمر التفاوض من جديد مع أمريكا بل إن بعضهم ثار على الترابي وقاد مذكرة العشرة التي شقَّت الإسلاميين وجعلت بأسهم بينهم شديدًا حتى فَجَروا في الخصومة واستخدموا المحرمات ضد بعضهم البعض وخرج بعضهم على المسلمات وبات يستعين بالشيطان في سبيل القضاء على الآخر وكانت بداية الكارثة التي تفتك بالإنقاذ اليوم.. قاد تلك المذكرة بحجة انعدام الشورى التي لا تعني في عُرفه إلا أن يكون هو و«الشلة» من يقررون مصير السودان والأجيال القادمة من قبل نيفاشا وحتى اليوم وإلى يوم القيامة!!
لقد فقدنا البوصلة عندما أشركنا أمريكا بالله وجعلنا «رضوانها» هو الغاية حتى لو تبوّلت على رؤوسنا وركنّا إلى رضاها لا إلى رضا الله العزيز الجبار وأصبحنا نسارع فيها نقول نخشى أن تصيبنا دائرة.
إن الأمر بيد الرئيس فهو الوحيد الذي بمقدوره أن يستعيد البوصلة ويوجهها الوجهة الصحيحة وآن الأوان لأن ننتصر لكرامتنا ونغلق الباب في وجه أمريكا ومحبي أمريكا بالداخل فوالله لن تزيدنا إلا خبالاً فماذا بربكم ننتظر منها وقد جددت العقوبات علينا؟! ماذا ونحن نعلم بل نوقن أنها ليست محايدة بيننا وبين الحركة الشعبية بعد أن أعلنت عن ذلك صراحة وأنها لن تُكسبنا عافية؟!
سؤال أخير... ما الذي يصيبنا لو قمنا اليوم بطرد المبعوث الأمريكي واتجهنا إلى الله القوي طالبين منه النصرة؟! هل تعلمون قرائي الكرام أن خطاب أوباما الذي جدَّد فيه العقوبات قال: إن «السودان يهدد الأمن القومي الأمريكي»؟!
 

 

آراء